الاثنين، 3 مارس 2014

تجليات التناص في الشعر العربي القديم

بعد ظهور مصطلح التناص تناول النقاد مشكلة السرقات من جديد في ضوء هذا المفهوم الوارد من الغرب، وإن كانوا لم يتجاوزوا الاستعراض والتنبيه إلى التشابه والاختلاف بين هذا وذاك منصرفين جزئيا أو كليا إلى تعريف التناص كما ورد علينا من الغرب ومجرين مفاهيمه بحذافيرها في تطبيقاتهم على النص العربي، لا نكاد نستثني منهم غير د.محمد مفتاح الذي اتجه في تنظيره إلى تركيب المفاهيم المختلفة، لجعلها أكثر إجرائية وعلمية في التناول، بغض النظر عما يقال عن تطبيقاته. وقد كان المغاربة بهذا سباقين إلى الموضوع تعريفا وتطبيقا وتنظيرا، خاصة في كتابات د.محمد بنيس، ود.محمد مفتاح، بالإضافة إلى تطبيقات عبد الله راجع السائرة على هدي ما سطره د.محمد بنيس في (ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب) . وأخيرا دراسة د. محمد علي الرباوي الموسعة عن شعر المغرب الشرقي.
وهذا لا يعني عدم اهتمام النقاد والدارسين العرب من الأقطار الأخرى بالموضوع، فقد انتشرت ، منذ سنوات الثمانين، وبسرعة، الدراسات التي تعنى بهذه الظاهرة ، ولكننا نكتفي هنا بتقديم قراءة خاصة لأحد الرواد المغاربة في هذا المجال، وهو د. محمد بنيس.

تناول د. محمد بنيس ظاهرة التناص في رسالته “ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب” وفي أطروحته “الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها”. وطبعتها نفس الرؤية، وإن كانت الاستفادة من الأدوات المعرفية أوسع في الثانية منها في الأولى. وفي البحثين معا، احتفل، في الجانب النظري، بما أنجز في الغرب، منطلقا من فكرة مسبقة، هي أن القراءة المحدثة تسلك سبيلا مغايرا و”متقدما” عما كانت عليه قديما ()، دون أن يقدم على صحة الدعوى أي دليل من هذا القديم “المتخلف” !. وإذا كان القديم لا يستحق أن يُبحث له عن مسوغات القدح فيه (يكفي أنه قديم في نظر هذه الحداثة)، فعسى أن يكون لدعوى تقدم القراءة المحدثة من الأسس والأدوات والتأويلات ما يجعل القارئ مقتنعا بها مسلما بطروحاتها.

لهذه الغاية يستعير د. محمد بنيس ثلاثة معايير من كريستيفاKristeva وهودبين Houdbine() يعتبرها بمثابة “قوانين” يقيس بها مدى “الوعي” الذي يتحكم في قراءة الشعراء للنصوص الغائبة( )، وهذه القوانين هي: الاجترار، والامتصاص، والحوار.

ا – فالاجترار، في نظره، كان سائدا في «عصور الانحطاط…حيث تعامل الشعراء مع النص الغائب بوعي سكوني»( ).

ب – والامتصاص مرحلة أعلى من المرحلة الأولى ، يقر بأهمية النص الغائب وقداسته «يعيد صوغه وفق متطلبات تاريخية لم يكن يعيشها في المرحلة التي كتب فيها»( ).

ج – أما الحوار فهو القانون الأعلى في تعامل النصوص مع النص الغائب إذ «يعتمد النقد المؤسس على أرضية عملية صُلبة تحطم مظاهر الاستلاب مهما كان نوعه وشكله وحجمه، لا مجال لتقديس كل النصوص الغائبة مع الحوار…فالشاعر أو الكاتب…يغير في القديم أسسه اللاهوتية ويعري في الحديث قناعاته التبريرية والمثالية…»( ). وفي هذه المرحلة “العليا” يصعد د. محمد بنيس من لهجته خاصة في وصف هذا “القانون” بالصلابة والقدرة على التحطيم والنسف والكفاءة في جرف كل ما هو مقدس. وهي لغة إيديولوجية عنيفة ما انفك يؤاخذه عليها النقاد( )، يقول د. محمد العمري: «ومن الأكيد أن كتابة صفحات من التمجيد للشعر المعاصر والقدح في تقاليد وقوانين الشعر عند العرب وفي الاجترار والمجترين من شأنه أن يشغل الباحث عن النظر في آليات تطور الأشكال وفاعليتها»( ).

والظاهر أن الباحث استعار هذه “القوانين” من الغرب دون أن يجري عليها أي تغيير يخضعها للمجال التداولي الجديد فاكتفى ب”اجترار” تلك المصطلحات بمفاهيمها الأصلية، وكأنه أراد بذلك أن “يكرر” تجربة (تيل كيل) في دعوتها إلى التمرد والنسف والهدم لكل القيم بعد فشلها في الميدان السياسي. وقد انتبه د. محمد مفتاح إلى أن اختزال بعض الدراسات، التناصَّ أو الحوارية في السخرية مرتبط بهذا المد الاحتجاجي والاعتراضي( )على مستوى الواقع الإيديولوجي «فالمفهوم[كما يقول] نشأ في ظروف اعتراضية: الاعتراض على المؤسسات السياسية والثقافية والعلوم الرائجة. وكانت شعارات المرحلة هي القطيعة، والإبدال … والفوضى … والعماء… والتناص…من زمرة هذه المفاهيم الثورية…»( ).

إن هذه المصطلحات(الاجترار، والامتصاص، والحوار) ذات الحمولة المغرضة تؤدي في النهاية إلى تمجيد بعض النصوص بحسب “درجة وعي” أصحابها، واتهام آخرين بعدم الوعي. أو على الأصح، بحسب درجة الهدم للمقدس أو عدمه. فالشعرية، بهذا المنظور ، يكمن سرها في هذا الهدم، وهو المقياس الذي سبق لأدونيس أن رفع به شاعرية وحداثة جبران( )، وأراد به د.محمد بنيس الرفع من شأن شعر اليسار؛ إذ هناك شعر حديث، فشعر حر، ثم شعر “معاصر” هو شعر اليسار( ). 

هذه بعض المنطلقات النظرية للباحث، سرد بعدها، في “ظاهرة الشعر المعاصر” مجالات التناص، زاعما أن اهتمامات الشعراء المغاربة “المعاصرين” : «بلغت حدا لم يكن يخطر على بال الشعراء الذين سبقوهم من كلاسيكيين ورومنسيين…ذلك أن الشاعر المغربي المعاصر اتجه بعقله ووجدانه نحو العلوم الإنسانية قديمها وحديثها مع اعتبار تشعباتها في ميادين التاريخ وعلم الاجتماع والفلسفة ثم الفنون غير الأدبية من تشكيل ومعمار وسينما ورقص ومسرح بالإضافة إلى العلوم السياسية والاقتصادية والقانونية، بل يصل الأمر في بعض الحالات إلى العلوم الرياضية والتجريبية»( ) . ومثل هذا الكلام الذي يدخل في باب المزايدات أكثر مما يدخل في باب العلم، هو الذي وصفه د. أحمد المعداوي بأنه أشبه ما يكون بالحديث عن أبطال الأساطير. وقد صدر منه هو أيضا ما يندرج تحته يوما ما فما تمالك عنه حتى سرد بعضا منه واعترف بتفاهته قائلا:«وبالطبع فإن هذا الكلام الذي يبدو لي الآن أشبه ما يكون بحديث السحرة والراجمين بالغيب إنما أريد به تضخيم ثقافة الشاعر الحديث ومعاناته لتأخذ تجربته وما تتضمنه من رسالة شعرية حجما يؤهلها»( ). وهذه “الذخيرة” الثقافية كما يسميها د. محمد بنيس استفاد الشعر منها، في موضوع التناص، في المجالات التالية:

I-الذاكرة الشعرية: ويقصد بها “جميع الشعر الإنساني” سواء أكان قديما أم حديثا، عربيا أم أجنبيا، باللغة الفصحى أم بالدارجة( ) مما يعلق بأذهان الشعراء، وقد ينسونه، ومع ذلك يتسرب إلى ما يكتبون، وهو ما يعلق كذلك بأذهان القراء فيذكرون منه ما يذكرون وقد تستثير فيهم هذه النصوص ما أنسوه. وهنا يحترس د.محمد بنيس فيسجل ما يكتنف القراءة من صعوبات، وما قد تسقط فيه من زلل غير مقصود ما دام النص الشعري شبكة من النصوص الشعرية الأخرى تمر خلال شبكة من النصوص التي تكون ذاكرة القارئ( ). وبعد هذا التقديم للذاكرة الشعرية يعين المتون الشعرية الكامنة في الشعر المغربي المعاصر كنصوص غائبة فيحددها في:

1.المتن الشعري العربي المعاصر

2.المتن الشعري العربي القديم

3.المتن الشعري الأوربي

4.المتن الشعري المغربي

لينتقل إلى المجالات الأخرى من مجالات التناص:

II- الحضارة العربية: ويجمل في هذا المجال الحديث فيحدد أوجه الحضارة العربية التي يستحضرها الشعر المعاصر في القرآن الكريم، والنص التاريخي والموروث الأسطوري والخرافي والقصصي، والمعارف العلمية والفلسفية والصوفية( ).

III-وجوه الحضارة المغربية: وهذا المجال هو الذي يميز الشعر المغربي عن باقي الشعر العربي في نظر الباحث، ويأتي التاريخ في رأس القائمة بأحداثه وبطولاته، يليه النص الصوفي والفقهي فالخرافة، وغير ذلك من المرويات والمقيدات( ).

IV-الثقافة الأوربية: وعنها يقول الباحث «ويمكن القول بأن هناك مجالين استبدا أكثر من غيرهما بالشعراء الذين ندرسهم؛ وأولهما: الفكر الوجودي…وثانيهما النص الأدبي الاشتراكي»( ) مع قلة اهتمامٍ بالأسطورة اليونانية اهتمامَ الشعراء العرب المشارقة.

بعد المنطلقات النظرية السابقة للتناص، والحصر النظري للنص الغائب في هذه المجالات الأربعة، يصل الباحث إلى مجال التطبيق الذي لا بد وأن القارئ كان ينتظره ليلمس عن قرب “تقدمية” السبيل الذي تزعم القراءة المحدثة بأنها تسلكه. ففي مجال الذاكرة الشعرية، وفي الوجه الأول (المتن الشعري العربي المعاصر)، يورد د.محمد بنيس نموذجا من شعر عبد الكريم الطبال بعنوان “أغنية إلى الصيف”:
مِنْ أَجْلِ أنْ تحمِلَ في يديك يا مسافرا في كل عصرْ
يا تاجرا في الذهب والفجرْ

هديةً لكل واحد من الأهل

المنَّ والسلوى للتائه الغريق في الرمل

النارَ للمنفى( ) في فلاة الموت

النورَ للأعمى، البُرْءَ للأبرص

الأغنياتِ للأطفال البكم

الخيلَ للفرسان

فرشنا الأرض بالورد

حملنا التمر والحليب

جمعنا كل الحب في الأحضان( )
وبعد ذكر هذا النموذج مباشرة يقول الباحث: «هذا النص إعادة كتابة لنص البياتي (من أجل الحب) الذي جاء فيه:
من أجل أن نضحك للشمس
على شواطئ البحار

ونجمع المحار

ونقطف النرجس من حدائق النهار( )

…… ».

ولنتساءل نحن: هل يعتبر نص “الطبال” ، فعلا، إعادة كتابة لنص البياتي ؟ ما هي أوجه التناص بينهما ؟ ما هي العبارات المتشابهة بينهما ؟ هل هي عبارة “من أجل أن” التي وردت في بداية كل من النصين ؟! هل هي كلمة “الحب” التي وردت في آخر نص “الطبال” وفي عنوان نص “البياتي” مما لا يمكن اعتباره بحال تناصا ؟ …إن الباحث يصمت عن هذا ويكتفي في “تحليله”، إن عُد تحليلا، بالقول: «إن إعادة كتابة نص “البياتي” في نص “الطبال” تمت عن طريق امتصاص النص الغائب…وتَمَازَج بالتأكيد مع نصوص أخرى ليظهر على هذا النسج»( ). فهو لم يحدد مظهرا واحدا من مظاهر التناص المزعوم بين هذين النصين، ولم يستطع، من ثم، إقامة دعواه، وهي واحدة، على ساقها، وطفق، مع ذلك ، يتخذها متكأ لإطلاق دعاوى أخرى حين “يؤكد” وجود نصوص أخرى في ذلك النص. فإلى من، يا ترى، يكل ذلك ؟

وللتأكد من صعوبة تلمُّس الظاهرة في بعض النماذج التي يوردها، وللوقوف على التحليل الفقير الذي يصاحب جل، إن لم نقل كل، النماذج التي يعتمدها، يكفي الرجوع إلى رسالته. ولكن، مع ذلك، نورد بعض الأمثلة الأخرى على سبيل الاستئناس؛ فمما صَعُب على الباحث تلمسُ ظاهرة التناص فيه، مثلا، نموذج محمد الميموني مع نص صلاح عبد الصبور، ونقتطف هنا عرضه للنموذجين وتعليقه عليهما دون تصرف لتبين ذلك:
«- نموذج 3- الغروب والشمس المصلوبة-محمد الميموني:
يا أهلَ هذي القريَةِ الكرامْ

مُحْسِنُكُمْ أَتى – ككل عامْ-

ليفرشَ المسجد والضريحْ

ويملأَ الأسماع بكلامه الفصيحْ( )
وهنا أيضا نلتقي بإعادة كتابة لنص صلاح عبد الصبور: 
معذرةً يا صُحبتي، لم تُثْمر الأشجارُ هذا العامْ
فَجِئتُكم بأردأ الطعامْ

ولستُ باخلا، وإنما فقيرةٌ خزائني

مقفرةٌ حقولُ حِنطتي( )
إن النص الأول يعيد كتابة النص الثاني من غير أن يتغير جوهره، وهذا يدل على أن الميموني تعامل مع النص الغائب كنموذج قابل للاستمرار والتجدد، ومن ثم فإن إعادة كتابته اعتمدت على قانون الامتصاص»( ).
انتهى كلام الباحث دون أن نعرف أين يتجلى كل هذا ؟!

أما الشعر القديم، فبعد انتقاده لطريقة حسن الطريبق الذي تعرض لعبارة المجاطي الشعرية المشهورة :
تُسْعِفُني الكأسُ ولا تُسعفني العبارة( )
المتداخلة مع بيت مسلم بن الوليد في قوله:[الطويل]
قصيدٌ وكأسٌ كيف يَـلـتقيـان سَبيلاهُـما في القلب يَـختـلـفانِ( )
متهما إياه باستغلال عواطف الأقدمين( ). وكان د.محمد بنيس محقا في أن يرد مثل هذه النظرة الضيقة إلى العلاقة بين النصوص، قلتُ: يورد بعد ذلك ثلاثة من الأمثلة من الشعر المغربي المستحضر للشعر القديم (السرغيني-المتنبي/بنسالم الدمناتي-طرفة/الكنوني-المعري).
وكانت تعقيبات الباحث عقب كل مثال على النمط:

-«فالشاعر محمد السرغيني يعيد كتابة بيت المتنبي في قصيدته بعدما قام بامتصاص البيت الأصلي حتى أنه ابتعد عن كونه مجرد صدى للمتنبي واستقل بتركيبه الخاص الذي يجعل المتنبي مستمرا ومتدفقا في النص الشعري المعاصر عند السرغيني»( ).

-«إن ما فعله بنسالم الدمناتي هو امتصاص بيت طرفة وإعادة كتابته في سياق لا علاقة له بالسياق الذي وردت[كذا] فيه»( ).

-«ونلاحظ أن محمد الخمار الكنوني أعاد كتابة أبيات المعري وفق قانون الامتصاص، كما فعل الشاعران السابقان، وهذا القانون هو الذي حول تركيب المعري عن مجراه الطبيعي، وقذف به في تركيب ثان له حراراته[كذا] التي لا تخطئها العين المجرِّبة»( ). 

وأرى أن لا جدوى من إيراد مزيد من الأمثلة والشواهد، لأن هذه التعقيبات المقتضبة هي الطريقة الوحيدة التي اتبعها الباحث في جميع النماذج التي تناولها بالدرس. فبعد أن يلاحظ أو يخمن بأن نصا ما يستحضر نصا آخر، يورده دون أن يدل القارئ على مظان التناص؛ ثم لا يحدد مواضع التشابه والاختلاف بين ما تعالق من النصين حتى نستسيغ حكمه النهائي؛ بكون هذا امتصاصا وذلك اجترارا وآخر حوارا كما فعل، مثلا ، ابن رشيق، وبكفاءة عالية في “قراضة الذهب”. هذا مع ما يسم به الباحثُ النقد القديم من تخلف. واحتجاجا لذلك نأخذ أي نموذج للباحث من “تحاليله” للنصوص الشعرية، وهو المستفيد من منجزات الحداثة، نأخذه، قصد مقارنته مع طريقة ابن رشيق –على افتقاره إلى هذه المنجزات- لتبين الفرق. وليكن النموذج مثلا، ما قاله الباحث عن “محمد الخمار الكنوني” في استحضاره “المعري” في المثال السابق، حيث جاء تحليله ذاك تعقيبا على قول الكنوني:
ها أنتم تحت الأرض،
ألِبَعثٍ أو ميلادٍ آخَرَ مِن هذا الرَّحم الأرضي؟

أأقول: بعيدا

فالأرض أمامي موت في موت، قبر في قبر

أ أقول: قريبا( )
وقول المعري [خفيف]:
خَفِّفِ الـــوَطْءَ مــا أَظُنُّ أَدِيم الْـ 
ـأَرْضِ إِلا مِـــنْ هَـذِه الأَجْسَـــــادِ

رُبَّ لَحْد قَدْ صَارَ لَحْدًا مِـــــرارًا 

ضَاحِكٍ مِــنْ تَزَاحُمِ الأَضْدَادِ( ) 
فإذا كان قول د.محمد بنيس هو ذاك، وقد خلص منه بسرعة، فإن ابن رشيق أقام على هذه القضية كتابا هو قراضة الذهب، بيد أنه لن يهمنا هنا غير جزء يسير نقيم به الحجة إن استقامت؛ فقد كان ابن رشيق رثى المعز بن باديس (ت 438 هـ) بكلمة منها : [الطويل]: 
1.أَلَم تَرَهُمْ كَيْفَ اسْتَقَـلُّــــوا بِهِ ضُحـىً 
إلى كَنَــفٍ مــن رَحْمَةِ اللَّهِ واسِـــعِ

2.أمــاَمَ خَميسٍ مَـاجَ في البَرِّ بَـحْـرُهُ 

يَــسيرُ كمَـتْنِ اللُّجّـةِ الــمُــتـدافِعِ

3.إذَا ضَــرَبَـتْ فيه الـطـبـولُ تــتَابَعـتْ 

بِـهِ عـَذَبٌ تَحْكِي ارتِعادَ الأصابعِ

4.تَـجَـاوُبَ نَـوْحٍ بَاتَ يُـنْدَبُ شَجْـوُهُ 

وأَيْدي ثَكَالَى فُوجِئَتْ بــالـفَواَجِعِ( )

واستحسن منها أبو الحسن عليُّ بنُ القاسم اللَّواتيُّ البيتين الأخيرين فعارضه، في ذلك، بعضهم بأن ادعى عليهما السرقة من بيتين لأستاذ ابن رشيق: عبدِ الكريم النَّهشلي حيث يقول: [المنسرح]:

قَـد صـاغَ فــيهِ الــغَمامُ أدمُـــعَه 

دُرًّا وروَّاهُ جَــدْوَلٌ غَــــمْــــرُ 

يَجيشُ فيهِ كـَــأَنّـــَما رَعَــشَــــتْ 

إِلـــيـْــكَ مِنْهُ أَناَمِلٌ عَـــــــشْرُ( )

فبعد إيراد ابن رشيق لهذه الأبيات التي أدُّعيَ عليه فيها السَّرَقُ من أستاذه النهشلي، قال : «فإن كان المعترِض أراد ذِكرَ هذا الارتعاد والارتعاش وذكرَ الأصابع والأنامل فَصَدَق، إلا أن هذا لا يعد سرقة في السَّرَق لعلل شتى؛ منها أن القصد غير واحد…ولو أن هذا الناقد بصير لنظر نظر تحقيق وتأمَّل تأمُّل رفيق فعرف بُعد ما بين المقصدين على قرب ما بين اللفظين…وليس لفظة الارتعاش من خاص البديع فيُعد سرقة كما عُدَّ علينا. وما الذي يشبه أنامل شيخ قائمةً ترتعش كِبَرا حتى شبه عبد الكريم بها ذلك الزبد المقبَّب منبعثا عن مسقط النهر، مِن أصابع ثكلى مبسوطةٍ ترتعد طيشا وجزعا عند مفاجأة المصيبة على عادات النساء، شبهتُ أنا بها تلك العَذَبَ الخافقة!؟»( ).

ففي هذه الفقرة، كما يرى القارئ، يبرز ابن رشيق، بوضوح، موضع التقاطع أو التشابه بين النصين، ولا يكتفي بذكره مجملا وإنما يعدد عناصره بدقة؛ وهي “الارتعاد” و”الارتعاش” و”الأصابع” و”الأنامل”، ثم يأخذ بعد ذلك في بيان اختلاف المقصدين بين الشاعرين باختلاف الموضوعين؛ فالبعد، وليس الاختلاف فقط، لا شك شاسع كما يقرر ابن رشيق بين زبد الماء وبين العذب الخافقة وهي خرق ألوية الجيش( ). وبعد هذا التمييز بين المقصدين والغرضين يأخذ الناقد في بيان أوجه الاختلاف الكامنة بين عناصر الصورة الأكثر دقة ففصلها مظهرا ومخبرا، وكانت كما يلي:
النهشلي ابن رشيق
أ – أنامل قائمة أ – أصابع مبسوطة

ب -شيخ ب –ثكلى

ج – ترتعش ج – ترتعد

د -كبرا د -طيشا وجزعا (عند مفاجأة المصيبة)

هـ – الزبد المقبب هـ – العذب الخافقة

و – مسقط النهر و – [الجيش].
فهذه عمليات تحويل وقلب واضحة لكثير من عناصر نص النهشلي مارسها عليه نص ابن رشيق (ف”أنامل” ليست هي “أصابع”، و”قائمة” ضد “مبسوطة” و”شيخ” يخالف “ثكلى” في أكثر من مقوم…الخ). وهذا هو المطلوب من دارسي التناص فعله، هو أن يفككوا النصين إلى عناصرهما الأولية حتى يتبينوا مواطن التشابه والاختلاف ومواضع ودرجات التحويل في كل عنصر على حدة( )، وحاصل هذه التحولات وأنواعها هو الذي يبرز درجة “انزياح” النص الثاني عن خط سير النص الأول وإن كانا من قبل متقاطعين. ولا مجال للمقارنة بعد هذا بين طريقة ابن رشيق العلمية وطريقة د.محمد بنيس الساقطة في الأحكام العامة والتحليلات النمطية البعيدة كل البعد عن مكونات النص رغم وفرة أدوات تفكيكه في المناهج الحديثة! ثم إن الباحث لا يجانب الصواب فقط في مثل هذه الأحكام العامة والتعقيبات المختزلة، بل يبدو منه غير قليل من التعسف في بعض تأويلاته، كقوله مثلا وهو يتحدث عن امتصاص الشعر المعاصر للقرآن الكريم، بأن القرآن: «يسيطر على شعرائنا، ويطلع من بين أصابعهم في كل دفقة شعرية، يمتصونه ويعيدون كتابته، ولكنهم يخافون محاورته. إن القرآن يظل دائما نصا مقدسا عند الشاعر المغربي المعاصر»( ). ويظهر هذا التعسف في الجمع بين كثرة اللجوء إلى القرآن الكريم وبين الخوف منه وبين القداسة..ثم لنا أن نتساءل أيضا عن هذا الخوف، أهو متواتر في كل قوانين الامتصاص أم أنه مختص بالقرآن الكريم وحده ؟ إن القوانين التي استخرجها د. محمد بنيس من خلال تطبيقاته جاءت كما يلي :
• قانون حوار واحد فقط( )

• وسبعة عشر (17) قانون امتصاص؛ يتوزعها التناص مع الشعر المعاصر والقديم والكلام اليومي لم يعتر فيها الخوف أيا من الشعراء ! إلا ما تعلق بالقرآن الكريم.

ثم، أخيرا، فإن هذا العدد ذاته لقوانين الامتصاص مما يدل –حسب تقسيم التدرج الذي تبناه الباحث- على أن الشعر “المعاصر” لم يحن وقته بعد، لأن المفترض –وهو شعر الطليعة- أن يغلب فيه قانون الحوار، لا قانون الامتصاص الخاص بالشعر الحر!.

لا نريد من هذا أن نقوِّل الباحث ما لم يقل، ولكن يكفي أن تكون تلك إشارة إلى التشويش الكامن في المصطلح والمنهج والرؤية الناتج عن عدم التروي، وعن اتباع الإيديولوجي في التحليل، مع شيء غير قليل من التعالي على القديم…يقول الباحث: «وما يرغمنا على اقتسام آلام القراءة بالنسبة للشعر العربي الحديث، هو أن قانون التداخل النصي لم يعد كما كان عليه في قديم الشعر العربي القائم على النسيان، فالتقليدية تعلي من شأن الذاكرة فيما تعطي الوظيفة القضائية مكان الامتياز والفحولة»( ). بينما تنفي الوظيفة التملكية، التي تسم بعض الشعر المعاصر، الاجترار والتكرار في نظره، فيكون للامتصاص والحوار «سلطة بداية بناء مسكن حر تعلن عنه إيقاعات الذات الكاتبة باستمرار»( ).

والذي من الجدير تسجيله هو أن الباحث طور أدواته بشكل كبير جدا في أطروحته وإن كان قد بقي مشتغلا على نفس القوانين السابقة.

فمن إيجابيات الأطروحة أن الباحث، فيما يتعلق بموضوعنا، اعتمد على الشرح والتحليل وإبراز العناصر الذاتية للمتناصين وتبين عمليات التحويل والقلب مما يعتبر خوضا في صميم التناص؛ ومن ذلك تحليله لقصيدة أدونيس “هذا هو اسمي”؛ فقد لاحظ بأن هذا العنوان( )ذو صلة بالقرآن، وخاصة أسماء الله الحسنى حيث «تتحول الأسماء إلى اسم، وهو تحول يتدخل فيه قانون الحوار الذي أساسه القلب والنفي والتعارض أو المحو…وهذا التداخل النصي المكثف يكشف لنا عن أهمية قلب الخطاب الديني عبر مقاطع النص …واجتلابُ هذا القلب للدلالة الدينية مثبت في قصيدة رامبو (فصل في الجحيم) حيث الابن العاق يكون مصدر كل الانقلابات النصية»( ).

إن الإنجيل والقرآن، في نص أدونيس ، يتحولان، كما يرى د. محمد بنيس، إلى سيافين، والأرض الوردة نقيضهما ونقيض السماء، وفي المقطع الرابع من القصيدة يصير الكتاب “كتبا”، وهذه الكتب ليست منزلة من لدنه تعالى، وإنما هي مستنزلة من قبل البشر لأغراض في أنفسهم، ثم يصير الكتاب في المقطع الخامس «كفنا ويكون الله كالشحاذ مآله السقوط في تابوته»( ). قلت، أخيرا وجد د.محمد بنيس من لا يخاف القرآن –خارج المغرب- وقد كانت منه شكوى في بحثه السابق، من عدم وجود حوار للقرآن . ومع ذلك، فأن يصف الباحث هذه الآليات بأنها آليات قلب وتحويل وصيرورة أو تماثل وتشابه…فمما لا يختلف معه فيه أحد، لأنه وصف تطبعه الروح العلمية لخصائص التفاعل النصي، أما أن يعتبر ذلك “حوارا”، بمعنى أنه “أرقى” تعامل مع القرآن الكريم، فأظن أنه داخل في إطار الإيديولوجي، ومن حق قارئ آخر، في هذا المستوى، أن يعتبر ما قام به أدونيس تدنيسا للمقدس وتقديسا للمدنس، وتطاولا فرعونيا على الذات الإلهية، لا دخل له بشعرية ولا بشاعرية. و”قانون الحوار” هذا، بعدُ، مسألة نسبية؛ لأن ما يعتبره الباحث “حوار” للذات الإلهية، هو في نفس الوقت “اجترار” لما في قصيدة “رامبو” من قبل “أدونيس”! ألم يقل الباحث نفسه بالحرف: «واجتلاب هذا القلب للدلالة الدينية مثبت في قصيدة “رامبو”؛ “فصل في الجحيم حيث الابن العاق “le mauvais sang” يكون مصدر كل الانقلابات النصية»!؟( ) أليس هو الذي يقول:«ومعنى هذا أن نص “أدونيس” وهو يحول النص الغائب الثابت [النص الديني] يعتمد هو ذاته على نص غائب آخر له النفي والتقويض. إنه النص الصوفي وشعر “رامبو” أساسا»؟( ) هو إذن محض “اجترار” بمقاييس الباحث نفسها، ولكنه هنا، عندما يتعلق الأمر بشاعر غربي مثل “رامبو” يكن له كامل الاحترام ! يتحاشى استعمال المصطلح، ويسمي الأشياء بغير أسمائها، فهو “هجرة نص”!، ووسيلة من وسائل قانون الحوار استعملها أدونيس، لأن «قانون الحوار معرفة تواجه معرفة»( ) كما يقول الباحث، ولكن ينبغي أن تكون هذه المعرفة عبارة عن محارَبة للمرجعية الأصيلة، بأخرى غير أصيلة كما هو الحال هنا، وإلا كانت عنده محض اجترار=فالمواجهة، إذن، ينبغي أن تكون ضد القرآن لا بالقرآن عند د.محمد بنيس، لأن المواجهة به، وبقدرة قادر، لا تدخل عنده ضمن “معرفة تواجه معرفة” !. 

-والخطاب الثقافي هو النص الغائب الثاني الذي يكتشفه الباحث في نص أدونيس، دون أن يتغير لديه قانون التداخل النصي الذي هو الحوار( ) «وما يتصدى له أدونيس بالمحو وبقانون الحوار هو “الغبار التراثي” ، لذلك يعيد قراءة تاريخ الكلمة الثابتة لتأسيس “لغة النصل”»( ).

-أما الخطاب السياسي، وهو النص الغائب الثالث في شعر أدونيس فلا يسيره أيضا غير قانون الحوار والمحو لخطاب مقترن بالمقدس ومنتجيه في البلاد العربية( ). وفي نفس الإطار يتناول الباحث قصيدة محمود درويش “أحمد الزعتر” مشيرا إلى وفرة النصوص المتداخلة مع هذه القصيدة، إلا أن الباحث يركز على النوى الرئيسة ويقول: « إن الخطابين التاريخي والسياسي هما النواة المركزية للنص الغائب في هذه القصيدة»( ). ومنذ العنوان يبحث عن موقع القصيدة انطلاقا من مكون العنوان؛ فيرى أن “أحمد” هو أحد أسماء نبي الإسلام ، وثانيهما “الزعتر” وهو اسم المخيم الفلسطيني في بيروت، والجمع بينهما هو جمع بين منتصر ماضيا ومحاصر حاضرا. أما الخطاب السياسي فيفضح فيه التناص هنا قول الأنظمة العربية المخالف لأفعالها تجاه الفلسطيني، كما يفضح الخطاب الصهيوني في إيديولوجيته ودعواه في كون أرض فلسطين أرضه الموعودة( ). وإلى جانب هذين الخطابين هناك الخطاب الديني و«هذا ما يُجَسدنه اسم “أحمد” الذي هو من ناحية يومي وعادي…وهنا نلتقي مرة أخرى مع مفهوم يترسخ في الشعر العربي الحديث، منذ “جبران”، وقد كان “المسيح” هو نصه الغائب في نص السياب…و “علي” في نص “أدونيس”. هذان النصان يقدمان موصوفا بالاستثنائي والخارق، إنه النبي. فيما نجده لدى محمود درويش يوميا وعاديا، ولكنه من جهة ثانية، عربي، تنصهر فيه الديانات والجغرافيات من غير أن تكون له صفة نبوة ناقصة»( )…

لقد أثر د. محمد بنيس بحكم ريادته في إدخال مفهوم النص الغائب إلى الدراسات الأدبية المعاصرة بشكل كبير في بعض الباحثين، أخص بالذكر منهم ذ. عبد الله راجع في رسالته (القصيدة المغربية المعاصرة –بنية الشهادة والاستشهاد)، الذي استعان بنفس المفاهيم و”القوانين” في دراسته للتناص في الشعر المغربي المعاصر. إلا أنه كان مسيئا للحضارة الإسلامية محتقرا إياها مقلدا للمناهج الغربية معجبا بهاز وتلك من كبوات النقد والإبداع العربيين عموما يحسن التنبه لها والعمل على تجاوزها./.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق