السبت، 8 مارس 2014

امرؤ القيس شاعر الطبيعة والمرأة

امرؤ القيس
شاعر الطبيعة والمرأة

لا نتحدث اليوم عن امرئ القيس لنقف معه على الأطلال، فلسنا بكّائين شكّائين .. وحياتنا هذه لا ينفع معها البكاء ولا العويل.. ليس لدينا الوقت الكافي للوقوف على الأطلال -رغم كثرتها ووفرتها-  ورغم شقائق النعمان تزهر في الدروبْ! فأطلالنا تختلف عن أطلاله، كما تختلف عن أطلال ذاك الشقي الوافد إلينا من عهد أبي نُواس ... وتختلف أيضاً عن أطلال ناجي.
ولا نتحدث اليوم عن امرئ القيس لنشرب معه الخمرة... فهي ليست إلا داءً يضاف إلى أدوائنا... ولا نتحدث عنه لنقتحم معه خدور النساء، وأخبيتَهنّ وحصونَهنّ متجاوزين إليهنّ الأحراس... فلسنا ممن يصلح لهذا أو ذاك... ومع ذلك نتحدث عنه رغم الخلاف معه... وسوف تتحدث عنه الأجيال القادمة إن كان هنالك أجيال قادمة... أو إن كان هنالك أجيال تتحدث!!
نتحدث عن امرئ القيس بن حُجر الكنديِّ النجديِّ العربيِّ الذي كثر الكلام كما كثرت الأقاويل حول تاريخ أجداده، ومقتل أبيه، وتشردِه، وتصعلكه، ووثنيته، ونصرانيته، ومزدكيته، وقصة زاوجه، وقصة أخذه بثأر أبيه، وقصة زواجه في بني طي، وذهابه إلى السموأل، ولحاقه بقيصر الروم، وموته في أنقرة بالحلة المسمومة أو بالجُدَري حيث أمر ملك القسطنطينية بأن يُنحث له تمثال ظل قائماً حتى أيام المأمون.
نتحدث اليوم عن أقدم فحول الشعر العربي لنقول إنه حامل لواء هذا الشعر بكل جدارة واقتدار، وبشهادة النقاد والباحثين والدارسين، ولنقول أيضا إنه صاحب أول مدرسة شعرية في المرأة والطبيعة.. تأثر به على هذا النحو أو ذاك، وبهذه الصورة أو تلك كثير من الشعراء في زمانه وغير زمانه ومنهم من شعراء عصرنا إبراهيم طوقان، ونزار قباني وعلي خليل حمد في بعض قصائده... ومن القدامى عمر بن أبي ربيعة الذي كان يصرّ على أنه المعشوق معبود النساء، ولم يكتف بما ادعاه امرؤ القيس من الوصول إلى كل امرأة أحب وصلها والوصول إليها حتى وإن كانت مرضعاً أو حاملاً... وإذا كان امرؤ القيس في الحقيقة مفرّكا لا تحبه النساء.. وإذا كانت تلك الصور التي رسمها لنفسه من قبيل المبالغات والتمنيات، أو قل تعويضاً عن فشله مع النساء، في معظم الأحيان... فماذا عسانا نقول في قصص ابن أبي ربيعة مع النساء؟ وهل كان هذا الباطل الذي وُضع ليلة رُفع ابن الخطاب يعاني هو الآخر من علة أو علل تنفّر النساءَ منه فلجأ إلى الادعاءات والمزاعم يغطي بها على علله ونقائصه أم أنه كان صادقاً في أقواله واقعياً في شعره معشوقاً محبباً إلى النساء كما يقول؟؟
نتحدث في هذا المساء عن امرئ القيس الذي قال فيه القدامى قولهم: فلبيد، والفرزدق، والحطيئة، وكثيّر، وابن سلاّم، والآمدي، وابن قتيبة، وخلف الأحمر... وغيرهم قد اعترفوا جميعاً بشاعرية هذا الشاعر الذي وضعوه – ربما- على رأس شعراء العربية منذ نشأة هذا الشعر العربي في شبه جزيرة العرب منذ أكثر من سبعة عشر قرناً من الزمان.
نلتقي اليوم شاعر أم مالك، وأمّ جندب، وأمِّ الحويرث وجارتها أمِّ الرباب، وليلى، وسلامة وقذور، وهرٍّ، والرَّباب، وفرتنا، ورقاش، وسليمى، والخنساء، وفاطمة وعنيزة... نلتقي أول من قيّد الأوابد شاعر الفرس، والصيد، والعقاب، والباز، والبقر الوحشية، والناقة، والحمار الوحشي، والظبية، واللقوة (أنثى الغراب) والنعامة، والظليم، وكلاب الصيد... وشاعر البرق والمطر والليل، وصحراء العرب بكل أماكنها وتلالها، وهضابها، ووديانها ونباتها، وشجرها، وحيوانها... وقبائلها ... ديوانه حافل بهذا كله ... وكثير كثير غيره...
أما معلقته فهي أنضج شعره... وهي مطوّلته التي جاءت شاهداً ومثالاً على طبيعة شعر الجاهلية، ومقدار نضجه، وعلى شكل تلك القصائد الناضجة من حيث ابتداؤها بالوقوف على الأطلال، ومساءلتها عن أهلها النازحين عنها... ووصف الفرس أو الناقة التي توصل الشاعر إلى أولئك الأحباب، أو يخرج بها للصيد حتى ينسى ... ومن ذلك أيضاً الغرض الذي من أجله أنشئت المطولة... ولا تخلو تلك القصائد من الفخر والحكمة... ولعل من الضروري هنا أن نذكر أن معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي قد اختلفت عن سائر المعلقات في أنها بدئت بالخمرة... وفي أنها قامت على الفخر.
وقبل أن نشير إلى الخصائص الفنية لشعر أمرئ القيس، أو إلى شيء منها –على الأقل- لا بد من تناول معلقته التي هي خير شعره بشيء من التحليل والتعليق والنقد السريع استيفاءً للبحث، واستكمالاً للفائدة، ووصولاً – من خلال ذلك- إلى تلك الخصائص كلما كان ذلك ممكناً.
يقول الشاعر في "الأطلال والأحبة" من معلقته:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
فتوضحَ فالمِقراةِ لم يعْفُ رسْمها
وُقوفاً بها صحبي عليَّ مطيَّهم
وإنّ شِفائي عَبرةٌ مُهْراقةٌ
كدأبك من أمِّ الحويرثِ قبلها
إذا قامتا تضوَّعَ المسكُ منهما
ففاضتْ دموعُ العين مني صبابةً
                 ***
 
بسقط اللِّوى بين الدَّخولِ فَحَوْمَلِ
لما نسَجَتْها من جَنوبٍ وشمْألِ
يقولون لا تهلِك أسىً وتجمَّلِ
فهل عند رسْمٍ دارسٍ من معولِ
وجارتها أمِّ الرَّباب بمأسلِ
نسيمَ الصَّبا جاءت برّيا القَرَنْفُلِ
على النحر حتى بلَّ دمعيَ مِحْملي
                ***
ألا ربَّ يومٍ لك منهنَّ صالحٍ
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي
فظــل العـذارى يـرتمين بلحمهــا
                    ***
أفاطمَ مهلاً بعض هذا التدلّلِ
أغرّك مني أن حبك قاتلي
وإن تكُ قد ساءتك مني خليقةٌ
وما ذرفت عيناك إلا لتضربي
                   ***
 
ولا سيّما يومٍ بدارةِ جُلجُلِ
فيا عجباً من كُورِها المتحمَّلِ
وشـحمٍ كهُــدّاب الــدمقسِ المفتَّــلِ
                 ***
وإن كنتِ قد أزمعتِ صَرمي فأجملي
وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ
فسلّي ثيابي من ثيابك تنسلِ
بسهميك في أعشار قلبٍ مقتلِ
                 ***
مُهَفْهَفَةً بيضاء غيرُ مُفاضةٍ
كبَكرِ المقاناةِ البياضَ بصفرةٍ
تصد وتبدي عن أسيلٍ وتتقي
وجيدٍ كجيد الرئم ليس بفاحشٍ
وفرعٍ يزين المتنَ أسودَ فاحمٍ
غدائره مستشزراتٌ إلى العُلا
وكشحٍ لطيفٍ كالجديل مخصَّر
وتضحي فتيتُ المسك فوق فراشِها
وتعطو برخصٍ غيرِ شَثْن كأنه
تضيء الظلامَ بالعِشاءِ كأنها
إلى مثلها يرنو الحليم صبابةً
تسلَّت عماياتُ الرجال عن الصِّبا
                     
 
ترائبها مصقولة كالسجنجل
غذاها نمير الماء غيرُ المحلَّلِ
بناظرة من وحش وجرةَ مُطفِلِِ
إذا هي نصّته ولا بمعطَّلِ
أثيثٍ كقِنْوِ النخلةِ المتعثكِلِ
تضل العقاصُ في مثنى ومرسَلِ
وساقٍ كأنبوب السقيِّ المذلَّلِ
نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضلِ
أساريع ظبيٍ أو مساويك إسحِلِ
منارة ممسى راهبٍ متَبتِّلِ
إذا ما اسبَكَرَّتْ بين درعٍ ومجولِ
وليس فؤادي عن هواكِ بمنسَلِ
    
 
لقد وردت الأفكار التالية في هذه الأبيات:
1.    الوقوف على الطلل والبكاء عليه (الأبيات 1-4).
2.    ذكر صاحبتيه قبل فاطمة –أم الحويرث وأم الرباب- (في البيتين الخامس والسادس).
3.    وصف آلام الفراق (في البيت السابع).   
4.    حديثه عن يوم دارة جلجل (الأبيات 8-10).
5.    مناجاته لفاطمة واعترافه بحبها (الأبيات 11-14).
6.    ذكر أوصافها (الأبيات 15-26).
فهي بيضاء تشوب بياضها صفرة كالصفرة التي تشوب بيض النعام... وأما خصرها فلطيف، وهي غير مفاضة الخصر... وأعلى صدرها مصقول متألق كالمرآة... وخدها أسيل أي يميل إلى الطول في رقة ونعومة ... وعينها شبيهة بعين الظبية المطفل كثيرة الحنان... وعنقها شبيه بعنق الظبي مزين معتدل الطول... وشعرها طويل أسود فاحم يضيع المشط فيه يتدلى على ظهرها... وساقها شبيه بأنبوب القصب المروي اللين... وأنملها رخص لطيف ضامر شبيه بالمسواك، أو ببعض الزواحف البيضاء الضامرة... ووجهها يتآلق جمالاً، ويضيء الدجى كمصباح الراهب... وطيبها شبيه بطيب المسك.
ودلالات ذلك كله أنها مترفة منعمة، بيضاء، مهفهفة متفرغة للعناية بنفسها، تتطيب، نؤوم الضحى، تشرب الماء الصافي، رخصة الأنامل ضامرتها، متزينة بالحلي، لينة الساق ناعمة.
أما الألفاظ فهي سهلة واضحة مفهومة ... وإن بدت غريبة أحياناً فما ذلك إلا لطول العهد بيننا وبينها، ثم إن فيها كثيراً من أسماء الأماكن التي لا نعرفها، فتبدو وكأنها كلمات غريبة صعبة غير مفهومة... وكذلك فقد تضمنت كثيراً من الصفات وأسماء الحيوان والنباتات الصحراوية وغير ذلك... فإذا ما تبين الدارس أو القارئ ذلك... وإذا ما تمرس بهذا اللون من الأدب... وعرف كيف يتعامل مع النص، ووقف على حقيقة الأمر بدا كل شيء واضحاً سهلاً مفهوماً لا غموض فيه ولا تعقيد.
أما العاطفة فصادقة مشبوبة في الغزل والوقوف على الأطلال، ومساءلتها عن الأحباب، وبكاء أهلها الراحلين عنها حيث تتحول العاطفة هنا إلى إحساس بالفقد العام، وشعور بالفجيعة والمرارة، وانهيار عام، أمام الإحساس القاتل بالتلاشي والزوال.
يُجمع النقاد على أن امرأ القيس هو أول من وقف واستوقف، وبكى واستبكى بقوله "قفا نبكِ" ... إنه يبكي ذكرياته وأيام سعادته التي مضت وولت نافرة، ولن تعود... يبكي ذكرياته وأحبته الذين كانوا يعمرون تلك الأمكنة التي يحددها تحديداً جغرافياً... فمنازل الحبيبة بسقط اللوى.. وأين سقط اللوى هذا؟ إنه واقع بين الدخول وحومل.. ثم يذكر "توضح والمقراة" مستعملاً حرف الفاء الذي يفيد الترتيب بمعنى أن "توضح" قبل المقراة، وأنهما تأتيان بعد "الدخول وحومل"... والشاعر هنا مصور متمكن يجيد الرسم  والتصوير، ويعرف أدق التفصيلات عن بيئته... ويعبر عن ذلك كله بإيجاز... والإيجاز هو البلاغة كما قالوا.
ثم إننا نرى في هذه الأبيات كثيراً من التشبيهات جاءت إحداها أشبه بالنثر عندما قال: "كدأبك من أم الحويرث قبلها" ... أما باقي التشبيهات فكانت عندما قال: نسيم الصبا... ناقف حنظل.. وشحم كهداب الدمقس المفتل... كبكر المقاناة البياض بصفرة... بناظرة من وحش وجرة مطفل.. وجيد كجيد الرئم ليس بفاحش... أثيث كقنو النخلة المتعثكل.. وكشح كالجديل.. وساق كأنبوب السقي المذلل... أساريع ظبي... كأنها منارة...
كما نرى فيها الكنايات التالية:
- ففاضت دموع العين مني صبابة         على النحر حتى بل دمعي محملي
- غذاها نمير الماء غير المحلل           
- غدائره مستشزرات إلى العلا
- نؤوم الضحى لم تنتطق عن تفضل              
- وتعطو برخص غير شثن
 
ومن أبرز ما يلفت النظر في هذه الأبيات:
* كثرة الصفات، *والواقعية (وهي امتداد للوصفية والمادية)، بسقط اللوى بين الدخول فحومل، فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها... *والسردية (وتمثلها أصدق تمثيل أبياته في دارة جلجل).

 
ومن الخصائص الأسلوبية في النص:
-   انعدام النمو الوصفي.. وشيوع الفوضى الوصفية فيه ... أي التنقل من وصف إلى وصف، ثم العودة إلى وصف ما وُصف ... وهكذا.
-       التأثر بالبيئة الاجتماعية، فجمال المرأة في النص استمده الشاعر من مقاييس الجمال المأثور في ذلك الزمان.
-       تنازعه مع قيم العصر.
-       تهتكه ومجونه وإباحيته في كثير من الأبيات التي وردت في المعلقة، ولم نوردها في النص لأنها تخدش الحياء.
-       الحديث عن أجواء اللهو، وما يرافق ذلك من شواء وأكل.. وما إلى ذلك.
-       ذكر عادة التزين والتطيب.
-       التعبير عن بعض مظاهر الحياة البيتية كالمرآة (السجنجل)، والمشط (المدرى).
-       ظهور أثر البيئة بوضوح في النص كذكر الأطلال... وكذلك ذكر أسماء بعض النباتات والحيوانات والأماكن.
وبعد أن انتهى الشاعر من حديثه الممتع عن (الأطلال والأحبة) والذي استغرق نصف معلقته راح امرؤ القيس يتحدث عن الليل، والفرس، والمطر (على التوالي) في نصفها الآخر... وقد أبدع  امرؤ القيس في هذا كله إيما إبداع... وما قيل في نقد النصف الأول يمكن أن يقال في نقد النصف الثاني مع فوارق متعلقة بطبيعة النص وخصوصيته وطرق معالجته... آملاً أن يتاح لي تناول النصف الثاني من المعلقة في لقاء آخر إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق