السبت، 15 مارس 2014

المرأة بين الواقعيَّة والرَّمزيَّة في شعر محمود درويش

المرأة بين الواقعيَّة والرَّمزيَّة في شعر محمود درويش:
"دراسة فنيّة تحليليّة في نماذج مختارة من أشعاره"
          كانت المرأة منذ القدم عنصراً أساسياً في حياة المبدعين، ضاربة بجذورها في الميراث الإنسانيّ؛ لأنّها تمثّل الجمال، 
والخصوبة، وديمومة الحياة، وظلّت مصدر إلهام لإبداعات حديثة، وفي كلّ مرّة تكتسب رمزيّة جديدة بالإضافة إلى شخصيّتها الواقعيّة. فتجلّت بصورة بهيّة في القصيدة، تضفي عليها رونقها، وتكسو عاطفتها رونقاً خاصاً يشدّ الأوصال النّفسيّة فيها، ويشدّ المستمع للتّمتّع بهذا الشّعر، مرتبطة في ذلك بالغرض الأساسيّ الذي قصده الشّاعر. فظهرت المرأة كرمز دالٍّ على عواطف أراد الشّاعر التّعبير عنها بأفضل وصف؛ فهي الأمّ الحنون، والأخت التي تصون، والزوجة بعطفها ورقتها. كما أنّها الحبيبة، رمزاً من الشّاعر للدّلالة على مدى الشّوق للأرض وللوطن. كما أنّها الأنثى في الدّرجة الأولى، الجامعة لكلّ هذه الصّفات، فغالباً ما خلع عنها شخصها واقتصر على ذكر ما يوحي إلى وجودها، سواء كان هذا الإيحاء حسيّاً أو عذريّاً.
          تقوم هذه الدّراسة على الإحاطة بتجلّيات المرأة بين رمزها وواقعيتها في شعر الشّاعر الفلسطينيّ محمود سليم حسن 
درويش، الذي ولد في الثّالث عشر من مارس عام ألف وتسعمئة وواحد وأربعين، وتوفي في التّاسع من أغسطس عام ألفين وثمانية، حيث إنّ هذا الشّاعر قد ترك ميراثاً شعريّاً كبيراً وثميناً، تناوله الباحثون والدّارسون بغزارة، فنهلوا من شعره وسبروا خباياه الفنيّة البديعة. وبما أنّ مجال البحث لا يقف عند حدود متن معيّن أو نوع محدّد من الدّراسة، فإنّني أردت الخوض مع الخائضين في تحليل جزئية من الكتلة الأدبيّة الشّعريّة عند درويش، فوقع اختياري على دراسة صورة المرأة بين رمزيّتها وحقيقتها، وكيفيّة ظهور كلّ منهما في شعر درويش؛ وذلك من خلال دراسة فنيّة تحليليّة لشعره. والوقوف على طبيعة توظيفه للمرأة في شعره، برمزيتها وحضور طيفها أحياناً، والتّصريح بها وبشخصها أحياناً أخرى.
          تمثّل المرأة في شعر محمود درويش رمزاً للوطن والانتماء، وكلّ ما يمتّ للمنزل من الشّعور بالدّفء والحنان. فقد تناول 
المرأة في شعره بشكل مغاير عن باقي شعراء عصره، حيث إنّ بعض الشّعراء تناولوا المرأة على أساس أنّها أنثى تتجلى فيها صورة العاشقة الرقيقة والجمال، واندفعوا يسلّطون الضّوء على محاسنها وجمالها الظاهر والخبيء، كنزار قبّاني مثلاً، بينما تناول درويش القيم الموجودة في المرأة رمزاً وإنساناً وقيمة؛ وذلك بسبب الظروف التي عاشها الشّاعر في الاحتلال، لذلك تمثّل المرأة شيئاً مقدّساً لديه. ومحمود درويش في ذكره للمرأة جرّدها من خصوصيتها اللغوية والشّعريّة، فلم يجعل لها شعراً أو لغة خاصّة بها، إنّما ذكرها كما ذكر أي موضوع آخر في رؤيته ورسالته للإنسان. وهو في كلّ ذلك يحسن الوصف والتّوظيف. إنّه الشّاعر الذي تمسّك بأرضه وأحبّها حتّى الموت، كرّس فكره وقلمه في سبيل الدّفاع عنها، فكان فكره تجسيداً لكلّ فكر عربيّ، وكان قلمه سلاحاً وتصدّ لعدوان الاحتلال الغاشم، فكان من الطبيعيّ أن تكون الأرض هي الأنثى والحبيبة والرّفيقة التي منها ولد وإليها سيعود، فكان هذا الحبّ هو أسمى أنواع العشق والغرام، لأنّه عاش مع الحبيبة حيّاً، ونام في حضنها ميّتاً، فأتقن التّصوير وأحسن الاختيار.
          كان شعر محمود درويش ومازال محطّ أنظار الدّارسين والباحثين؛ لقيمته الشّعريّة والجماليّة والأدبيّة، غير أنّهم لم يفردوا 
دراسة خاصّة ترصد عمق العلاقة الجدليّة بين المرأة الرّمز والمرأة الإنسان. فهل كان محمود درويش محتذياً في تصويره للمرأة من سبقه من شعراء؟ وهل كان أكثر تركيزه على قيم المرأة وتكوينها الإنساني، ونضوجها الفكري ثم النضالي، بينما أهمل في تصويره لها على أنّها أنثى مرّت حقيقة في حياته؟ ومن هنا تبدو الأهميّة العلميّة لهذه الدّراسة من حيث إفرادها لعنصر المرأة في دراسة خاصّة بها، بحيث تبيّن مدى قدرة درويش على التّجديد في توظيفها، وربطه بين المرأة والأرض من جهة، والمرأة والنّظرة الفلسفيّة لتكوينها من جهة أخرى؛ حيث بلغت الصّورة الشّعريّة في إنتاجه الشّعري عموماً، وشعره المتعلّق بالمرأة خصوصاً مداها الوجدانيّ الموصول بدروب النّضال والحريّة تارة، والعطف والشّوق والحنين تارة أخرى.
إنّني باختياري هذا الموضوع، أحاول جاهداً أن أوضّح التّباين الإيجابيّ بين المرأة بشكلها الصّريح عند درويش، المتمثلة تارة بالأمّ  أوالأخت أوالحبيبة، فنراه يقول عن المرأة الأم:
أحنّ إلى خبز أمّي
وقهوة أمّي
ولمسة أمّي
وتكبر فيّ الطّفولة
يوماً على صدر يوم
وأعشق عمري لأنّي
إذا متّ
أخجل من دمع أمّي
وبين المرأة الرّمز؛ المتمثّلة في الأرض أوالحريّة أوالخصوبة أوالحنان أوالعفّة أوالثّورة، أو الصفات الحسية والنفسية التي أسبغها الشاعر على محبوبته الأرض، فنراه يقول عن أرض فلسطين:
فلسطينيّة العينين والوشم، فلسطينيّة الاسم
فلسطينيّة الأحلام والهم، فلسطينيّة المنديل والقدمين والجسم
فلسطينيّة الكلمات والصّمت، فلسطينيّة الصّوت
فلسطينيّة الميلاد والموت
حملتك في دفاتري القديمة
نار أشعاري
حملتك زاد أشعاري
وباسمك صمت في الوديان
خيول الرّوم أعرفها، وإن يتبدّل الميدان
"
سأكتب جملة أعلى من الشّهداء والقتل
فلسطينيّة كانت ولم تزل".
 سأنهل في هذه الدّراسة من دواوين محمود درويش الشّعرية، ومن خلال بعض النّماذج المختارة من أشعاره التي قالها في البدايات، 
ثمّ أشعاره التي قالها في المهجر، ثمّ أشعاره التي قالها في مرحلة الإبداع الأخير، أو مرحلة الذّروة. مبيّناً أنّ الشّاعر وبكل الأحوال عندما تغزّل بالحبيبة الصّريحة فإنّه قد تطرّق - بطريقة أو بأخرى -  إلى الأرض التي هو منها، أو إلى الحريّة التي طالما نشدها هو وشعبه. موجداً من خلال التّحليل والنّظر في مكنونات الدّواوين الخطّ البيانيّ الذي سار عليه الشّاعر محمود درويش في توظيفه للمرأة، إن كانت في أساسها رمزاً بالنسبة له، أو كانت في بداياتها أختاً أو أمّاً أو حبيبة، ومن عطفها ورقّتها استقى هذه المدلولات. فهل كان درويش يستخرج دلالات المرأة من واقعه الذي عاشه، والشّخصيّات الأنثويّة التي رافقها وعاش معها؟ أم أنّه استقى هذه المدلولات من النّظرة الفلسفيّة الشّاملة التي أحاطت بكلّ شعراء العربيّة، من حيث اعتبروا المرأة ركناً أساسيّاً في القصيدة، وغرضاً لا انزياح عن سبيله في أيّ نص.
          تقوم الدّراسة على المنهج التّحليليّ الذي يتناول جزئيات النّصّ الشّكليّة والضّمنيّة، مع دراسة اللغة الشّعريّة التي وظفها محمود درويش في سياق استخدامه لمفهوم المرأة، أو بالأصحّ المفهوم الأنثويّ. وينقسم البحث الذي يتناول هذه الدّراسة إلى ثلاثة أقسام:
1-   المرأة الرّمز في شعر محمود درويش.
2-   المرأة الأنثى والإنسان في شعر محمود درويش.
3-    مدى التّوافق بين الواقعيّة والرّمزيّة في نظرة محمود درويش الشّعريّة إلى المرأة.
وتتمّ الدّراسة في كلا القسمين الأوّلين بناء على مضمون النّصّ ومناسبته ولغته الشّعريّة، بينما يأتي القسم الثّالث ليوضّح أنّ الحبّ الطّاهر هو الذي يجمع بين المرأة والأرض، وأنّ الواقع الذي عاشه أو فقد جزءاً منه قد ولّد عنده هذه الرّمزيّة. وسأحاول جاهداً بالصّبر والجدّ أن أتخطى الصعوبات التي تغلف هذه الدراسة، من حيث عملية الاستقصاء لدواوين محمود درويش الشّعريّة، والبحث فيها عمّا يفيد ويغني هذه الدراسة. وأرجو من الله التوفيق والهداية لما هو خير وصواب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق