جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
جاء
الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) فتابع السكاكي في التسمية والتعريف معا ،
فقال عنه :
« وهو ما كانت العلاقة بين ما استعمل فيه ، وما وضع له ملابسة غير التشبيه
، كاليد إذا استعملت في النعمة ، لأن من شأنها أن تصدر عن الجارحة ، ومنها
تصل الى
المقصود بها ، ويشترط أن يكون في الكلام إشارة الى المولي لها ، فلا يقال :
اتسعت اليد في البلد ، أو اقتنيت يدا ، كما يقال : اتسعت النعمة في البلد ،
أو اقتنيت نعمة ،
وإنما يقال : جلّت يده عندي ، وكثرت أياديه لدي ونحو ذلك » (1) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى
المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة
لليد ، وهي وإن كانت
جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها
من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب
والانتقام ، وبها يتعلق
الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة
ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة
والوطئة ، ولا مشابهة بين
هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة
المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت
الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير
المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال
الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
وفي هذا التعريف والتنظير تبدو العلاقة بين الاستعمال الحقيقي والمعنى المجازي ، وتظهر الفروق المميزة بين الاستعارة والمجاز المرسل ، فبالنسبة لليد ، وهي وإن كانت جارحة لا تتصرف إلا بأمر من الإنسان نفسه ، إلا أنها تستعمل فيما يصدر عنها من العطاء في مقام النعمة ، والبطش في مقام القوة ، والضرب عند التأديب والانتقام ، وبها يتعلق الأخذ والعطاء ، والمنع والدفع ، والصد والرد ، وكل صادر عنها بعلاقة ومناسبة غير المشابهة لدى الاستعمال المجازي ، وإنما بالأثر والقوة والقدرة والوطئة ، ولا مشابهة بين هذه الآثار وبين الجارحة نفسها ماهية وحقيقة .
لهذا فقد كان اختيار علاقة غير المشابهة للمجاز المرسل ، وعلاقة المشابهة للاستعارة ، اختيار موفقا لدى التفريق بينهما ، فكما كانت الملابسة بين اليد والنعمة واضحة في غير المشابهة بين الحقيقتين ، فكذلك ملابسة المشابهة واضحة في الاستعمال الاستعاري بين المشبه والمشبه به في كلمة « نسلخ » من قوله تعالى : ( وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ . . . ) (2) .
--------------------
(1) القزويني ، الإيضاح : 280 ، 397 تحقيق الخفاجي .
(2) يس : 37 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 127 _
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما
يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك
التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل
منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما
حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين
الحقيقتين في الالتحام قبل
السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على
الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة
التي تختص
بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر
له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار
، أن المجاز
المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في
الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في
القرآن دربة لأهل
اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص
المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا
المدرك نفسه بما لا
مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ،
كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف
تجوز بالاتساع
الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل
الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية
متسمة بالشمولية والإبداع ،
كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في
سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية
المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
فشبه سبحانه سلخ النهار من الليل ، بسلخ جلد الشاة ، والسلخ حقيقة إنما يستعمل في هذا المعنى ونظائره فكما كانت الشاة وجلدها ملتحمين ففك التحامهما بالسلخ ، فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها ، فكذلك فك التحام الليل بالنهار فأصبح كل منهما حقيقة قائمة بذاتها ، وأجرى على هذه العملية لفظ السلخ بلحاظ المشابهة بين الحقيقتين في الالتحام قبل السلخ والانفصال التام بعد السلخ ، فكما هو هناك فهو هنا ، وذلك جار على الاستعمال المجازي أيضا ، ولكن بمنظور المشابهة ، وهذه هي علاقة المشابهة التي تختص بالاستعارة ، وما تقدم علاقة غير المشابهة التي تختص بالمجاز المرسل .
انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
نحن في غنى عن القول بانتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، فذلك أمر له دلائله وشواهده في القرآن العظيم ، والسبب في هذا الذيوع وذلك الأنتشار ، أن المجاز المرسل هو وسيلة العربية في إضافة المعاني الجديدة ، وهو وسيلة اللغة في الإضاءة والتنوير ، وهو طريق المبدعين في الإفاضة والبيان ، وانتشار ذلك في القرآن دربة لأهل اللغة من وجه ، ودليل على الإعجاز البياني من وجه آخر ، ولعل في خصائص المجاز الفنية فيما سبق إشارة موحية بهذا الملحظ بالذات ، ومعبرة عن هذا المدرك نفسه بما لا مزيد عليه .
وسترى في نماذج المجاز المرسل ووجوه علاقته في النقل عن الأصل اللغوي ، كيف أن هذا المجاز قد تخطى حدود الدائرة اللغوية الى الدائرة الفنية ، وكيف تجوز بالاتساع الى مناخ الغنى في المفردات والمعاني ، وكيف استطاع فيه القرآن أن ينقل الذهن العربي الى أفق جديد ، متمّيز بالابتكار ويمدّه بحياة لغوية ثانوية متسمة بالشمولية والإبداع ، كان سبيل هذه النظرات الصائبة هو المجاز اللغوي المرسل في سلامة أدائه ، ودقة تعبيره ، واستقرار قاعدته في المسيرة البيانية واللغوية المتطورة .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 128 _
إن استقراء ذيوع المجاز اللغوي المرسل ، وسيرورة انتشاره في القرآن يمكن
رصده بعدة ظواهر إيحائية ، نرصد جزءا حيويا منها في هذا المبحث ويتكفل
مبحث علاقة
المجاز بالجزء الآخر منها ، وهنا نقف عند ظاهرتين إيحائيتين تضيفان على
اللفظ الجاري أكثر من معناه الأولي السائر في الأذهان ؛ هاتان الظاهرتان
تلتمسان باعتبارهما
دلائل فنية على صدق الدعوى ، وبرمجة الموضوع ، تلك الدلائل لا تعدو كونها
إمارات وعلامات وضعت في الطريق لمن أراد الهداية والاستزادة معا ، وليست هي
كل شيء ،
إذ جاءت على سبيل التمثيل لا سبيل الإحصاء والاستقصاء ، لأنه أمر قد يتعذر
الوصول اليه ، أو الوقوف عليه ، لبعد أغواره ، وتجاوز أبعاده حد الاستيعاب .
وسيكون التماسنا لهاتين الظاهرتين مؤشرا بارزا على سيرورة المجاز اللغوي
المرسل في القرآن ، وذيوعه ، ويقاس ـ حينئذ ـ عليه ما هو قريب اليه ، إذ
لا ضرورة لاتخام
الموضوع بالإضافات التي قد يتوصل اليها الباحث بعد الإعلام ،
الظاهرة الاولى : ـ وتتجلى أبعادها في رد المتشابه من الآيات الى المحكم
منه ، لحسم النزاع ورد الإشكال ، ومعالجة النصوص في ضوء التعبير المجازي ،
فلا عنت ولا
تعسف ولا غلو ، ومن أمثلته الوقوف عند إزاغة القلوب المنسوبة الى الله
تعالى في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ * ) (1) .
ب ـ ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (2)
فقد حملت الآية الأولى على ظاهرها إزاغة القلوب له سبحانه ، بدعوى أنها إن
لم تكن منه تعالى
فما معنى الدعاء بأن لا يفعلها ، وهذا ما لا يجوز عليه سبحانه إلا على سبيل
المجاز والاتساع ، لأن الله تعالى لا يضل عن الأيمان ، ولا يوقع في
الضلالة والكفران ، والنظر في هذا ملحوظ بعين القبح العقلي .
--------------------
(1) آل عمران : 8 .
(2) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 129 _
وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد
الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض
برأيه بعد
إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه
من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على
ظاهره ، لأنه يقودنا
الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه
سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه
تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن
الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا
عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه
التي قدمنا ذكرها ، فهو
متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب
رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .

وقد نصت الآية الثانية : أن الله تعالى يزيغ من زاغ ، ونسبته اليه
ظاهرة ،
حقا إن الاتساع في المجاز هو الذي يتجاوز هذه العقبات بيسر ، ويدرأ هذه
الشبهات بمرونة ،
فقد ذهب بعضهم في معنى ذلك أنه دعاء الى الله وتوجه إليه بأن : ثبتنا
بألطافك ، وزد من عصمك وتوفيقك ، كي لا نزيغ بعد إذ هديتنا ، فنكون زائغين
في حكمك ، ونستحق
أن تسمينا بالزيغ وتدعونا به وتنسبنا إليه ، لأنه لا يجوز أن يقال :
إن الله سبحانه أزاغهم إذ سماهم بالزيغ ، وإن كانوا هم الفاعلين له ، على
مجاز اللغة ، لا أنه تعالى أدخلهم في الزيغ ، وقادهم الى الاعوجاج والميل ،
ولكنهم لما زاغوا عن
أوامره ، وعَنِدوا ما فرض الله من فرائضه ، جاز أن يقال : قد أزاغهم كما
قال سبحانه بالنسبة للسورة ( فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ * ) (1) وفيما اقتصه عن نوج
( عليه السلام ) ( فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * ) (2) أو يكون لما منعهم ألطافه وفوائده جاز أن يقال : أنه أزاغهم مجازا ، وإن كان تعالى لم يرد إزاغتهم (3) .
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض برأيه بعد إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره ، لأنه يقودنا الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها ، فهو متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
ولقد وقف الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) من هذه المدارك موقف الناقد الخبير ، والفاحص الرائد ، فأورد جملة من آراء العلماء في ذلك ، وأفاض برأيه بعد إيرادها ، وحملها على الاتساع في اللغة ، والمجاز من القول ، ورد المتشابه من الآي الى المحكم منها ، وذهب في هذه الآية أن لا يكون معناها محمولا على ظاهره ، لأنه يقودنا الى أن نقول : إن الله سبحانه يضل عن الإيمان ، وقد قامت الدلائل على أنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه قبيح ، وهو غني عنه ، وعالم باستغنائه عنه ، ولأنه تعالى أمرنا بالايمان وحببنا إليه ، ونهانا عن الكفر وحذرنا منه ، فوجب إلا يضلنا عما أمرنا به ، ولا يقودنا الى ما نهانا عنه ، وإذا لم يكن ذلك محمولا على ظاهره ، فاحتجنا الى تأويله في الوجوه التي قدمنا ذكرها ، فهو متشابه ، لأن موقفه من صفة المتشابه إلا يقتبس علمه من ظاهره وفحواه ، فوجب رده الى ما ورده من المحكم في هذا المعنى ، وهو قوله تعالى : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) التوبة : 125 .
(2) نوح : 6 .
(3) ظ : الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 19 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 130 _
قال الشريف الرضي « فعلمنا أن الزيغ الأول كان منهم ، وأن الزيغ الثاني
كان من الله سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، وعلمنا أيضا أن الزيغ الأول غير
الزيغ الثاني ، وأن
الأول قبيح إذ كان معصية ، والثاني حسن إذ كان جزاء وعقوبة ، ولو كان الأول
هو الثاني لم يكن للكلام فائدة ، وكان تقديره :
فلما مالوا عن الهدى أملناهم عن الهدى ، فكان خلفا من القول يتعالى الله
عنه ، لأن الكفر الذي حصل في الكفار الذين وصفهم سبحانه بميلهم عن الأيمان ،
وإزاغته تعالى لهم
إنما كانت عن طريق الجنة والثواب ، وأيضا فإن هذا الفعل لما كان من الله
سبحانه على سبيل العقوبة لهم ، علمنا أنه من غير جنس الذي فعلوه ، لأن
العقوبة لا تكون من جنس
المعصية إذ كانت المعصية قبيحة ، والعقوبة عليها حسنة » (1) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ
ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه
سبب منها ، فأطلقت عليه
، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ
الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على
الميل ، والانحراف عن
الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على
ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في
هذه الآية
أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
فالشريف الرضي في رده المتشابه الى المحكم ، قد حمل معنى الإزاغة اتساعا على معنى الجزاء والعقوبة كما هي الحال في قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (2) ، وكقوله تعالى : ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا . . . ) (3) .
فقد أطلق الاعتداء على ظاهره ، وأريد به الجزاء والعقوبة في واقعه ، إذ ليس الجزاء اعتداء ، وقد عبر عن المقاصة بالسيئة ، وليس ذلك سيئة ، ولكنه سبب منها ، فأطلقت عليه ، وكذلك معنى الإزاغة ههنا فيما حمله عليه الشريف الرضي ، فاعتبر الزيغ الأول غير الزيغ الثاني ، فالأول زيغ عن الإيمان ، والثاني العقوبة على الميل ، والانحراف عن الهدى الى الضلال ، فهو ليس من جنسه ، وإنما سمي كذلك مجازا ، وهو يعقب على ذلك ، ويدافع عن وجهة نظره فنيا فيقول : « وبعد فإنه سبحانه لم يذكر في هذه الآية أنه ابتدأ بأن أزاغ قلوبهم ، بل قال : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) (4) .
--------------------
(1) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 23 وما بعدها .
(2) البقرة : 194 .
(3) الشورى : 40 .
(4) الصف : 5 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 131 _
فأخبر تعالى أنه إنما فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم ، وجزاء على فعلهم ،
فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه من آمن به ، ووقف عند حدّه ،
وخلاّهم واختيارهم ، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكر سبحانه في كتابه فقال
: ( وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ * ) (1) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة
الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ،
ويكشف عن ذلك قوله
تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي
يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ
الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ
ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ،
وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم
يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ،
ولكنهم لما اتخذوهم
سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ،
فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله
سبحانه إنما وقع في
مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على
الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
فأضاف سبحانه الفعل بالإزاغة الى نفسه ، على اتساع مناهج اللغة في إضافة الفعل الى الأمر ، وإن وقع مخالفا لأمره ، لما كان وقوعه مقابلا لأمره ، ويكشف عن ذلك قوله تعالى : ( إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * ) (2) ، وهؤلاء الفريق عباد الله لم ينسوا الفريق الآخر ذكر الله ، وكيف يكون وهم يحادثون أسماعهم وقلوبهم بذكره سبحانه وعظا وتخويفا ، وتنبيها وتحذيرا ، ولكنهم لما اتخذوهم سخريا ، وأقاموا على سيّيء أفعالهم وذميم اختيارهم ، أنسوهم ذكر الله ، فأضيف الإنساء الى ذلك الفريق من عباد الله ، إذ كان نسيان من نسي ذكر الله سبحانه إنما وقع في مقابلة تذكيرهم به ، وتخويفهم منه ، ودعائهم إليه ، فحسنت الإضافة على الأصل الذي قدمناه .
--------------------
(1) محمد : 17 .
(2) المؤمنون : 109 ـ 110 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 132 _
وأقول : إنه قد جاء الاتساع في اللغة بالزيادة على هذه المرتبة التي
ذكرناها من إضافة الفعل الى الأمر ، وإن لم يأمر به ، بل أمر بضده ، لما
وقع مقابلا لأمره . فسمي من كان سبب الضلال مضلا ، وإن لم يكن منه دعاء الى
الضلال ، ولا
الى ضده فوقع الضلال عند دعائه ، قال سبحانه : ( وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي
وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ
كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي
فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * ) (1) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ،
لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ،
ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له
، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان
الفعلان واحدا ، وقد
علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ،
ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء
هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي
المرسل في القرآن
واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها
، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد
المجاز اللغوي
المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
فأضاف تعالى ضلال القوم الى الأصنام إذ جعلوهم سببا لضلالهم وهي جماد ، لا يكون منها صرف عن طاعة ، ولا دعاء الى معصية ، ومما يكشف عن ذلك أن زيغ الزائغين فعل لهم ، وإزاغة الله تعالى لهم فعل له ، فإذا ثبت أن زيغهم عن الأيمان علمنا أن إزاغتهم عن الثواب ، والا لكان الفعلان واحدا ، وقد علمنا أن جهتي الفعل مختلفان » (2) ، ويمكن الرجوع في هذا الملحظ الى مبحث الخصائص العقلية فيما تقدم لإثراء هذا الجانب ، ويستند اليه والى أشباهه في ظاهرة انتشار المجاز اللغوي المرسل في القرآن واعتبار ذلك مما ينطبق جملة وتفصيلا على هذه الظاهرة .
الظاهرة الثانية :
وتبرز حقائقها في مجال التصديق بالأمر ووقوعه ، واستمرارية الصفات وغلبتها ، وملابسة الوقائع بعضها لبعض ، وتأكيد بإطلاق ضده عليه ، وهنا يتوالى رصد المجاز اللغوي المرسل في التعبير القرآني :
1 ـ ففي تصديق الخبر ، وإبرام الأمر ، وحتمية الإرادة نتلمس قوله تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (3) .
--------------------
(1) إبراهيم : 35 ـ 36 .
(2) الشريف الرضي ، حقائق التأويل : 5 / 25 وما بعدها .
(3) آل عمران : 59 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 133 _
فإن لفظة كن تدل على الأمر ، ولكن المراد بها الخبر والتقرير ، والتقدير
فيها يكون فيكون ، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي فهو يكون ، والرأي
لأبي علي الفارسي (1) ،
وهذا الباب من فرائد القرآن وبدائعه لإثبات حقائق الأشياء دون تردد .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو
لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ،
ولكنه أطلق القانتين
على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال
القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور
المتصفين بهذا
الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ،
وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء
المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ،
فأطلق عليها تجوزا ،
والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
2 ـ وفي ملحظ التغليب وديمومة الصفات ، وكون الشيء جزءا من الأصل ، وأصلا في الكل المنظور إليه يبرز كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ) (2) .
ب ـ ( إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ) (3) .
ج ـ ( فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * ) (4) .
فبالنسبة لمريم إبنة عمران في الآية الأولى غلب عليها صفة الذكور ، ولو لم يرد المعنى المجازي في ذلك لجاء بالأصل الموضوع للأناث وهو القانتات ، ولكنه أطلق القانتين على الإناث من باب التغليب ، والارتفاع بمستوى مريم الى مصاف الرجال القانتين ، وما يقال هنا يقال بالنسبة « للغابرين » فإن اللفظ موضوع للذكور المتصفين بهذا الوصف ، فإطلاقه على الإناث على غير ما وضع له ، وإذا كان كذلك فهو مجاز ، وفي الآية الثالثة يراد بالمسبحين المصلين ، ولما كان التسبيح أحد الأجزاء المهمة في الصلاة ، ولملازمة الصلاة للتسبيح ، وكون التسبيح جزءا منها ، فأطلق عليها تجوزا ، والمعني الصلاة .
3 ـ وفي ملابسة واقع الحال للشيء حتى عاد جزءا منه ، ومندمجا فيه اندماجا تاما يبرز قوله تعالى : ـ ( وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ * ) (5) .
--------------------
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 / 290 .
(2) التحريم : 12 .
(3) الأعراف : 83 . العنكبوت : 32 .
(4) الصافات : 143 .
(5) البقرة : 93 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 134 _
والعجل ليس موضع ذلك ، بل المراد حب العجل ، فحذف المضاف وأقام مقامه
المضاف إليه ، للدلالة على هذه الحقيقة الثابتة ، إذ أنزل العجل منزلة الحب
، لملابسته لهم في
قلوبهم ، وتشرب قلوبهم بهذا الحب الأعمى ، حتى عاد ذلك سمة من سماتهم ،
وحقيقة تكشف عن واقع حالهم في الهوى والضلال .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر
الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه
تعالى أطلقه عليه
تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية
والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على
الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ،
وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد
لمفردات مماثلة دون استيعاب
، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل
تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
4 ـ وفي التأكيد على الشيء بإطلاق اسم ضده عليه نقف عند قوله تعالى : ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (1) .
والبشارة إنما يصح التعبير بها في مواطن الخير والكرامة ، لا في مظاهر الشدة والعناء ، وليس العذاب من مواطن الخير ، حتى يبشر به العاصي ، ولكنه تعالى أطلقه عليه تجوزا من باب إطلاق اسم الضدين على الآخر للنكاية والتشفي ، أو السخرية والتهكم ، وكلاهما يأتيان هنا لتأكيد وقوع العذاب دون شك .
وقد حمل أبو مسلم ، محمد بن بحر قوله تعالى : ( فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (2) على هذا الملحظ ، باعتباره إخبارا مؤكدا عن قوة المعرفة ، لا من باب التأكيد على الشيء باسم ضده ، لأن الجاهل بالله سبحانه في هذه الدنيا سيكون عارفا به تماما ، فأرادوا بذلك العلم والمعرفة لا الإبصار بالعين (3) .
مما تقدم ، يتجلى لنا مدى سيرورة المجاز اللغوي المرسل في القرآن ، وكثرة ذيوعه وانتشاره ، لأن مفردات هاتين الظاهرتين ما هي إلا الرصد لمفردات مماثلة دون استيعاب ، ولكنها بالإضافة لما سبق من الفصول ، وما سيأتي في علاقة المجاز المرسل تشكل سمة بارزة .
--------------------
(1) آل عمران : 21 .
(2) ق : 22 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 3 / 430 بتصرف وإيضاح .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 135 _
علاقة المجاز اللغوي المرسل في القرآن :
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه
المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في
علاقات مجازية قد
تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل
عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة
فلسفية أو
منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ،
ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة
في مجاز القرآن
اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها
ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية
والمسببية ، والمحلية والحالية ،
والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب
ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط
بها إلا جزئيا مما تقتضيه
ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ،
ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة
والفطرة الى دائرة
الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات
الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات
على مسميات مفردات البلاغة
تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1)
،
وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ
التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا
الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
كما هي الحال في وجوه المجاز العقلي فقد توسع البلاغيون في استخراج وجوه المجاز المرسل بما لا مسوغ لتكثيفه بلاغيا ، إذ بلغ حد التفريط المتعمد في علاقات مجازية قد تكون منفصلة حقا ، ولكن أغلبها قد يكون متداخلا ، يصح أن يندرج تحت صنف فصل عنه أو هو في مجراه ومقتضاه ، لذلك فتكثير هذه الأصناف إنما يحتاج الى دقة فلسفية أو منطقية لا ذائقة بلاغية ، والفلسفة والمنطق شيء والبيان العربي شيء آخر ، ونريد التعريض هنا بهذا المنحى بقدر ما نريد من استنباط الحالات المتواترة في مجاز القرآن اللغوي ، دون التأكيد على تلك التسميات التقليدية التي سبق منا القول فيها ضمن علاقة المجاز العقلي في القرآن : كالجزئية والكلية ، والسببية والمسببية ، والمحلية والحالية ، والآلية والمجاورة ، والملزومية واللازمية ، والمطلقية والمقيدية ، وأضراب ذلك من التفريعات المتشابكة ، والتصنيفات المتقاربة علاقات أهملنا الارتباط بها إلا جزئيا مما تقتضيه ضرورة البحث .
الحق أن علاقة المجاز اللغوي المرسل في استنباط وجوه احتمالاته ، ومقتضيات مسبباته من الكثرة والوفرة والتشعب بحيث قد تخرج عن دائرة الذائقة والفطرة الى دائرة الولع بالتخريجات المضنية دون حاجة بلاغية الى ذلك ، سوى متابعة البيئات الكلامية التي نشأ بها علم البلاغة التقليدي ، فانطبعت آثار تلك البيئات على مسميات مفردات البلاغة تصنيفا وتطويلا ليس غير .
لقد ضم هذه الوجوه بعضها الى بعض الدكتور أحمد مطلوب فأوصلها الى عشرين علاقة ووجها ، عدا اجتهاداته في التفريعات الأخرى (1) ، وفي بحث مستقل أضفنا عدة وجوه للمجاز اللغوي المرسل مما يتناسب ومناخ التدقيق المنطقي للقضايا العقلية ، فهل ثمة من حاجة ملحّة الى تجديد هذا الأمر (2) .
--------------------
(1) ظ : أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 111 ـ 118 .
(2) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 162 وما بعدها .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 136 _
أعتقد أن في طريق انتخاب النماذج القرآنية ، واستيعاب أكبر أجزائها ـ
دون هذه التسميات المخترعة ـ مندوحة عن الخوض في تقسيمات نود استبعاد
المنهج البلاغي من ركابها
، أو استدارته على عجلتها ، ذلك ضمن حدود اجتهادية موجهة نحو الخلاصة
المجدية ، والمهمة البلاغية النقية من الشوائب بإذن الله تعالى .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها
على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ،
فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح
لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
1 ـ في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) .
ب ـ ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2) .
ج ـ ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ) (3) .
د ـ ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) .
هـ ـ ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (5) .
و ـ ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (6) .
ز ـ ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (7) .
نتلمس عدة علاقات متينة السبب في هذه الآيات كافة ، مما يدفع الى حملها على المجاز اللغوي المرسل ، ولولا هذه العلاقات لكان الاستعمال حقيقيا ، فكشف علاقة كل مجاز هو دليل مجازية التعبير ، ولو لم تدرك العلاقة ، لما صح لنا التعبير عن هذا وذاك بالمجاز .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) النساء : 92 .
(6) الغاشية : 2 ـ 3 .
(7) الأنفال : 12 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 137 _
ففي قوله تعالى : ( قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * ) (1) وقوله تعالى : ( لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ) (2)
ندرك ـ والله العالم ـ أن القيام في هذين الموضعين بحسب العلاقة
والعائدية التعبيرية : هو الصلاة ، كما هو منظور إليه في الاستعمال القرآني
عند إطلاق لفظ القيام بمعنى الإقامة ، إن دلالة الكلمة هنا تعطي معنى :
صلّ ، والعلاقة في ذلك
كون القيام ركنا أساسيا ، وجزءا مهما في الصلاة ، فعبّر به لهذا الملحظ .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4)
، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية
لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان
والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى
عنه في الدلالة
على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في
الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته
الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ،
وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6)
فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة
جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند
العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
وفي قوله تعالى : ( وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ . . . ) (3) وقوله تعالى : ( كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ) (4) ، يبدو أن المراد بالوجه هنا الذات القدسية لله عز وجلّ ، وإلا فليس لله وجه بالمعنى الحقيقي على جهة التجسيم والمكان والإحلال والعينية والمشاهدة ، ولما كان الوجه هو ذلك الجزء الذي لا يستغنى عنه في الدلالة على كل ذات ، عبر به هنا عن الذات الإلهية مجازا على طريق العرب في الاستعمال بإطلاق اسم الجزء وإرادة الكل .
وأن كان الأمر بالنسبة لقوله تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * ) (5) إذ المراد بذلك أجساد هؤلاء بقرينة العمل والنصب الذي تؤدي ضريبته الأجساد بتمامها ، لا الوجوه وحدها ، وإنما عبر عنها بالوجوه باعتبارها جزءا من الأجساد ودالا عليها ، وفي قوله تعالى : ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ) (6) فإن المراد هو تحرير الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
--------------------
(1) المزمل : 2 .
(2) التوبة : 108 .
(3) الرحمن : 27 .
(4) القصص : 88 .
(5) الغاشية : 2 ـ 3 .
(6) النساء : 92 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 138 _
وفي قوله تعالى : ( وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ) (1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة ،
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج
السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر
الذي تستوعبه ، وهي
جزء من كلي الأصابع ،
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند
الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت (
أصابعهم ) و (
أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك
بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ ) (2) .
ب ـ ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا ) (3) .
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر الذي تستوعبه ، وهي جزء من كلي الأصابع ، والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت ( أصابعهم ) و ( أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ) (4) .
ب ـ ( وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ) (5) .
ج ـ ( وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ) (6) .
--------------------
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .
(6) محمد : 31 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 139 _
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في
الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق
بين الجرم والجزاء ،
فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ
لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء
الحقيقي ، فكان التعبير عنه
بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه ، قال
القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن
الاعتداء » (1) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في
الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ،
وفرق بين الذنب
والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ،
وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق
لفظ السبب
ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ،
وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف
أخباركم ، لأن البلاء
الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما
هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو
المطر ، والمطر
لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ،
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ، وفرق بين الذنب والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ، وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ، وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف أخباركم ، لأن البلاء الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو المطر ، والمطر لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث ، ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته (2) .
ألا لا يـجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا |
(1) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(2) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 140 _
فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه
المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل
وصدّه ، وليس صدّ
الجهل جهلا بل هو مكافأة له ،
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللّهُ ) (1)
من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : «
ويحتمل أن
يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من
الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة » (2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في
علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ
المسبب ويراد به
السبب بالذات ،
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا
ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل
الله المطر ، ولما كان
المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره
يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ،
ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه
بالنار ناظرا الى
هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ) (3) .
ب ـ ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ) (4) .
ج ـ ( وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ * ) (5) .
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات ، ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل الله المطر ، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ، باعتباره يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ، ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه بالنار ناظرا الى هذه الحقيقة .
--------------------
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 141 _
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة «
فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي
البأس فيحدث
الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية
للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ)
المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون
بعد البلوغ ، ولا يتم بعد
البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل
باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان
عليه في السابق ،
وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على
التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان
والعناد والإصرار
والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو
هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان
عليه من الإجرام في
الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ ) (1) .
ب ـ ( إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا ) (2) .
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ) المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون بعد البلوغ ، ولا يتم بعد البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان عليه في السابق ، وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان والعناد والإصرار والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان عليه من الإجرام في الدنيا .
--------------------
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 142 _
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما
سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا * ) (1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ،
والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا
الذي يعصر ،
فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما
سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني
بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي
والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح
دعوة النادي لعدم قبوله
الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ، والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا الذي يعصر ، فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فَلْيَدْعُ نَادِيَه * ) (2) .
ب ـ ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (3) .
ج ـ ( يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) (4) .
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله . (5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح دعوة النادي لعدم قبوله الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
--------------------
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 143 _
وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية
والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر
إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن
الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما
كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال
فيها ، وهو الرحمة والمراد
الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته
متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون
من الأصناف ،
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني
كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ،
فأكد البلاغيون
التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه
بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل
، وعددوا أصنافه ، أشتاتا
من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ،
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز
اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى : ( وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * ) (1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال فيها ، وهو الرحمة والمراد الجنة ، وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون من الأصناف ، السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ، فأكد البلاغيون التقليديون صلته بالبلاغة (2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه بالنحو ألصق ، فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل ، وعددوا أصنافه ، أشتاتا من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا ، لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف العديد للمجاز اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله (3) .
--------------------
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .
(3) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 144 _
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء
، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم
المعاني (1)
، وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز (2) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم
المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام
من
المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى
الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم
والتأخير والالتفات والتغليب من
المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من
البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من
المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز
ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان
بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح
المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة
، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات
الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ،
وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات
والزيادات ، لتخامر
البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو
التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في
نظر إنسان اليوم الذي يريد
الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام من المجاز (3) ، وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم والتأخير والالتفات والتغليب من المجاز (4) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب : « ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها » (5) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة ، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه التقسيمات الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ، وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات والزيادات ، لتخامر البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في نظر إنسان اليوم الذي يريد الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
--------------------
(1) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(2) التفتازاني ، المطول : 235 .
(3) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(4) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2 / 36 .
(5) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 145 _
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل
في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة
العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية ، على أننا لا نغالي
إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛
لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة
اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا
يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ،
ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن
أن نشير بإيجاز كبير الى أهم
ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة
القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا
في مصنفات «
معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ
منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد
على «
المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ،
كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
خاتمة المطاف :
بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ، ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن أن نشير بإيجاز كبير الى أهم ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا في مصنفات « معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد على « المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ، كان هذا أولا .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 146 _
ثانيا : وقفنا عند مجاز القرآن
بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة
، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة
أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا
عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من
خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ،
وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة
التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ )
وعبد القاهر الجرجاني ( ت :
471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا
الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن
لتحقيق
مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز
القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن »
سبقا فريدا ،
لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع
مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية
الفكر والمنهج
والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ،
التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم
البيان ، ورقة
الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
ثالثا : وحللنا مجاز القرآن في مرحلة التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) وعبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .
ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » سبقا فريدا ، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ، التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان ، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 147 _
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في
كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ،
وتتبعه لذلك في
الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من
أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في
صياغة المنهج المحدد
الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير
نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما
استقاه من ينبوع عبد القاهر
، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف »
الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني
هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر
الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في
دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي
استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب
المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ،
ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات
القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في
رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب
مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر
النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور
الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى
الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة
من صنوف البيان
القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ،
وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر ، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف » الى استقراء جمال القرآن المجازي ، ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ، ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة من صنوف البيان القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ، وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 148 _
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة
والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ،
إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في
مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة
فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة
واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي
من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من
موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة
من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه
وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة
صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ،
وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في
القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي
في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير
النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف
الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل
البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
أولا : حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ، إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 149 _
ثالثا : وبعد هذه الحقيقة الفنية ،
وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن
نوعان : مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا
تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره
عقليا ولغويا ، وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد
جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا
فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ،
مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن :
عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما
يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى
المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في
الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها
العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول
استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا
متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة
النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من
الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة
في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ،
إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في
الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ،
ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية
عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في
القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
رابعا : انتهينا أن مجاز القرآن : عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى المعنى الجديد ، والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها العقل عند الإسناد ، والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ، ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 150 _
أولا : الخصائص الأسلوبية في إدراك
اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو
نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا
اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال
المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث
إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة
الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ،
فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة
ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات
المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي
في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة
الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله
تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة
نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ،
وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول
أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة
النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت
الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ
الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن
أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ
منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو
المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من
خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
ثانيا : الخصائص النفسية في مسايرة النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو المراد المولوي ، وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 151 _
ثالثا : الخصائص العقلية في الإيحاء
والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال
تضج بالحركة ، ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي
توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه
الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود
الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة
مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك
المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن
وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من
خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة
السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين
الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ،
وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن
العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها
لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على
الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون
إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في
الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف
باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد
يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران
الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة ، وإنما يصار الى مجاز القرآن العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران الطرفين مجتمعين .
مَجازُ القُرآنِ
خصَائصهُ الفَنيَّة وبَلاغَته العَربيَّة
_ 152 _
ثالثا : قرينة المجاز العقلي في
القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه
لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية
بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز ، والقرينة غير
العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال
المجاز .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد
تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة
المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون
بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا
بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة
الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا
متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن
المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن
وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه
الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده
طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل
الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ،
وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
رابعا : علاقة المجاز العقلي ، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه الفصل المتقدم ، كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .
أبغى المجاز في سوره ال عمران او سوره البقرة اذا ممكن قبل يوم الاثنين وشكرا 🖤
ردحذف