من ملامح الصورة الفنية في الأحاديث النبوية
قال الرسول
ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان
ينزلان فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا )
صحيح مسلم / ج 7 / ص 83
هذا الحديث الشريف في مضمونه حث على الإنفاق مما أعطى الله سبحانه و
من بركات نعمائه .
والصورة الظاهرة للعيان كما يقول الرسول الصادق الأمين أن هنالك ملكان ينزلان كلما أصبح صباح ، أحدهم يدعو بالخير للمنفق ( اللهم أعط منفقا خلفا )، والآخر يدعو على من أنعم الله عليه وحجب نعمته عن المحتاجين بأن يبدد الله نعمته ( اللهم أعط ممسكا تلفا ).
والحديث الشريف على مستوى رفيع من البلاغة ، ونسيج صورته الكلية اجتمعت عليها مزايا تتعلق بالمستوى الصوتي ،بما فيه من تداعي الحروف ، والجناس ، والطباق ، والتكرار .والترصيع .
ومزايا تتعلق بالجانب التركيبي .
فالحديث النبوي الشريف في جزئه الأول جاء بأسلوب الخبر من خلال القصر ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ) .
وقد عرف
في نقل الصورة المتضمنة معنى واسع بوضعها بين النفي والاستثناء توكيدا ،وتكثيفا
،وحصرا بين جملة منفية تقابلها جملة مثبتة ، المقصور( يوم ) مسبوق ب (من) الزائدة
للتوكيد لتستغرق جنس (يوم) النكرة ، وبهذا يكون المقصور كل أيام الدهر ،والمقصور
عليه (ملكان ينزلان ) في كل يوم وهو جملة اسمية ؛ صورة فنية لحركة النزول الممتدة
من السماء إلى الأرض تصورها ألف المد في (ملكان ) و (ينزلان )
.
أما المقطع الثاني فهو أسلوب الإنشاء المبدوء بالدعاء ( اللهم أعط منفقا خلفا ) ( اللهم أعط ممسكا تلفا ) الذي كان بين النداء، والأمر المجازي.
أما المستوى الصوتي؛ وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف (3)فقد كان الحديث الشريف حافلا بالإيقاع والتنغيم ؛ وقد كان لجرس الألفاظ أثر كبير في إيضاح الصورة وتجليها من خلال التناغم الذي حصل في توالي حرف الميم إحدى عشرة مرة، واللام اثنتي عشرة مرة، وتعاقب النون، وألف المد ست مرات يقول القاضي الجرجاني ( وإنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار ) (4)
ولاشك أن التكرار قد ساهم من خلال اللمحة السردية القصصية إلى تثبيت المضمون في نفس المتلقي، وتمكنه من خلال المقابلة، والتضاد بين الملك الأول، والملك الآخر ( يقول احدهما ) (يقول الآخر ) ( اللهم أعط) فالتكرار هنا وثيق الارتباط بالمعنى العام ( 5 ). ثم لننظر إلى الترصيع
، والجناس
في أسماء الفاعلين (منفقا )، و ( ممسكا ) الدالين على الحدث، والحدوث في تجددهما بهذا التوازي، والمشاكلة وهما مفعول به أول ، الجناس الناقص ( خلفا ، تلفا ) وهما مفعول به ثان ؛ وكل هذا قد أشرب في الطباق المتقابل مع ضده (منفقا خلفا) (ممسكا تلفا) الذي أضفى على الصورة ألوانا تداخلت مع نغم الألفاظ، وتماهت في ثنايا مضامينها من خلال حركة الألفاظ التي نزل إيقاعها مباشرة في آلة خطية باتجاه الشعور لتتعامل مع القلب والوجدان .
نستنتج من كل ذلك أن مضمون الحديث السامي تآزرت على تصويره كليا مزايا تتعلق بالمستوى التركيبي والمستوى الصوتي .
(من الجزء الثاني من كتابي ملامح الصورة الفنية في الاحاديث النبوية بغداد مطبعة دار الارقم 2010م
التكرار هو تناوب الألفاظ ،وإعادتها في سياق التعبير بحيث تشكل نغما موسيقيا في
الشعر، أو النثر / جرس الألفاظ ودلالتها في البحث البلاغي والنقدي عند العرب د.
ماهر مهدي هلال دار الحرية للطباعة بغداد 1980م ص239

الترصيع وهو أن تأتي الألفاظ متوازية، ومتفقة،
أو تكون متقاربة بعضها مع بعض / جواهر البلاغة أحمد الهاشمي مؤسسة الصادق للطباعة
طهران 1421هـ ص 352
(3) البيان والتبيين ج1 ص 79 وينظر جرس الألفاظ ص 13 )
4ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني ت محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي الطبعة الثانية ص 412


هذا الحديث الشريف في مضمونه حث على الإنفاق مما أعطى الله سبحانه و

والصورة الظاهرة للعيان كما يقول الرسول الصادق الأمين أن هنالك ملكان ينزلان كلما أصبح صباح ، أحدهم يدعو بالخير للمنفق ( اللهم أعط منفقا خلفا )، والآخر يدعو على من أنعم الله عليه وحجب نعمته عن المحتاجين بأن يبدد الله نعمته ( اللهم أعط ممسكا تلفا ).
والحديث الشريف على مستوى رفيع من البلاغة ، ونسيج صورته الكلية اجتمعت عليها مزايا تتعلق بالمستوى الصوتي ،بما فيه من تداعي الحروف ، والجناس ، والطباق ، والتكرار .والترصيع .
ومزايا تتعلق بالجانب التركيبي .
فالحديث النبوي الشريف في جزئه الأول جاء بأسلوب الخبر من خلال القصر ( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ) .
وقد عرف

أما المقطع الثاني فهو أسلوب الإنشاء المبدوء بالدعاء ( اللهم أعط منفقا خلفا ) ( اللهم أعط ممسكا تلفا ) الذي كان بين النداء، والأمر المجازي.
أما المستوى الصوتي؛ وهو الجوهر الذي يقوم به التقطيع، وبه يوجد التأليف (3)فقد كان الحديث الشريف حافلا بالإيقاع والتنغيم ؛ وقد كان لجرس الألفاظ أثر كبير في إيضاح الصورة وتجليها من خلال التناغم الذي حصل في توالي حرف الميم إحدى عشرة مرة، واللام اثنتي عشرة مرة، وتعاقب النون، وألف المد ست مرات يقول القاضي الجرجاني ( وإنما الكلام أصوات محلها من الأسماع محل النواظر من الأبصار ) (4)
ولاشك أن التكرار قد ساهم من خلال اللمحة السردية القصصية إلى تثبيت المضمون في نفس المتلقي، وتمكنه من خلال المقابلة، والتضاد بين الملك الأول، والملك الآخر ( يقول احدهما ) (يقول الآخر ) ( اللهم أعط) فالتكرار هنا وثيق الارتباط بالمعنى العام ( 5 ). ثم لننظر إلى الترصيع


في أسماء الفاعلين (منفقا )، و ( ممسكا ) الدالين على الحدث، والحدوث في تجددهما بهذا التوازي، والمشاكلة وهما مفعول به أول ، الجناس الناقص ( خلفا ، تلفا ) وهما مفعول به ثان ؛ وكل هذا قد أشرب في الطباق المتقابل مع ضده (منفقا خلفا) (ممسكا تلفا) الذي أضفى على الصورة ألوانا تداخلت مع نغم الألفاظ، وتماهت في ثنايا مضامينها من خلال حركة الألفاظ التي نزل إيقاعها مباشرة في آلة خطية باتجاه الشعور لتتعامل مع القلب والوجدان .
نستنتج من كل ذلك أن مضمون الحديث السامي تآزرت على تصويره كليا مزايا تتعلق بالمستوى التركيبي والمستوى الصوتي .
(من الجزء الثاني من كتابي ملامح الصورة الفنية في الاحاديث النبوية بغداد مطبعة دار الارقم 2010م



(3) البيان والتبيين ج1 ص 79 وينظر جرس الألفاظ ص 13 )
4ـ الوساطة بين المتنبي وخصومه القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني ت محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي الطبعة الثانية ص 412
|
#2
|
![]() عن عمر بن الخطاب عن النبي ![]() جملة شرطية وردت أداة الشرط فيها (لو) وهي حرف امتناع لامتناع أي امتناع الجواب لامتناع الشرط، وقد ورد فعل الشرط (إنكم توكلون على الله حق توكله ) ويقول النحويون أن لو إذا تلتها أنَّ واسمها وخبرها فان هذه الجملة تكون في محل رفع فاعل لفعل محذوف تقديره ثبت والتقدير ( لو ثبت توكلكم على الله )[2] وهذا الحذف هو آكد من ذكره بامتناعه، وإنَّ حذف التاء من (تتوكلون ) تنسجم مع انحسار الفعل وعدم تكراره والإكثار منه وقد يتضح ذلك من ان هذا التوكل وان كان حاصلا لم يكن ذلك التوكل الصادق الخالص، وهذا ما يوضحه ويفصح عنه ما ناب عن المصدر وهو( حق توكله) حيث ورد (حقَّ) نائبا عن المفعول مطلق والمصدر الحقيقي ورد مضاف إليه وقد ورد جواب الشرط ل (لو) كما هي البنية التركيبية التي يرد عليها وهي لام التوكيد الواقعة في جواب الشرط مع الفعل الماضي ( لرزقكم)؛ ولكن ذلك أفضى الى صورة فنية قائمة على التشبيه (كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا )، وهذه صورة للطبيعة الحية المتحركة يلونها التوازن بين جملتين تصوران حال الطير (تغدو خماصا[3]) (تروح بطانا) انه توازن في البناء الصرفي تنبثق منه موسيقى داخلية تلونها المقابلة ويتجلى الحال (خماصا) و(بطانا) فضلا عن ذلك ان بريق التكرار ولمعانه في الحديث الشريف أضاء المضمون وفكرته، وساهم في رقي إيقاعه المؤكد لمعناه (توكلون) (توكله) (رزقكم) (يرزق)[4] وفي الحديث الشريف وردت اللام مع لفظ الجلالة (الله ) أربع مرات وفي ذلك التداعي ما يفضي إلى الرقة والليونة في الخطاب منسجمة مع تعامل الرسول ![]() ![]() (ولو أنكم توكلون) على الله نجد صيغة ( تفعل ) لاتعني التكلف في التوكل وهو أحد معانيها ولكن (حق توكله) أفضت به الى معنى صيرورة الفاعل صاحب ما يدل عليه الفعل حقا[5] بحيث اشرب قلب المسلم بالتوكل وأصبح عمله. [1] التَوكُّل في اللغة : إظهار العجز والاعتماد على غيرك، والاسم التكلان ، واتكلت على فلان في أمري إذا اعتمدته / لسان العرب 15 : 273 والتوكل : هو الثقة بما عند الله ، واليأس عمّا في أيدي الناس/ التعريفات أبو الحسن علي بن محمد بن علي الجرجاني المعروف بالسيد الشريف ت816 هـ ، دار الشؤون الثقافية بغداد ،1986م ص43 وقال ابن رجب الحنبلي في كتابه جامع العلوم والحكم في تعريفه شرعا ( هو صدق اعتماد القلب على الله عو وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها ،وأن يَكِلَ العبد أموره كلها إلى الله جل وعلا ، وأن يحقق إيمانه بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا يضر ولا ينفع سواه ) وبمعنى آخر هو الثقة بالله ![]() [2] شرح ابن عقيل ج2 /386 [3] خمص : الخَمُصان والخُمُصان : الجائع الضامر البطن، والانثى خَمْصانة وخُمْصانة ،وجمعها خماص ومنه الحديث :( كالطير تغدو خماصا وتروح بطانا) أي تغدو بكرة وهي جياع وتروح عشاء وهي ممتلئة الاجواف ؛ ومنه الحديث الآخر:( خماص البطون خِفاف الظهور) أي انهم أعفة عن أموال الناس فهم ضامرو البطون من اكلها خِفاف الظهور من ثقل وزرها / لسان العرب، دار صادر 5/ 158 [4] سبق أن بينت جملة الشرط ب(لو) من خلال حديث نبوي شريف هو( لو ان الناس يعلمون من الوحدة ما اعلم ما سار راكب بليل وحده ) وذكرت أنها من الأساليب الأثيرة لدى الرسول ![]() [5] عمدة الصرف 36ــ 37 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق