الجمعة، 21 فبراير 2014

القصه بين احمد شوقي و حافظ ابراهيم


القصه بين احمد شوقي و حافظ ابراهيم

قبل 75 عاماً فقدت مصر أكبر شعرائها، حافظ إبراهيم وأحمد شوقي، سبق حافظ شوقي إلى الموت بأيام.. وثمة رواية شهيرة تقول إنه حين توفي حافظ ابراهيم كان شوقي بالاسكندرية، ودخل عليه سكرتيره ليبلغه نبأ وفاة "الصديق اللدود"، وكان كتم الخبر عنه ثلاثة أيام ـ عامداً ـ لرغبة السكرتير في إبعاد الأخبار السيئة عنه "...كان شوقي شديد التشاؤم بأخبار الموت في أيامه الأخيرة"، كما أن السكرتير كان يعلم بأنه على الرغم من التنافس الطاحن بين شوقي وحافظ على عرش الشعر العربى آنذاك، فإن حافظ كان قريباً إلى قلب شوقي.. وحين ألقى السكرتير بالخبر في وجه "أمير الشعراء"، شرد شوقي لحظات ثم رفع رأسه وقال أول بيت من مرثيته الشهيرة لحافظ:
"قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء".



هكذا كانت العلاقة بين القطبين، ندية، تنافس، تنازع على امتلاك ناصية الشعر، ومودة، وتعلّق، لا يستطيع أحدهما فراق الآخر، وليس من قبيل المصادفة أن يغيّب الموت شوقي بعد رفيقه بأيام!...
كانت العلاقة بين أحمد شوقي ـ حامل لقب أمير الشعراء الذي لم ينله شاعر عربى سواه من العصور الجاهلية إلى اليوم ـ و"شاعر النيل"، حافظ إبراهيم، علاقة تنافس إذن، وهذه العلاقة ألهبت خيال الكتاب فألفوا عنها الكتب وأوردوها في أعمال أدبية وسينمائية وتلفزيونية شتّى، غير أن أحداً لم يسجّل "القيمة" الكامنة وراء هذه العلاقة بعناية..!
لم يعرف أن بين شوقي وحافظ تنافساً إلاّ من هجائياتهما الشعرية المتبادلة، ولم تقع تلك الهجائيات سوى قبيل ثورة الشعب ضد الاحتلال (1919)، ليس ثمة علاقة بين الحدث وبين الهجاء... مصادفة محضة، لكن المعنى واضح وهو أن الأعوام العشرين الأخيرة في حياتهما ـ وحدها ـ هي التي شهدت ذلك الصراع الشعري، لأن الساحة لم تكن تتحمل سوى أمير واحد للشعر.



لكن الصراع لم يفقد للود بين حافظ وشوقي قضية، والمتأمل لهذا التهاجي المتبادل بين القطبين تصيبه حيرة شديدة، فكيف يصل الهجاء إلى هذه الحدة القاطعة، فيما تتصل المجالس الودودة الحميمية بين الشاعرين نفسيهما اللذين يتبادلان هذا الهجاء؟
ومثال واحد... يكفي!
قال حافظ عن شوقي يهجوه:
يقولون إن الشوق نار ولوعة فما بال شوقي اليوم أصبح بارداً؟!".
ومن يتأمل البيت للوهلة الأولى يشعر أن حافظ يتكلم عن شوقه، وأن الباء الخاصة بالملكية في شوقي عادية، لكن المقصود بها شوقي الشاعر ! لكن شوقي رد عليه بأفظع منها فقال:
حملنا الإنسان وال كـ لـ ب أمانة
فخانها الإنسان... وال كـ لـ ب حافظ".



والمعنى في رد شوقي مفهوم واضح، ولا يحتاج إلى الشرح.. وإن كان فيه تجاوز غير أن حافظ لم يغضب، فمئات الأبيات الهجائية من هذا النوع والتي تبادلها أمير الشعراء وشاعر النيل، كانت تعدّ في هذا الزمان مداعبات ولطائف على سبيل "التنكيت"، فثمة لبس كبير وقع فيه الكتاب والمؤلفون، حين صوروا شوقي وحافظ عدوين، غير أن العلاقة بينهما كانت على النقيض من ذلك.. فهما كانا متنافسين حقاً، ولكل منهما مدرسة شعرية مختلفة تماماً عن مدرسة رفيقه، لكن تشيّع الأدباء وتحزّبهم أدّى إلى انقسامهم بين شوقي وحافظ، وأشاع وهم العداء.. والواقع التاريخي يقول إن أكثر مجالس حافظ لم تكن تخلو من شوقي، وإن مؤتمر الشعراء الذي أسفر عن مبايعة شعراء العرب الكبار من مختلف البلدان الناطقة بالضاد لشوقي بك بإمارة الشعر ـ قبل رحيله بخمسة أعوام ـ كان على رأسه حافظ، وكان حافظ أول المبايعين لشوقي بإمارة الشعر، كما يقول هذا الواقع إن رثائية شوقي لحافظ ـ التي ذكرنا البيت الأول منها ـ هي أرقّ رثائيات شوقي وأصدقها وأقربها إلى المدامع، على كثرة ما قاله شوقي في باب الرثاء!
جاء كل من شوقي وحافظ من منبع مختلف، وإن كان كلاهما انتمى بوجدانه للشعر القديم.. وصب كل منهما كذلك في مصب مغاير، وإن كانا التقيا في الشعر التقليدى الذي ناصبه بعض شعراء عصرهم العداء.




وشوقي من أب كردي وأم تركية، وحافظ من أبوين مصريين، كانت جدة شوقي لأبيه شركسية وجدته لأمه يونانية، وكان حافظ مصرياً إلى سابع أجداده ... وعاشرهم. كان شوقي أحمر الوجه أخضر العينين ذا طلعة توحي بأنه تركي أو يوناني، وكان حافظ أسمر الوجه أسود العينين عربى الوجه واليد واللسان "على قول المتنبي".
ولد شوقي بك في القصور الخديوية، في العام 1868 لوجود علاقة نسب بعيدة يبن أسرته وأسرة محمد على، حتى إنه حين سافر إلى فرنسا ليدرس الحقوق (1887) جاء ذلك على نفقة الخديو توفيق "حاكم مصر من 1879 إلى 1892".
أما حافظ إبراهيم فولد على متن سفينة كانت راسية على النيل أمام ديروط (مدينة بمحافظة أسيوط، وسط صعيد مصر)، توفي والده وهو صغير، وتوفيت والدته بعده بسنوات قليلة، وأتت به قبل وفاتها إلى القاهرة ليعيش في كنف خاله الذي كان رجلاً ضيق الرزق من صغار موظفى الحكومة المصرية.




وهكذا جاء اختلاف المنبع شاسعاً! شوقي يحصل على الشهادة الابتدائية من مدرسة "المبتديان" ـ مدرسة أولاد الأعيان ـ وحافظ يسافر مع خاله إلى طنطا فليتحق بـ "الكتّاب".. شوقي يتنعم بالقصور وحافظ يلمس فقر خاله فيترك البيت ليخفّف عنه صعوبة إيوائه ونفقته، شوقي يسافر إلى فرنسا ليدرس الحقوق في "السوربون"، وحافظ يهيم على وجهه حتى ينتهي به الأمر إلى مكتب محام يدعى محمد أبو شادي ـ صار من زعماء ثورة 1919 فيما بعد ـ ليعمل بالمحاماة زمناً وينفق على تعليمه من جهده الخاص، ثم يلتحق حافظ بالمدرسة الحربية (الكلية الحربية الآن) في العام 1888، ويتخرج فيها بعد 3 سنوات.



يعود شوقي من باريس حاصلاً على ليسانس الحقوق، ليسافر حافظ إلى السودان في حملة للجيش المصري.. تنعقد الصلة بين شوقي وحاكم مصر الجديد الشاب، عباس حلمي الثاني (1892 ـ 1914)، في الوقت الذي يقود فيه حافظ تمرداً للضباط المصريين في السودان على الإنجليز والخديو.. يطيب العيش لشوقي ويصبح كواحد من الأمراء، فيما يحاكم حافظ عسكرياً ويحال إلى الاستيداع بمعاش ضيئل..!
هكذا حكمت الأقدار باختلاف كامل في منابع شوقي وحافظ وفي مجرى نهر حياتهما أيضاً، وهو اختلاف لا يد لأحدهما فيه، فقط كان "الحظ" ومشيئته ! لكن الاختلاف لم يقتصر على ذلك!
نهل شوقي من منابع الشعر العربى القديم، إنه ـ كما كتب د. طه حسين ـ تلميذ مباشر لشعراء الجاهلية الفحول، وامتداد لشعر البحتري والمتنبي؛ ونهل حافظ من محمود سامى البارودي، كان حافظ تلميذاً له، يجالسه ويؤانسه، يحفظ له ويروى عنه، عرفه حافظ بعد أن نفض البارودي غبار المعارك التي قادها ـ وكان البارودي وزيراً للحربية وأكبر الثوار الموالين لعرابي قبل مجيء الاحتلال البريطانى لمصر 1882 ـ وعاد من منفاه كفيف البصر وانصرف للشعر وتخلّى عن الدنيا واحتل مكانه بين الخالدين.



وهنا _ فقط _ التقى شوقي وحافظ، لأن البارودى أخذ شعره من نفس المنابع التي أخذ عنها أحمد شوقي بعد ذلك، وهكذا التقى التجديد في شعر شوقي وحافظ على أرضية واحدة: الأخذ من القديم والتأسيس عليه في هيئة جديدة ! لذلك، لا عجب في أن يوصف البارودي بأنه رائد مدرسة "الإحياء" التي أنقذت الشعر العربي من الضياع على يد اللغة التركية التي أوشك اللسان المصري آنذاك أن يلتوى بها، ولا عجب في أن يوصف شوقي وحافظ بأنهما مجدداً الشعر العربي بعد البارودى، تأسيساً على نظرية د. جابر عصفور، التي تقول إن كل حركات التجديد في الآداب العالمية، بدأت بالالتفات إلى القديم والتأسيس عليه! بالتالى.. صب شوقي وحافظ في نفس المصب حتى تعرضا لانتقادات جيل العقاد والمازنى الذي كان أول جيل يتمرد على الشعر التقليدي!
ولاختلاف الثقافة الأصلية لكل منهما، اختلف المنتج الأدبى لحافظ وشوقي فشوقي له ست مسرحيات شعرية: مصرع كيلوباترا، مجنون ليلى، قمبيز، علي بك الكبير، عنترة، الست هدى؛ ورواية واحدة: "عذراء الهند". وحافظ لم يكتب المسرح، وهو الأمر الذي رده د. محمد مندور قبل 60 عاماً إلى اطلاع شوقي الواسع على الثقافة الفرنسية وهو الأمر الذي لم يتح لحافظ.. وحتى على المستوى الشخصى، كان شوقي يميل إلى سهرات القصور وصحبة الأمراء ـ بحكم نشأته ـ وكان حافظ يميل إلى مجالس الأدباء في مقاهي "وسط البلد" وكانت لديه نزعة "أولاد البلد" المصريين المعروفة، فوصفوه دائماً بأنه "ابن نكتة" سريع البديهة يملأ المجالس بالفكاهة شديد الكرم مع صحبته حتى وصف بالتبذير؛ قال العقاد: "راتب سنة في يد حافظ إبراهيم يساوى راتب شهر"!
وهكذا التقى الضدان حافظ وشوقي على حبّ الشعر، واعترف كل منهما لصاحبه بمكانته، واستطاعا في مصر ـ زمن التسامح ـ أن يحافظا على مودة حميمة ربطتهما، وحولا التنافس بينهما إلى مبارزات شعرية هجائية، ظنها الكثيرون صراعاً، ولم تكن سوى مداعبات متعارف عليها فيما بينهما!...
ونجحا حتى في التغلب على خلافهما السياسي باتساع أفق ملحوظ، فشوقي كان مؤيداً لـ"القصر" دائماً، وكان أشد من هجوا أحمد عرابي وثورته، وكان حافظ مؤيداً للتمرد على القصر، بل كان تلميذاً للثائر العرابى الكبير محمود سامي البارودي.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق