الأحد، 2 مارس 2014

الرمز الأسطوري : المفهوم والوظيفة مدخل في مكانة الأسطورة وأهميتها

  الرمز الأسطوري : المفهوم والوظيفة مدخل في مكانة الأسطورة وأهميتها
نظراً للامتداد والشمولية التي تأخذها الأسطورة في الآداب العالمية فإنّ تباينا شديداً فرض نفسه في تحديدها كمصطلح ابستيمولوجي من جهة، وعلاقة هذا المصطلح بمصطلحات أخرى تتناص معه، في مفهومها من جهة أخرى . وقلما يتفق باحثان حول مفهوم محدد للأسطورة ، فمنهم من يراها خرافة،و منهم من يراها حقيقة ، ومنهم من لايفرق بينها وبين التاريخ، وبينها وبين الخرافة، ومنهم من يراها محض أكاذيب، ومنهم من يرى أنّ لها امتداداً في حقل الواقع. وآخر يرى أنّ الشخصية التاريخية التي كان لها دورها الإنساني في صنع التاريخ والدفاع عن بني البشر تصبح مع الصيرورة التاريخية رؤية أسطورية وحالة جمالية تفوق حدّ التخييل . إنّ الاختلاف في تحديد ماهية الأسطورة وبواعثها ومكوّناتها أدّى إلى إخضاعها إلى مناهج فكرية عديدة تعاملت معها وفسّرتها ، وقد خضعت هذه المناهج بدورها لنزعات الرؤية الفردية ذات الاتجاهات المتباينة في التطرف والاعتدال ، والعلمية والغيبية . يقول الباحث الفرنسي كلود ليف )ستراوس(:الأسطورة : حكاية تقليدية ، تلعب الكائنات الماورائية أدوارها الرئيسية.
 ومنهم من يرىالأسطورة : قصة مجازية تخفي أعمق المعاني أو أنها قصة رمزية تعبر عن فلسفة كاملةلعصرها. ويرى مؤلفي كتاب ( نظرية الأدب: رينيه ويليك و أوستن وارين ) أنالأسطورة : حكاية مجهولة المؤلف تتحدث عن الأصل والعلة والقدر، ويفسر بها المجتمعظواهر الكون والإنسان تفسيراً ، لا يخلو من نزعة تربوية تعليمية
فالأسطورة هي الجزء الكلامي المصاحب للطقوس البدائية حسب رأي كثير من الباحثين ، وبعضهم يؤكدون أن الطقس أسبق من الأسطورة ، وقد احتفظ التراث الشعبي بكثير من العناصر الأسطورية والطقوسية ، والحكاية الخرافية والشعبية صيغة متطورة عن الأسطورة تحت تأثير صنعة القاص ، وتعد الأساطير أقدم مصدر لجميع المعارف الإنسانية. إذ تعدّ قصة خيالية. وترتبط بالظواهر والكوارث الطبيعية وتفسيرها. فقد تصور الأولون المطر إله يصب الماء من إناء بالسماء والريح له إله ينفخها بمراوح والشمس إله لأنها تضيء الكون وتشعل النيران. و تتكون من عناصر واقعية إذا نظر إليها مستقلة ولكنها لا تبدو مترابطة واقعيا إذا نظر إلى تلك المكونات جملة واحدة. الأسطورة هي ترجمة لكلمة Legendالتي تعني أنها قصة متوارثة تتعلق بالقدّيس  وهناك من يفرق بينها وبين Mythباعتبار أن هذه الأخيرة تعني الخرافة.
تعد الأساطير حكايات مقدسة لشعب أو قبيلة بدائية وتراثا متوارثا ولها صلة بالإيمان والعقائد الدينية. كما تعبر عن واقع ثقافي لمعتقدات الشعوب البدائية عن الموت والحياة. ومن خلال الملاحم تروي الشعوب روايات عن أجدادها وحروبهم وانتصاراتهم ورواية السير الشعبية الملحمية؛ لهذا لا تعد الأساطير تاريخا يعتمد عليه لأنها مرويات خرافية من صناعة الخيال. فالإنسان البدائي لم يكن يشغل عقله لتفسير الظواهر الطبيعية. وقد ظهرت الأساطير القديمة لدى البابليين والفراعنة والرومان والإغريق.
العلم المختص بدراسة الأساطير هو علم الميثيولوجيا أو علم الأساطير Mythologia، وكلمة ميثولوجيا تستعمل للتعبير عن إنتاج معين لخيال شعب من الشعوب في شكل حكايات وروايات تُتناقل جيلا بعد جيل. وتُسمى هذه الروايات والحكايات عند الإغريق "ميثوي Mythoi" ومعناها "ألفاظ وكلمات". وبالرغم من أن كلمة ميثولوجيا لا تعني أكثر من "قص الحكايات" إلا أنها تستعمل الآن لتدل على الدراسة المنظمة للروايات التقليدية لأي شعب من الشعوب أو لكل الشعوب بقصد معرفة الطريقة التي تمَّت بها حتى أصبحت رواية تُروى، وإلى أي مدى كان الاعتقاد بها، وكذلك بقصد حل المشكلات الأخرى المتعلقة بها مثل علاقتها بالدين، وأصولها، وعلاقتها بروايات أخرى لشعوب أخرى .
حاول عدد من الباحثين تفسير نشأة الأساطير والتعرف على بدايتها وأسباب ظهورها على كيفيات وأنساق معينة، ومن أبرز هؤلاء الباحثين جيمس فريزر (James Frazer)في كتابه الغصن الذهبي وإدوارد تيلور(Edward Burnett Tylor)  كتابه الثقافة الفطرية Primitive Culture  وهما يريان أن كلمة الأسطورة ترتبط ببداية الإنسانية حيث كان البشر يمارسون السحر ويؤدون طقوسهم الدينية التي كانت سعيًا فكريًّا لتفسير ظواهر الطبيعة.
ويرى توماس بوليفينشي في كتابه ميثولوجيا اليونان وروما وجود أربع نظريات في أصل الأسطورة، وهذه النظريات هي : النظرية الدينية التي ترى أن حكايات الأساطير مأخوذة كلها من الكتاب المقدس مع الاعتراف بأنها غُيِّرت أو حُرِّفت، ومن ثَمَّ كان هرقل اسما آخر لشمشون، والمارد ديوكاليون ابن بروميثيوم الذي أنقذه زيوس مع زوجته من الغرق فوق أحد الجبال هو نوح، وهكذا. النظرية التاريخية : التي تذهب إلى أن أعلام الأساطير عاشوا فعلا وحققوا سلسلة من الأعمال العظيمة ، ومع مرور الزمن أضاف إليهم خيال الشعراء ما وضعهم في ذلك الإطار الغرائبي الذي يتحركون خلاله في جو الأسطورة. النظرية الرمزية: وهي تقوم على أن كل الأساطير بكل أنواعها ليست سوى مجازات فُهمت على غير وجهها الصحيح أو فُهمت حرفيًّا، من ذلك ما يقال عن أن ساتورند يلتهم أولاده أي الزمن يأكل كل ما يوجد فيه. النظرية الطبيعية : وبمقتضاها يتخيل عناصر الكون من ماء وهواء ونار في هيئة أشخاص أو كائنات حية، أو أنها تختفي وراء مخلوقات خاصة. وعلى هذا النحو وجد لكل ظاهرة طبيعية ابتداء من الشمس والقمر والبحر وحتى أصغر مجرى مائي كائن روحي يتمثل فيه وتنبني عليه أسطورة أو أساطير.أجمع الدارسون لعلم الأساطير , أي المثالوجيا , على الطابع الاعتقادي والإيماني للأسطورة , مع ما يحمله ذلك من قداسة . تقول أديث هاملتون الاختصاصية في الأساطير الإغريقية : " إن الأسطورة ما هي إلا تعليل لإحدى الظواهر الطبيعية مثل كيفية خلق هذا الشيء أو ذاك في الكون , كالناس والحيوانات , والأشجار , والشمس , والقمر والنجوم والزوابع , وباختصار كل ماله وجود , وكل ما يقع في هذا الكون الفسيح . والأساطير ما هي إلا العلم القديم , وهي نتاج محاولات الإنسان الأول لتعليل كل ما يقع تحت بصره وحسه "  أما بارتيه فقد عرّف الأسطورة في كتابه " علم الأساطير" بأنها أقدم لغة وطريقة للاتصال , من حيث كونها قول تلقائي بلغة سائغة بين عناصر اجتماعية معينة , ولهذا فأنها مجهولة الهوية , والأصل , غامضة التاريخ والمكان. والأسطورة بهذا المعنى تكتسب قداستها من كون أبطالها آلهة , وشبه آلهة , ومن قوة الاعتقاد بهذه الآلهة , وبأفعالها , وأقوالها , وإن كانت قد توارت من الذهن الجمعي للناس بعد ظهور الأديان السماوية الثلاث والفلسفات الوضعية الحديثة , وتطور العلوم الإنسانية والطبيعية , إلا أنه لازال لبعض الاعتقادات والعادات والطقوس الأسطورية سطوتها على أذهان البعض , ومن هنا تتبدّى تقليدية الأسطورة بانتقالها من جيل إلى جيل , بالرواية الشفهية , مما يجعلها ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمتها وعاداتها وطقوسها وحكمتها , وتنقلها للأجيال المتعاقبة وتكسبها القوة المسيطرة على النفوس .
تتعدد الآراء حول مفهوم الأسطورة وتختلف وجهات النظر فيها ومرد هذا إلى أن كل باحث في الأسطورة كان ينظر عليها من زاوية معينة ويقتصر على رؤية محددة فكان كل دارس يحدد مفهومها من خلال هذه النظرة وتلك الرؤية حتى أصبحت الآراء فيها تشكل خلافاً جوهرياً لا يمكن الجمع بينها والتوفيق بين تناقضاتها. فحين يرى بعضهم: أن الأساطير نتاج صبياني وأوهام وخيال مشوش، نجد آخرين يعدونها واحدة من أعمق منجزات الروح الإنسانية التي لم يفسدها الفحص العلمي ولا العقلية التحليلية . وقد حاول بعض الباحثين أن يربط بين الأسطورة والجانب الديني والفكري فيها حين عدّها ( مرحلة بدائية من مراحل التفكير الميتافيزيقي، وأول تجسيد للأفكار العامة) .
   وقد حظيت الأسطورة في الحضارة الغربية بمكانة بارزة وفي المنجزات الأدبية على وجه الخصوص فالأسطورة دعامة فكرية يستند إليها الدارسون عند البحث في شتى فروع المعرفة من علوم وآداب وفنون وأديان ويمن ملاحظة ذلك من خلال الاهتمام البالغ الذي يوليه الباحثون للأسطورة   وكما تاه الباحثون في محاولتهم في إعطاء تحديد واضح المعالم لهذه الكلمة ، فأنهم تباينوا تباينا شديدا في تفسير علة وجودها وسبب نشأتها
      ويرى البنيويون أن الأسطورة مسألة جدلية بين ما هو ملموس وهو غير ملموس ورأوا فيها قدرة على تقريب المعنى من خلال دقة تقريبية في الشكل الملائم لأنها توجد نظاما توليديا يساعد على الإبداع ، وعلى الرغم أن عالم الأساطير ارتحل عن ديارنا إلا أن الحاجة إليه تظل ماسة تماما مثل أحداث التاريخ التي مضت ، فالناس يدرسون الماضي ليتعلموا منه ما ينفعهم في حاضرهم ، فالعودة إلى التاريخ هي عينها العودة إلى الأساطير ؛ لذا يتفق البنيويون على أن الأسطورة مثل التاريخ ؛ كلاهما يتكون من علامات تكشف أمام القارئ طرق التفكير من خلال البنية التي تتبع فاعليتها عندما يحصل التماس مع العالم الخارجي. 
 
المعنى العربي لكلمة أسطورة :
 أولاً: الأسطورة في المفهوم الديني :
 وردت الأسطورة في تسع مواضع من كتاب الله العزيز بصيغة الجمع مضافة إلى كلمة الأولين على لسان الكافرين والمنافقين والمنكرين للقرآن وإنكار البعث وهذا يدل على مفهوم مهم للأسطورة ببوصفها أكاذيب وأباطيل قالت بها الأمم السابقة .».  وقد استعمل القرآن الكريم لفظة الأساطير فيما لا أصل له من الأحاديث ، إذ وردت في قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوْا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِيْن}. وفي قوله: {وَقَالُوْا أَسَاطِيْرُ الأَوَّلِيْنَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيْلاً}.
 ثانياً: الأسطورة في اللغة :
     الأساطير هي الأحاديث التي لا نظام لها واحدتها إسطارٌ وإسطارة بالكسر وأسطورة بالضم ، يقال : سطر فلان عليين بسطر إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل أي أنه يؤلف ما لا أصل له .لا تعطي معاجم اللغة العربية المدلولات الحقيقية لكلمة الأسطورة؛ فالأساطير في هذه المعاجم هي «الأحاديث التي لا نظام لها» وهى «الأباطيل والأحاديث العجيبة» و«سطر تسطيرا ألف وأتى بالأساطير»، والأسطورة هي «الحديث الذي لا أصل له »
    بهذا نخرج بأن المفهوم اللغوي لا يختلف عن المفهوم الديني للأسطورة ، بل يبدو أن المعنى  اللغوي استند في معطياته إلى المفهوم الديني إذ أجمع المفسرون على أن الأساطير أكاذيب وأباطيل  .
ثالثا: الأسطورة في الاصطلاح:
والواضح من خلال النظر في كتابات الباحثين عن الأسطورة والمعاجم التي تفسر وتشرح للقارئ مضمونها أن الأسطورة قائمة على الخلط والمزج بين الدين والسحر، والتاريخ، والعلم، والخيال، والحلم، والحقيقة الواقعة ومن هنا عرفها بعضهم بأنها:( حكاية عن كائنات تتجاوز تصورات العقل الموضوعي)وهذا التجاوز للتصور العقلي ناتج عن تلك الخلطة العجيبة التي قامت الأسطورة على أساسها.وقد يتساءل البعض ما الذي أعطى هذه الحكايات الأسطورية هذه الأهمية في الأدب مع ما فيها من سذاجة وتناقض ومخالفة للعقل والمنطق؟ إن الإجابة سهلة حين نعلم أن الأسطورة مرتبطة بالدين والاعتقاد لدى أصحابها ،  ويصف الدكتور عبد الرضا علي الأسطورة  بأنها : الوعاء الأشمل الذي فسر فيه البدائي وجوده ، وعلل فيه نظرته إلى الكون ،محدداً علاقته بالطبيعة ، من خلال علاقته بالآلهة التي اعتبرها القوة المسيرةوالمنظمة والمسيطرة على جميع الظواهر الطبيعية ، وتعاقب الفصول ، والليل والنهار ،والخصب والجفاف ، مازجاً فيها السحري بالديني ، وصولاً إلى  تطمين نفسه ووضع حدلقلقه و أسئلته الكثيرة .إنها أسلوب لشرح معنى الحياة والوجود صيغ بمنطق عاطفي كاديخلو من المسببات ،امتزج فيها الدين بالتاريخ ، والعلم بالخيال ، والحلم بالواقع)(وكان البطل الأسطوري إلهاأو ابن إله أو شبه إله ، وهذا يدل على أن أدوات الإنسان التقنية كانت قاصرة ، وغيرمؤدية للغرض ، مما أضطر الإنسان إلى أن يصوغ نموذجه البطولي على غرار الآلهةالمقتدرين ، الذين يمكنهم التحكم في هذا العالم فقد صورت الآلهة من خلال سماتإنسانية بحتة .و الأسطورة: شكل من أشكال التعبير يجمع بينالفكر والخيال والوجدان، وأداته الرمز، وان الشكل السردي أحد أشكال الأسطورة لاغير. و يرى البعض أن الأسطورة كالشعر تفقد قيمتها إذا ترجمت في حين يقول آخرون أنقيمة الأسطورة تظل قائمة رغم أسوأ أنواع الترجمة في كل أنحاء العالم ، لأن كنهالأسطورة لا يكمن في أسلوب صياغتها ، ولا نمط سردها ، ولا في تركيبها النحوي ، بلفي التاريخ الذي ترويه)
 فالأساطير هي أحاديث تفتقر إلى النظام ، وهي جمع الجمع للسطر الذي كتبه الأولون من الأباطيل والأحاديث العجيبة ، وسطر تسطيرا تعني أنه ألف وأتى بالأساطير . والأسطورة هي الأقوال المزخرفة المنمقة ، واستعملت كلمة الأساطير في القرآن الكريم لتعني الأحاديث المتعلقة بالقدماء " قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إن هذا إلا أساطير الأولين " أي مما سطروا من أعاجيب الأحاديث وكذبها . وفي القرآن الكريم " وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " . أما الخرافة فهي من خرف أي فسد عقله ، والخرافة هي الموضوعة من حديث الليل المستملح ، و( خرافة ) اسم رجل من قبيلة عذرة ، استهوته الجن فكان يحكي ما رآه ، فكذبوه ، وقالوا : ( حديث خرافة ) ، أو( حديث مستملح كذب ) ، ولم تذكر هذه الكلمة في القرآن الكريم 
وظيفة الأسطورة :
      الأسطورة ليست مصدرا لصور مشابهة للعالم الواقعي بل هي وظيفة في طبيعتها تقدم لنا صورة بنية العقل الإنساني وهو يمارس نشاطه " أي خلق معادل موضوعي للأدب وعلاقته بالحياة بين النواحي العقلية والاجتماعية في حياة الإنسان مما يساعد بدوره على إيجاد وحدة نفتقدها في أنفسنا من جهة ، ومن العالم الخارجي من جهة أخرى وهذا هو الذي يضع حدا لتناقضات التي تعايشنا في حياتنا 
      ويبدو أن إحدى وظائف الأسطورة هي ربط الطاقة التي تنفث القلق غير المحتمل للوصول إلى عواقب اجتماعية مرغوبة وذلك يعني أن للرمز والأسطورة وظائف نفسية ذات أهمية بالغة وخاصة في العملية الإبداعية 
      وهي شكل من أشكال الوعي الاجتماعي يمثل حصيلة ذهنية لجهود جماعية لم تكن قد امتلكت بعد القدرة على التفكير الفلسفي النظري ؛ فهي تجسد نظرة المجتمعات القديمة إلى العالم الذي يشمل الكون والمجتمع والعلاقة التفاعلية بينهما في صيغة رمزية شاعرية .
الأسطورة من الوضع إلى الرمزية :
      تمثل الأسطورة محاولات الإنسان الأولى التي تلمس فيها الطريق نحو العثور على هويته وقد اتخذ الأدباء منها وسيلة للتعبير عن مواقفهم إزاء الكون بكل أبعاده خالعين على رؤيتهم ظلالا أسطورية فالأديب لا يعيد كتابة الأسطورة كما هي بل يعيد بناءها من  جديد ويكسوها بثوب غير الثوب البدائي ؛ فهي جزء من الرمز ومصدر من مصادره ؛ والترميز بالأسطورة لا يأتي اعتباطا بل هو نابع من فعل واع يمكن الأديب من التعبير عن موقفه بشكل إيحائي فيه معنى خفي .
        وقد انتقلت الأسطورة إلى مرحلة الرمز وهو أن يتحدث الشاعر عن نفسه وعن وطنه من خلال نموذج أسطوري أو تاريخي يتخذه قناعا ؛ ليعطي لفنه بعد هذا الإحيلء بالعودة إلى الأساطير ، وبعد الموضوعية حيث يبعد عن تلقائية القصيدة الغنائية التي تترجم بصورة مباشرة عن الذات الشاعرة.
       إذن تخرج الأسطورة عن معناها الوضعي وتولد من جديد فتظهر لها دلالات جديدة مستوحاة منها ، وإن الشعر يستعمل الأسطورة ليرمز بها ويخلق منها صورة ما ورائية أو عجائبية ، فالرمز الأسطوري " تجسيد شعوري حيوي لكلية المشاعر في تجربة ما أريد منه تكثيف التجربة الإنسانية وتعميمها والإيحاء بظلالها في الوقت الذي يعجز أي أسلوب آخر عن أداء ذلك"
 
الأسطورة في الشعر
       استغل الأديب المعاصر هذه الأساطير وضمنها أدبه بعد أن تعرف عليها وفهم مضامينها حين نشر السير جيمس فريزر كتابه (الغصن الذهبي) الذي يعد المصدر الأول للأساطير في أدب هذا العصر، حيث أصبح منهلاً عذباً يرد عليه الشعراء وينهلون من معينه واجدين فيه ما يعينهم على بث أفكارهم ونشر آرائهم والتعبير عن عقائدهم ومواقفهم السياسية ومجابهة الواقع المعاش دون أن يتحمل أحدهم أدنى مسؤولية في مواقفه وآرائه تلك؛ لأن الأسطورة تقوم على مقام الرموز المركزة التي تثري التجربة الشعرية، وتمدها بالدماء، وتبث في عروقها الحياة. وعندما ننظر إلى بدايات استعمال الأسطورة وتوظيفها في العمل الشعري عند شعراء العربية نجدها بدايات ضعيفة باهتة لكنها في الوقت نفسه مهمة لأنها فتحت للشعراء مجالاً خصباً وطريقاً واسعاً للإفادة من هذه الأساطير المتعددة [.
ومن الملاحظ أن مدى تأثيرها كان شديداً في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر،
و يكاد يكون معظم الشعراء العرب المعاصرين قد استفادوا منها، و وظّفوها في أعمالهم الإبداعية، إذ قلما نجد شاعراً عربياً معاصراً ـ و بخاصة جيل الرواد ـ إلا و استفاد من الأسطورة رمزياً و إشارياً، و استطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيوية، تفاوتت بين الاستعمال الإبداعي، و الاستعمال الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم و مواهبهم، و كيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري. ويعد أصحاب مدرسة الديوان (العقاد و المازني) ومدرسة أبولو من أوائل من ضمن الأسطورة في أشعارهم، لكنه كان تضميناً بارداً لا يثير القارئ الذي يعيش في واقعٍ محتدم بالصراعات السياسية والفكرية المختلفة، ولا يثري واقع الحياة، ولا التجربة الشعرية عندهم . فقد كان استعمالهم للأسطورة قائماً على عرضها وتعريف القارئ بها، وإعادة صياغة قصتها، أو الإشارة العابرة لها والإفادة منها في تركيب الصورة الجزئية عند طريق التشبيه التقليدي .
وللقارئ الكريم أقدم مثالاً من استعمال الأسطورة عند العقاد حيث يقول في قصيدة بعنوان (ذكرى الأربعين) نظمها في تأبين سعد زغلول:
يتهـادى  بينهم  في  وقفـةٍ       يقف  الملك  لها   والمالكون
إنه (زوس) على الوادي مشى       يشهد الأرض سماء الخالدين
 
فقد وظف أسطورة (زوس) كبير الآلهة عند الإغريق - في زعمهم الفاسد - وحاكم مملكة السماء عند طريق تشبيه سعد زغلول به. وهذا توظيف بارد وباهت؛ لأنه قائم على مجرد التشبيه دون التوظيف المثري للتجربة الشعرية. إنه تشبيه تقليدي عرف في الشعر العربي منذ عصوره الأولى حيث لم يختلف إلا اسم المشبه به. ولا فرق أن نشبه الممدوح بحاتم، أو قس، أو صلاح الدين،أو غيرهم من الشخصيات المعروفة في التاريخ العربي، أو أن نستبدله بشخصية أسطورية.
أولاً :الرمز الأسطوري في الشعر العربي المعاصر:
 استعمل شعر الحداثة الأساطير لاسيما أساطير الانبعاث لما تحمله من قدرات تنفيسية  ، فهي تمح الشاعر أملا بالخلاص من مشكلة ما لأنها" تمتلك بنية خيالية عميقة تكون فكر الأسطورة وعمل الأسطورة مثل عمل الحلم وهو أن يحول هذه الخيالات إلى شكل مقبول للأنا وللذات يصنع المحتوى الظاهر للأسطورة مثل الحلم من عناصر مأخوذة من الحياة اليومية وخبرات الشعوب وتختلف الأسطورة عن الحلم فيما يختص بالجماعة الاجتماعية في أنها تمتلك شكلا خارجيا ممتدا للتعديل مع مرور الزمن ويخضع بالتالي لتنوعات مختلفة 
      لجأ الشاعر العربي إلى توظيف الرمز الأسطوري في شعره ليطبقه على عصره الذي أخذ بالانهيار والتداعي ليحقق حالة الحلم الذي يرتكز على معطيات الماضي التي تتمثل بأساطير الانبعاث ، ومن الحقائق المسلم بها أن توظيف الأسطورة في الشعر يتطلب من الشاعر جملة من الأمور التي يجب أن يتسم بها فيجب أن يكون على قدر من الثقافة والفهم العميق والذهنية المتفتحة حتى يتمكن من الغوص في تراث وآداب الأمم الأخرى ؛ وإن كان الشاعر يجيد اللغات الأجنبية فذلك سيمهد له الاطلاع على تراث هذه الأمم بلغاتها الأصلية ؛ وكان من الطبيعي أن تتسم محاولات الرواد الأولى بالتوظيف البدائي ؛ ذلك لأن الشاعر " لم يكن لديه انتباه إلى الأسطورة كفكر إنساني ...ولأنه لم يدرك بأنه إنسان آخر وفي زمان آخر ؛ لهذا لم تكن ثقافته ومدركاته تسمح له بالنظرة إلى الأسطورة بطريقة تبدو أكثر عمقا وتفتحا ... بل لعله لم يفهم بشكل دقيق الذي كان يقصد إليه الشاعر الأوربي " وهذا طبيعي إذ لم يكن لهؤلاء الشعراء تراثا في هذا المجال سواء في النماذج التقليدية القديمة أو الحديثة ما عدا بعض النماذج لبعض الشعراء الذين اعتمدوا اللمعة العابرة التي لا تخلو من أخطاء إلا أنها تعد نماذج أولية في التوظيف الأسطوري
      أما بعد أن اطلع الأدباء والشعراء على الآداب الأوربية وثقافاتها وتأثروا بعلمائها وأدبائها فمنهم من أخذ يقلد ومنهم من استطاع أن يوظف الرمز الأسطوري في شعره لاسيما وأن آمال شاعر الحداثة كانت مقموعة  وممتلئة بالخوف والقلق فالشاعر العربي اتخذ الرمز الأسطوري أداة تعبيرية لمعاناة فكرية نفسية ...فقد وجد في ذلك متنفسا لآلامه وآماله الحبيسة التي جسدها في الأحداث التاريخية ؛ إذ توغل الرمز الأسطوري في شعره بعد أن أدرك ما في هذا التوظيف الدلالي من قيمة فنية يتقمصها حتى يستطيع التوفيق بين توظيف الرمز الأسطوري والمحتوى الدلالي الذي يحمله هذا الرمز.
    وقد برز عدد كبير من الشعراء ومنهم الشاعر خليل حاوي الذي ابتعد عن الذاتية المغلقة وتعد قصيدته ( بعد الجليد ) من أولى القصائد التي ساهم بها في ترسيخ التجربة الأسطورية في الشعر العربي الحديث فقد استعمل الشاعر الرموز الجنسية المألوفة في الأساطير القديمة فالأرض تحن إلى الاتحاد بالذكر وهو تموز؛ وهو إله بعل ميت منبعث واهب للحياة:
كيف ظلت شهوة الأرض
تدوي تحت أطباق الجليد
شهوة للشمس ، للغيث المغني
للبذار الحي ، للغَلّة في قبوٍ ودنِّ
للإله البعل ، تموز الحصيد ،
شهوة خضراء تأبى أن تبيد.......
 
      إن القول بجوهر الأسطورة في شعر الحداثة غالبا ما ينهض من اعتبارها شكلا من أشكال الوعي وشكلا من أشكال التصوير الفني إن هناك توحيد بين الوعي الشعري الحديث وبين الصورة الفنية والأسطورة فالشعر الحديث لا يمكن عزله عن الأسطورة حتى في تناوله للواقع إذ أن الواقع ينبغي أن يكون مؤسطرا في الشعر والحقيقة أن الشعر الحديث غالبا ما رأى في الأسطورة حاملا موضوعيا لتجاربه وتصوراته الشعرية
ثانياً : الرمز الأسطوري في الشعر العراقي المعاصر:
     تعد قضية الرمز والأسطورة إحدى الانجازات الهمة في القصيدة العراقية الحديثة ،ومع تزايد اهتمام الشعراء بتوظيف الأساطير والرموز في أعمالهم ؛ ولأن الأسطورة هي فكر الإنسان ، وتجربته الكبيرة في مرحلة من مراحل تكوينه فإنها تمتلك القدرة على الحضور الدائم ، أو التجدد المستمر والالتقاء بتجارب الإنسان في مختلف العصور ؛ لذا فعودة الشاعر إلى الينابيع الأسطورية ليست حلية جمالية بقدر ما هي عامل أساسي يساعد الإنسان المعاصر على اكتشاف ذاته وتعميق تجربته ، ومنحها بعدا شموليا وضرورة موضوعية قادرة على النهوض بالرؤى والأفكار المعاصرة ، وعلى هذا الأساس فإن الأبطال الأسطوريين سيفقدون داخل النتاج الأدبي شيئا من هويتهم الذاتية ويتوحدون مع الجنس البشري عموما فهي تنقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري
        ولعل التوظيف للرمز الأسطوري جاء في بادئ الأمر بشكل بدائي وهو أن الرمز مشبه به ؛ لكن مع هذا فإن هناك إفادة من الرمز ـ الرمز الأسطوري ـ ومع كل ما يمكن أن يقال عن عيوب هذا التوظيف فإنه كان فهما أوليا لتوظيف الأسطورة في الشعر وخطوة قادت الشاعر العراقي الحديث إلى نمط من الاستعمال أكثر غنى وأهمية ؛ ذلك أنه بدأ يدرك أن إيراد الأسطورة كحادثة جاهزة لم يعد مقنعا ولا هدفا يستطيع أن يرضي تطلعات الشاعر الواعي ؛ فبدأ ينظر إلى الأسطورة على أنها المادة الخام الأولية والضرورية التي يمكن أن تشيع في البناء الشعري كله ومضى الشاعر إلى ما هو أبعد فأصبح الشاعر يستخلص الدلالة الشاملة لأسطورة ، وأصبح يعيد توظيف الأسطورة بحرية تامة وعفوية شعرية مقتدرة .
     ولعل أبرز الشعراء الذين وظفوا الأسطورة في شعرهم ، الشاعر (بدر شاكر السياب )ونذكر جزءا من قصيدته  ( مدينة بلا مطر ) ، حيث يبدأ الشاعر بتصوير مدينة بابل التي هي العراق أو هي الأمة كلها ، راسما لتلك المدينة صورة أسطورية ، يقول في مفتتح قصيدته :
مدينتنا تؤرق ليلها نار بلا لهب
تحمُّ دروبها والدور ، ثم تزول حّماها
ويصبغها الغروب بكل ما حملته من سحب
فتوشك أن تطير شرارة ويهب موتاها
 
      يقول الدكتور محسن اطيمش " إن الصورة التي شكلها الشاعر لهذه المدينة ، هي صورة أسطورية ... أعني أن قدرته على إثارة الإحساس بالغرابة والرعب إنما توحي للقارئ بأن هذه المدينة تنتمي إلى عالم الأساطير وليس الواقع أو أنها لشد ما هي واقعية تبدو لنا أسطورية ...وهذه المدينة التي تجثم عليها النار هي بابل المدمرة التي تعاني الوحشة لأن تموز إله الخصب والحب ميت ومدفون فيها ، وهي بغداد التي تنتظر المطر ، وفجر الثورة ، غير أن تموز أوشك أن يصحو من نومه ليعود إلى مدينته الخضراء ... وتبرز لنا مهارة الفنان الكبير وقدرته على شحن الأبيات بكل ما يوحي بالأجواء الأسطورية " ومن خلال توظيف الأساطير والرموز الدينة يصور الحالة المأساوية التي كانت  تعيشها الملايين بعيد ثورة 1958  . فنعدما حل المطر – الثورة خيّل للجياع أن ( عُشتار ) ربة الخصب أطلقت الربيع مكللا بالثمر ، وأن ( المسيح ) عاد يهبالحياة للناس ويبرأ الأبرص والأعمى،لكن من الذي أطلق الذئاب تنهش فيلحوم البشر؟ . السياب لا يتهم الثورة ، بل يؤمن أن المطر الذي جاء يحمل الخير كله، لكنهيتهم نفراً من المنحرفين الذين شوهوا حقيقة الثورة، وسودواصحيفتها البيضاء الناصعة بالعنف الفوضويوهم الذين مزجوا المطر بالدمالقاني:
خُيّـل للجياع أنَّ ربة َ الزهر ،
عُـشتارُ ، قد أعادتِ الأسيرَ للبشر ،
وكللتْ جبينـَهُ بالثمر ،
خيل للجياع أن كاهلَ المسيح
أزاح عن مدفنه الحجر
فسار يبعثُ الحياة َ في الضريح
ويُبرىءُ الأبرصَ أو يجددُ البصر
من الذي أطلق من عقالها الذئاب ؟
من الذي سقى من السراب ؟
وخبّـأ الوباءَ في المطر ؟  
 
 فمن المنحرفين ( قابيل ) ينتزع الحياة من رمم الأرض ، و( يهوذا ) الخائن الذي وشي بمكان السيد المسيح عاث بالثورة فساداً ، وقلب بياضها سواداً ، وأمطارها فيضاناً من الدماء فغدت المدينة أطلالاً لا حياة فيها . أ هذه بابل تشيد من الرؤوس  جنائنها المعلقة ؟ :
                                  أ هذه مدينتي ؟ جريحة ُالقباب
                                  فيها يهوذا أحمرُ الثياب
                                  يُـسلـّـط الكلاب
                                  على مهود أخوتي الصغارِ ِ . . . والبيوت ،
                                  تأكلُ من لحومهم . وفي القرى تموت
                                 عُـشتار  عطشى ، ليس في جبينها زهر ،
                                 وفي يديها سلّـة ٌ ثمارُها حجر    
                                 تـُـرجَمُ كلُ زوجةٍ به . وللنخيل
 في شطها عويل
          وحين يعود ( جنكيز ) إلى بغداد -  ساحقاً بجواده كل الرؤوس ، مجرياً أنهاراً  من الدم ، ناشراً الجوع والموت - يسأل الشاعر في قصيدة ( رؤيا عام 1965 ) الله الرحمة ، ويصرخ بالسماء أن تمطر مطراً ساحقاً ماحقاً، ثورة ً تحرق الأشياء لتطهر الأرض بالعنف  من العنف:
 
                                                      ماذا جنى شعبي ؟
 
                                                      حلـّت به اللعنة
 
                                                          من زاده المحنة ،
 
                                                      رُحماكَ يا ربي 
 
                                                      من مائه الديدان
 
                                                      من لبسه الأكفان
وإن يكن نيران .
 
وأثمري أثمري
 
وإن يكن ثعبان .
 
       
                             
 من طيره الغربان
                               ينقـُرنَ في قلبي .
                               واليومُ في بيدري
                                      لم يـُبقِ من حبي
                                   ...   ...   ....
                                           فأمطري أمطري
 
          ويستعمل الشاعر أسطورة ( أتيس ) بشكل فيه الكثير من الدقة في الإيحاء  والجمال في التوظيف. ( أتيس ) هو الإله عند سكانآسيا الصغرى القدماء ،  ( يقابل تموز البابلي ) وحين يحتفلأتباعه بعيد ميلاده ، يربطون تمثاله على ساق شجرة ، ولما تبلغ الحمية أوجها لدي أتباعه وعابديه يجرحون أنفسهم بالسيوف حتى تسيل دماؤهم قرباناً للإله دلالة الخصب . ( أتيس ) الثورة التي ستنبت الحب وتروي العطاشى ، لكنها لا تأتي دون القرابين ، ودون بذر البذور:  
               
                                         تموز هذا ، أتيس   
                                         هذا ، وهذا الربيع .
                                         يا خبزَنا يا أتيس ،
                                         أنبتْ لنا الحبَ وأحي اليبيس .
                                         التأم الحفل وجاء الجميع
                                         يقدمون النذور ،    
                                        يحيون كلَ الطقوس
                                        ويبذرون البذور .  
                                        سِـيقانُ كل ِ الشجر
                                        ضارعة ٌ والنفوس
                                        عطشى تريدُ المطر
  ومن الدم المراق ، من دموع اليتامى والثكالى ، من عطش الأرض ستنبت زهرالخصب،البعث الحقيقي لا يأتي إلاّ بعد موت حقيقي. بالدماء ينزل المطر – البعث:
                                        ولفـّـني الظلامُ في المساء ، 
                                         فامتصتِ الدماء
                                         صحراءُ نومي تـُـنبتِ الزهر ،
                                         فإنما الدماء
                                         توائمُ المطر .
  إن فكرة البعث الذي يخرج من وسط الدماء فكرة كررها السياب كثيراً ، وبالأخص في قصائده التي تصف معاناة الشعب العراقي بعيد ثورة تموز 1958  يأتي المطر رمزاً للثورة . . . للخلاص . . . للخصب . ولجأ في هذه القصائد إلى الأساطير – كما رأينا – كرموز يعنيها ، فسربروس ( الكلب الذي  يحرس مملكة الموت في الأساطير اليونانية )  في قصيدة( سربروس في بابل )هم الطغاة ، وبابل هي العراق ، وتموز الإله الجريح هو الشعب الذي هدّ الطغاة  قوته . . . آه لو يعود بمطر مبرق ، بثورة عارمة عاصفة تخصب الحقول:
 
                             ليعو ِ سَربروسُ في الدروب
                            وينبشُ الترابَ عن إلـَهـِـنا الدفين
                            تموز ِنا الطعين ،
                            يأكـُلـُهُ : يمصّ ُ عينيه إلى القرار ،
                            يقصمُ  صلبَه القويَّ ، يُحطِمُ الجـِـرار
                            بين يديه ، ينثرُ الورودَ والشقيق . 
                            أوّاهُ  لو يـُـفيق
                            إلهـُنا الفتيُّ ، لو يـُبرعِمُ الحقول ‘
                            لو ينثرُ البيادرَ النـُضارَ في السهول ، 
                           لو ينتضي الحـُسامَ ، لو يفجّـرُ الرعودَ والبروقَ والمطرْ
ولعل السياب نفسه عانى من الخوف والرعب وعيون المخبرين ، وملاحقتهم له ثم فصله من العمل ،العيون المفترسة التي ألغت الحياة وأقامت الموت، وأعقمت  الحقول فلا تزهر ، ومنعت السماء من أن تمطر . لكن عشتار أقبلت لتلم لحم تموزالمنتثر ( كذا تقول الأسطورة ) ، محاولة من محاولات الشعب للخلاص ،  غيرأن سربروس الذي يحمي بابل الجحيم ، ينهشها ، ويلوث وشاحها الأبيض بالدم  بغيرالدم – القرابين لا تزهر الحقول ، لا تمطر السماء ، لا تبعث الحياة:
                                       ليعو سربروس في الدروب
                                       لينهش الآلهة الحزينة ، الآلهة المروعة ،
                                       فإن من دمائها ستخصب الحبوب ،             
                                       سينبت الإله ، فالشرائح الموزّعة 
                                       تجمعت . . تململت . سيولد الضياء
                                       من رحم ينزّ بالدماء .
أما البياتي فقد تجاوز غيره من الشعراء المعاصرين إلى تحديد معالم رؤياه الأسطورية الشرقية بطريقة واضحة ومتفردة مما أكسب قصيدته تركيبة جديدة تصنع خلال علاقته صورة فوق الحسية " لأنه يعود برؤياه إلى الأسطورة على شكل نبؤة"فنجده مستكشفا لصفحات الإنسان في ظل الحضارات العراقية والعربية والإسلامية العظيمة ، وهو يبحث عن بطله الأسطوري التاريخي الذي أدى به إلى رفض الواقع الذي يصطدم به في عالم اليوم ، فالبطل الأسطوري لديه ، هو ذلك الذي يعي بوجدانه قضية يطرحا على الإنسان وضعٌ تاريخي والذي يكتشف معناها الإنساني والذي يؤلف لدينا انتصاره وإخفاقه يقظة مسؤولة لحل قضايا عصرنا ، فالرؤيا الأسطورية عند البياتي تضع الأسطورة على مستوى العقل الإنساني الخلاق فجعلته يحدث اندماجا تاما بين الأسطورة وبين بنية القصيدة التي تحوي بتركيبة أسطورية ومضمون أسطوري فهو يبني في قصائده بناءً جديدا ، غير أنه يستند في هذا البناء إلى رؤيا أسطورية قديمة، من ذلك ما يظهر في قصيدة (مراثي لوركا)، يقول :
مدينة مسحورة
قامت على نهر من الفضة والليمون
لا يولد الإنسان في أبوابها الألف و لا يموت
يحيطها سور من الذهب
تحرسها من الرياح غابة الزيتون
رأيتها والدود
يأكل وجهي وضريحي عفن مسدود
قلت لأمي الأرض :هل أعود ؟
فضحكت ونفضت عني رداء الدود
ومسحت بوجهي بفيض النور
عدت إليها يافعا مبهور
صحت على أبوابها الألف ولكن النعاس عقد الأجفان
وأغرق المدينة المسورة
بالدم والدخان    
       " فهذه رؤيا أسطورية في بنائها لا تنتمي إلى أسطورة بعينها وتنتمي إلى كل الأساطير أي إلى روح الأسطورة وهذا ما يتيح للشاعر التحرك الحر في البناء ويسمح له بالبناء والتعبير "، فهو يمزج جميع المعطيات القلبية بالحسية والدينية بالسحرية والتاريخية بالواقعية ثم يقيم من مادتها تفاصيل عالمه مع احتفاظه بمسافة تفصل بين الواقع والأسطورة فالتعبير عن الواقع غاية أما الأسطورة والتعبير بها فهو وسيلة وتتجلى رؤية البياتي أيضاً في استعارة النص الأسطوري نفسه فهو يعيد تنظيمه ليصبح جزءا مكونا في البناء ونجد هذا جليا في قصيدته ( مرثية إلى إخناتون ).
لعل أسطورة جلجامش التي تتناول موضوع الخلود وتحتوي في ألواحها على قصة الطوفان التي جاء ذكرها في القرآن وذلك التوراة ، فلا تخلو قصائد البياتي من ذكرها إذ صاغ عباءتها بنسيج فني مختلف عن لغة الأسطورة حتى أصبح التفريق بين لغته الشعرية ولغة الأسطورة أمرا صعبا فتبدو قصيدته وكأنها كتابة جديدة للأفكار الواردة في الأسطورة كما في الأبيات الآتية:
لن تجد الضوء ولا الحياة
فهذه الطبيعة الحسناء
قدرت الموت على البشر
واستأثرت بالشعلة الحية في تعاقب الفصول 
     هذه الأفكار ذاتها نجدها في ملحمة جلجامش " حيث تحاول صاحبة الحانة منع جلجامش من متابعة رحلة البحث عن الخلود فتقول بلغة قريبة 
إن الحياة التي تبغي لن تجد
حينما خلقت الآلهة البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة
    وهناك مقاطع وقصائد كثيرة توشك لغتها أن ترشف العبارات بتمامها نقلا عن الشعر البابلي القديم ، يقول الشاعر في قصيدته ( العودة من بابل):
بابل تحت خيمة الليل إلى الأبد
تحوي على أطلالها الذئاب
ويملأ التراب
عيونها الفارغة الحزينة
بابل تحت قدم الزمان
تنتظر البحث ، فيا عشتار
قومي املئي الجرار
2ـ الأساطير اليونانية : كان الرمز الأسطوري بروميثيوس* عنوانا لأحد دواوين البياتي ويبدو أن الشاعر وظف هذا الرمز في بادئ الأمر توظيفا سلبيا فوقف يتحدث عن غضب الأرباب عليه ، يقول:
ولم تزل لعنة الآباء تتبعه
وتحجب الأرض عن مصباحه القاني
ولم تزل في السجون السود رائحة
وفي الملاجئ من تاريخه العاني
    ونجد رمزا يونانيا آخر وهو سيزيف ذلك الإنسان الذي حكمت عليه الآلهة في عالم الأموات أن يدحرج صخرة ضخمة صعودا فإذا بلغ القمة انحدرت واستقرت في قاع الوادي فيعود إلى دحرجتها من جديد لأنه أراد أن يبقى على قيد الحياة بعد أن مات وبعث ورفض الرجوع إلى العالم الآخرفهو رمز الجهود الضائعة ورمز للسعي المخفق ، وقد اقتب بتوظيفه لهذا الرمز من تصوير إنسان العصر، إذ يقول :
عبثا نحاول أيها الموتى الفرار
من مخلب الوحش العنيد
من وحشة المنفى البعيد
الصخرة الصماء في الوادي يدحرجها العبيد
سيزيف يبعث من جديد
في صورة المنفي الشريد
     وجد البياتي  في سيزيف ذلك الفلاح الضعيف الذي يعاني ويظلم ويعمل ويكدح لكن جهده يذهب هباء دون جدوى ، فالشاعر هنا أحس بمرارة الظلم الذي يعانيه سيزيف فجسد هذا الرمز في القروي وعامل الحقول والإنسان الضعيف أينما وجد متمردا على الواقع الذي يعيشه
 
ثالثاً : مسوغات اللجوء إلى الرمز الأسطوري:
     أقبل شعراء العصر الحديث على الرمز الأسطوري إقبالا واسعا ، أما مسوغاتهم في اللجوء إليه فتعود إلى عدة أسباب منها :
1ـ تلبية الحس الحضاري وتقليد المبدعين الغربيين .
2ـ تجنب الرتابة والرغبة في التجديد ورفض التصريح .
3ـ البعد عن التسطيح في الفكرة وطلب التداعي الحر للمعاني .
4ـ الخوف من السلطة والرغبة في إثارة المتلقي .
          ونخلص من ذلك أن الشاعر العربي في العصر الحديث  تمكن من تجاوز الظروف السياسية والاجتماعية والثقافية التي تمنعه من التعبير عن أفكاره ورؤيته ورؤاه بعد أن وجد في الرمز الأسطوري أداة تعبيرية مناسبة تمنحه الحرية وتمكنه من التعبير ليس فقط عن ذاته ومواجهة قضاياه المصيرية ؛ بل تعداه إلى التعبير عن قضايا أمته فخرج الشعر من الذاتية إلى الموضوعية .
 
رابعاً : الترميز الأسطوري في فكر النقاد العرب :
    لا عجب أن يلمس الدارس بعد استقراء آراء أبرز النقاد في بواكير التوظيف الأسطوري عند الرواد جملة من المآخذ التي سجلها هؤلاء النقاد على طريقة توظيف الشعراء الرواد لقضية الرمز والأسطورة .
    إن اعتماد الشعراء الرواد على الأساطير الغربية المتصلة بأساطير اليونان قد أثار حفيظة بعض النقاد لإيمان هؤلاء بالموروثات القديمة ، بابلية وكنعانية ومصرية ويمكن أن يرجع سبب ذلك إلى غياب إحساس القارئ وتأثره بالأساطير الأجنبية لأنها لا تمت له بصلة إضافة إلى جهل الغالبية العظمى من القراء العرب بمضامين هذه الأساطير حتى نجد أن الشاعر يضطر إلى بيانها وتفسيرها في الهامش 
     ومن هؤلاء النقاد ، الناقد ناجي علوش فهو يرى أن الأسطورة يجب أن تكون قادرة على استثارة المتلقي فهو يرى أن هذا العالم ليس عالمنا وهذه الأساطير ليست أساطيرنا إذ أن الأسطورة التي تغني الشعر برأيه " هي الأسطورة التي تندمج بالتجربة الشعرية ، لا التي تكون واجهة قصيدة "
      ويرى الناقد عبد الجبار البصري أن استيراد الشاعر لرموزه الأسطورية من الحضارات الأخرى فهي أمر محكوم عليه بالفشل.
     أما الناقد علي جعفر العلاق فقد استحسن إعراض شعراء الستينات عن الرموز اليونانية وعده ردا منطقيا ولازما على إفراط شعراء الخمسينات، وقد صرح الناقد محي الدين إسماعيل بـ " أن الاستعارة من الموروثات الأجنبية حدودا يحبب أن نقف عندها .... لأننا بصدد الإعراب عن روح أمتنا وأن الاستعارة ستظل عائقا في وجه الإعراب عن هذه الروح "؛ بينما يرى الدكتور داود سلوم أن الشاعر الذي يعتمد الرمز الأسطوري إنما يكلم نفسه ولا يكلم جيله ، وإذا كلنه كلم القلة من المثقفين الذين قرءوا شيئا  من الأساطير اليونانية في الوقت الذي يكلم فيه الشعب والجماهير وأغلبها تجهل كل شيء عن الأساطير أو معظم هذه الأساطير وعدَّ اعتماد الأساطير من أسباب غموض الشعر وبدا له أن الشاعر كان هادفا إلى التعالي الفكري المفتعل فهو يرى أن الشاعر يستعمل الأساطير ليظهر ثقافة غير موجودة
    وفي مقابل هذه النظرة نجد نظرة أخرى مختلفة مع قضية الرمز والأسطورة فقد أشار أصحاب هذه النظرة إلى السمات التي ميزت طريقة معالجة الشعراء لهذه القضية ، وعلى رأس هؤلاء الناقد عبد الجبار عباس ، والناقد يوسف الصائغ ، والدكتور محسن اطيمش .
     فقد ذكر الناقد عبد الجبار عباس في دراسته لشعر السياب بأنه قد طرح المعطيات الأسطورية على مستوى التشبيه وأحيانا يكون الرمز أقرب إلى الكتابة في المفهوم البلاغي  أما الناقد يوسف الصائغ فصرح بعدم أهلية الشعراء الرواد خاصة والشباب عامة في السنوات الأولى في قضية الرموز والأساطير ؛ واضعا لهذا الرأي عدة أسباب منها: قلة الموروث في هذا المجال ، ولأنها قضية تستلزم درجة عالية من الوعي الفني والثقافي ، مضيفا إلى ذلك ضعف اطلاع الشعراء على إنجازات الشعر العالمي مما يؤدي إلى قلة معرفتهم بالقيمة الفنية التي أرساها الشعر والنقد العالمي ، ثم صرح بأن هذا المستوى كان لابد له من التطور تبعا لتطور وعي الشعراء الشباب واتساع آفاق ثقافتهم ، بعد أن أتيح لهم الاطلاع على نماذج الشعر العالمي فحققوا رموزهم الخاصة بهم التي نتجت من تطور وعيهم  .
    أما الناقد طراد الكبيسي فقد أشار إلى اختلاط الأسماء والرموز الأسطورية عند السياب بينما رأى في تجربة ألبياتي مع تراث الحضارات العربية غنى وتشعبا فهو لا يكثر من الاقتباس والتضمين ، بل يستوحي جوهر الأسطورة ويبعثها في هيئة جديدة
    وقد تتبع الدكتور محسن اطيمش قضية الرمز الأسطوري وتوظيفها بالشعر العراقي ابتداء من استعمال الشعراء المعطيات الأسطورية على سبيل التشبيه كما في قصيدة السياب (أهواء) ، وقصيدة ألبياتي ( مرثية إلى عائشة ) إذ نعتها بالبدائية أو المفهوم البدائي مرورا بالتفات الشعراء إلى الأساطير وما نسجت حولها  من حكايات فعدها خطوة إيجابية في طريق توظيف الأسطورة وظل يتتبع مرحلة توظيف المعطيات الأسطورية في الشعر العراقي الحديث إذ مثلت المرحلة التالية فهم الشعراء للأساطير حتى أصبحت جزءا من نسيجه إلى أن وصل مرحلة ابتكار الشعراء لأساطيرهم الخاصة وهكذا حتى وصل إلى فترة الستينات حيث انحسر التوظيف الأسطوري انحسارا تاما فلم يبق من الشعراء الرواد من يستلهم الأساطير سوى البياتي .
   ومما تقدم من آراء النقاد صار بالإمكان تصور مسألة توظيف المعطيات الأسطورية في الشعر العراقي ففي مرحلة البواكير لم يكن استيعاب الشعراء للأسطورة كاملا وبالتالي لم تكن محاولاتهم ناضجة فنيا؛ لكن بعد أن وصل الشعراء الرواد إلى مرحلة النضج الفني صاروا يبتكرون لأنفسهم رموزا خاصة بهم ثم ينتهي جيل الرواد ويأتي الجيل التالي ليعرض عن هذا الاتجاه ؛ وربما يعود سبب ذلك لاهتمام الرواد بها ردحا طويلا من الزمن مما خلق ردة فعل عند الشعراء الذين جاءوا بعدهم اتجاه الأساطير والرموز الأسطورية ومعطياتها .
 
 
 
الخاتمة
خرج البحث بحصيلة من النتائج التي يمكن أن يكون قد سبقني إليها الكثيرون ويمكن إبرازها فيما يأتي :
     تشكّل الأسطورة الشعبية و التراثية التاريخية حيّزاً زمانياً و مكانياً مهماً في تاريخ الحضارات الإنسانية المتعاقبة و المتزامنة، و بالتالي في تاريخ الفكر البشري منذ تشكّلاته الأولى حتى الوقت الراهن، فما من شعبٍ من الشعوب أو أمة من الأمم إلاّ و لها أساطيرها و خرافاتها الخاصة بها، و من الملاحظ أنّ ثمة تداخلاً واضحاً بين هذه الأساطير، فالأسطورة الواحدة تنمو و تتشعب لتنتقل من حضارة إلى أخرى عبر مثاقفة فكريّة و حضارية، فعلى سبيل المثال يلاحظ أن أسطورة « تموز و عشتروت » أو أدونيس و عشتار هي بابلية و يونانية و رومانية و فينيقية و إن اختلفت التسميات الأسطورية للشخصيتين الأسطوريتين « عشتار » و أدونيس، فإنّ قاسماً مشتركاً بين ملامحها و خصائصها و أبعادها الأسطورية، و مدلولات رموزها. و كذلك أسطورة « شهرزاد و شهريار »، فإنّ لها بعداً اجتماعياً و سياسياً و فكرياً في التاريخ، هذا التاريخ الذي يمتدّ إلى الحضارات الهندية و الفارسية و العربية التي شكّلت ألف ليلة و ليلة، فالأسطورة هي نتاج معرفي جماعي يجسّد وضعاً معرفياً أنثروبولوجياً، بوساطته يمكننا دراسة المكوّنات الثقافية و الفكريّة لدى أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب، و هي بنية مركبة من تاريخ و فكر و فن و حضارة، و بالتالي فإنّ لها قدرة على الامتداد ماضياً و حاضراً و مستقبلاً، و يمكن اعتبارها مرجعاً ثقافياً متميّزاً تنهل منه الكثير من الدراسات الاجتماعية و الفكرية و التاريخية و الفولكلورية، إنها مكوّن أساسي من مكوّنات الفكر الإنساني، و قد رافقت الإنسان في كفاحه المتواصل مع الطبيعة و تبدلاتها و قسوة الحياة و شظفها، و هي المعادل لخيبات هذا الإنسان، و البؤرة التي يرى منها النور و الفرح و إشراقات المستقبل. إنها تجسّد حلمَ الإنسان في مستقبل أكثر نقاء، و في علاقات أكثر تكافؤاً و عدالة. إن المعنى اللغوي للأسطورة استند في مفهومه على المفهوم الديني ، أما المعنى الاصطلاحي ، فكان من الصعوبة تعريف الأسطورة وتحديد مفهومها .  تعتمد الأسطورة في محتواها على الآلهة وأنصاف آلهة وعلى الأبطال الأسطوريين الذين يمتلكون قدرة خفية وعادة ما تحمل الأسطورة في مضمونها على عبرة تفيد منها الإنسانية على مر العصور. لم يقتصر تأثير الفكر الأسطوري على الدراسات الأنثروبولوجية و الاجتماعية فحسب، بل تعدّاها إلى أنواع الفنون كافة: الرسم و الموسيقى و النحت و الشعر و الرقص، بالإضافة إلى معظم الأجناس الأدبية التي استفادت منه ـ أي الفكر الأسطوري ـ فالأسطورة في القصة و الرواية و المسرح، و قد أثّرت حديثاً في الأعمال الدرامية التلفزيونية و صناعة السينما، و هي في بنيتها العميقة رؤية شعرية مركّبة تجمع بين التاريخ و الفكر و الفن، و يمكن أن تكون نواةً للأعمال القصصية و الروائية إذا ما طُبقت عليها مفاهيم السرد و القص الحديثة.  تأثيرها كان شديداً في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، و يكاد يكون معظم الشعراء العرب المعاصرين قد استفادوا منها، و وظّفوها في أعمالهم الإبداعية، إذ قلما نجد شاعراً عربياً معاصراً ـ و بخاصة جيل الرواد ـ إلا و استفاد من الأسطورة رمزياً و إشارياً، و استطاع أن يشكّل منها حالات شعرية رؤيوية، تفاوتت بين الاستعمال الإبداعي، و الاستعمال الوظيفي النصّيّ حسب درجات ثقافتهم و مواهبهم، و كيفية تعاملهم مع الرمز الأسطوري. لجأ معظم الشعراء إلى الرمز في الشعر عامة والرمز الأسطوري خاصة لأسباب ، لعل أهمها : تأثر الشعراء بالأدب الغربي الذي يعد الرمز الأسطوري فيه سمة ، كذلك لأسباب سياسية جعلت الشاعر يعدل عن التصريح إلى التلميح . إنّ الاختلاف في تحديد ماهية الأسطورة وبواعثها ومكوّناتها أدّى إلى إخضاعها إلى مناهج فكرية عديدة تعاملت معها وفسّرتها ، وقد خضعت هذه المناهج بدورها لنزعات الرؤية الفردية ذات الاتجاهات المتباينة في التطرف والاعتدال ، والعلمية والغيبية . ولم يقتصر الخلاف على تحديد ماهيتها ، بل شمل الرؤية الإبداعية التي تمّ توظيفها في الخطاب الشعري العربي المعاصر، فيصبح مفهوم الأسطورة عند بعض الشعراء المعاصرين قابلا لمزيد من الابتكار، إذ تنزاح في أحيان كثيرة عن موقعها الرمزي والدلالي لتأخذ دلالات جديدة أخرى يبتكرها الشاعر بعيداً عن دلالاتها المعرفية لدى الأقوام والشعوب. 
 
    حاول الشاعر الحديث أن يستلهم من الأساطير النبض الوجداني الحميم ، فأدى هذا الاستلهام إلى إثراء الشعر برافد جديد .
 
    إنّ توظيف الأسطورة رؤية فنية ابداعية لايستطيع الشاعر الوصول إليها إلا بعد جهد
    و دربة طويلين، فالتعب و الدربة شرطان أساسيان للوصول إلى الجودة و الإبداع، و الموهبة الحقيقية التي تؤكد على استنفار الشرط الإنساني الكامن في أعماق النفس البشرية، هذه الموهبة التي « تكمن في قدرة (الشاعر) على الغوص في الشرط الإنساني الكامن في أعماقه و أعماق من حوله و على استنفار هذا الشرط و على خلق الأداة الفنية و تطويعها لمعاناة الشاعر »  انعدام التوظيف الأسطوري لدى الشعراء في نهاية الستينات فلم يبق من الشعراء من يستعمل الأسطورة سوى البياتي .
 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق