الاثنين، 31 مارس 2014

القصيدة اليتيمة

هي قصيدة الشاعرالحسين بن محمد المنبجي ، وهي القصيدة التي حلف أربعون من الشعراء على انتحالها ثم غلب عليها اثنان هما أبو الشيص والعكوك العباسيان، وتنسب في بعض المصادر إلى ذي الرمة، لكن أول من ذهب إلى أن هذه القصيدة هي لدوقلة هو ثعلب المتوفى سنة 291هـ.

قصة القصيدة

القصة غاية في التراجيديا، وهي أنه كان هناك أميرة في نجد تدعى دعد وقد قطعت عهداً على نفسها أن لاتتزوج إلا لمن يكتب بها ولها أجمل قصيدة، وقد شاع صيتها بين الشعراء في بلاد العرب، وتوافدت الشعراء من كل حدب وصوب على أن تفوز ب"دعد" لكن لم يفلح أحداً في ذلك، وكتب دوقلة القصيدة وانطلق قاصدا دعد في بطحاء الجزيرة العربية، وفي طريقه لنجد وربى نجد ومن أجل دعد، قطع دوقلة المسافات، طلباً للود وبحثاً عن الجمال، وفي طريقه، قابل إعرابياً وتعارفا على بعضهما البعض.
فسأله الإعرابي إلى أين ياأخى العرب؟
فقال دوقلة إلى حمى دعد .
قال الإعرابي: هذا يعني أنك كتبت ملحمتك وأعددت نفسك للقاء الأميرة؟
قال دوقلة : نعم يا أخى العرب.
قال الإعرابي: اسمعني إياها با أخى العرب.
فروى دوقلة القصيدة، وكان من عادة العرب حفظ الشعر من الرواية الأولى عند كثير من رواة العرب، ولما فرغ منها، أعجبت القصيدة الإعرابي، ولكنه لم يحفظها من الرواية الأولى، فطلب من دوقلة أن يعيدها عليه، فكررها ومازال يطلب منه حتى حفظ الإعرابي القصيدة. عندئذ قام الإعرابي وقتل دوقلة وحمل القصيدة في قلبه لدعد، وعندما وصل لبلاط الأميرة أخبروها بقدوم شاعر من بلاد بعيدة، حيث نسي الإعرابي موطنه الأصلي عندما حل في بلاط الأميرة.
طلبت دعد من الشاعر أن يسمعها القصيدة، فبدأ يرتل ويصدح، إلى أن وصل لبيت في القصيدة، حفظته "دعد" (وقد كانت على قدر من الثقافة والمعرفة وحب الشعر) وبعد أن فرغ الإعرابي من تلاوة القصيدة،
قالت دعد: اقتلوه فإنه قاتل زوجي.
فتعجب من في البلاط لفكرة الأميرة وسألوها كيف عرفت أنه قتل زوجها،
فقالت الأميرة، يقول هذا الشاعر في قصيدته
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
فالإعرابي ليس من تهامة ولا في لكنته شيء من هوى نجد.
هذه مأساة شاعر عاشق، وتلك حكاية أميرة تبحث عن الخلود في بحور الشعر. لقد صح بصاحبنا الإعرابي قول العرب:
   
القصيدة اليتيمة
مقتل الرجل بين فكيه
   
القصيدة اليتيمة

نص القصيدة

هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ
أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
درس الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها
فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى
عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ
وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ
وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ
تَلقى شَآمِيَةٌ يَمانِيَةً
لَهُما بِمَورِ تُرابِها سَردُ
فَكَسَت بَواطِنُها ظَواهِرَها
نَوراً كَأَنَّ زُهاءَهُ بُردُ
يَغدو فَيَسدي نَسجَهُ حَدِبٌ
واهي العُرى وينيرُهُ عهدُ
فَوَقَفت أسألها وَلَيسَ بِها
إِلّا المَها وَنَقانِقٌ رُبدُ
وَمُكَدَّمٌ في عانَةٍ جزأت
حَتّى يُهَيِّجَ شَأوَها الوِردُ
فتناثرت دِرَرُ الشُؤونِ عَلى
خَدّى كَما يَتَناثَرُ العِقدُ
أَو نَضحُ عَزلاءِ الشَعيبِ وَقَد
راحَ العَسيف بِملئِها يَعدو
لَهَفي عَلى دَعدٍ وَما حفَلت
إِلّا بحرِّ تلَهُّفي دَعدُ
بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديم
الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ
وَيَزينُ فَودَيها إِذا حَسَرَت
ضافي الغَدائِرِ فاحِمٌ جَعدُ
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ
والفَرعُ مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
وَجَبينُها صَلتٌ وَحاجِبها
شَختُ المَخَطِّ أَزَجُّ مُمتَدُّ
وَكَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت
أَو مُدنَفٌ لَمّا يُفِق بَعدُ
بِفتورِ عَينٍ ما بِها رَمَدٌ
وَبِها تُداوى الأَعيُنُ الرُمدُ
وَتُريكَ عِرنيناً به شَمَمٌ
وتُريك خَدّاً لَونُهُ الوَردُ
وَتُجيلُ مِسواكَ الأَراكِ عَلى
رَتلٍ كَأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
والجِيدُ منها جيدُ جازئةٍ
تعطو إذا ما طالها المَردُ
وَكَأَنَّما سُقِيَت تَرائِبُها
وَالنَحرُ ماءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
وَاِمتَدَّ مِن أَعضادِها قَصَبٌ
فَعمٌ زهتهُ مَرافِقٌ دُردُ
وَلَها بَنانٌ لَو أَرَدتَ لَهُ
عَقداً بِكَفِّكَ أَمكَنُ العَقدُ
وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما
مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت
بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ
فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدُّ
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما
كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدُّ
فَنهوضُها مَثنىً إِذا نَهَضت
مِن ثِقلَهِ وَقُعودها فَردُ
وَالساقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَةٌ
عَبِلَت فَطَوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَهُ
حَجمً وَلَيسَ لِرَأسِهِ حَدُّ
وَمَشَت عَلى قَدمَينِ خُصِّرتا
واُلينَتا فَتَكامَلَ القَدُّ
إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا
يَشفى الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ
قَد كانَ أَورَقَ وَصلَكُم زَمَناً
فَذَوَى الوِصال وَأَورَقَ الصَدُّ
لِلَّهِ أشواقي إِذا نَزَحَت
دارٌ بِنا ونوىً بِكُم تَعدو
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني
أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا
وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدُّ
وَإِذا المُحِبُّ شَكا الصُدودَ فلَم
يُعطَف عَلَيهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
تَختَصُّها بِالحُبِّ وُهيَ على
ما لا نُحِبُّ فَهكَذا الوَجدُ
أوَ ما تَرى طِمرَيَّ بَينَهُما
رَجُلٌ أَلَحَّ بِهَزلِهِ الجِدُّ
فَالسَيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ
وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
هَل تَنفَعَنَّ السَيفَ حِليَتُهُ
يَومَ الجِلادِ إِذا نَبا الحَدُّ
وَلَقَد عَلِمتِ بِأَنَّني رَجُلٌ
في الصالِحاتِ أَروحُ أَو أَغدو
بَردٌ عَلى الأَدنى وَمَرحَمَةٌ
وَعَلى الحَوادِثِ مارِنٌ جَلدُ
مَنَعَ المَطامِعَ أن تُثَلِّمَني
أَنّي لِمَعوَلِها صَفاً صَلدُ
فَأَظلُّ حُرّاً مِن مَذّلَّتِها
وَالحُرُّ حينَ يُطيعُها عَبدُ
آلَيتُ أَمدَحُ مقرفاً أبَداً
يَبقى المَديحُ وَيَذهَبُ الرفدُ
هَيهاتَ يأبى ذاكَ لي سَلَفٌ
خَمَدوا وَلَم يَخمُد لَهُم مَجدُ
وَالجَدُّ حارثُ وَالبَنون هُمُ
فَزَكا البَنون وَأَنجَبَ الجَدُّ
ولَئِن قَفَوتُ حَميدَ فَعلِهِمُ
بِذَميم فِعلي إِنَّني وَغدُ
أَجمِل إِذا طالبتَ في طَلَبٍ
فَالجِدُّ يُغني عَنكَ لا الجَدُّ
وإذا صَبَرتَ لجهد نازلةٍ
فكأنّه ما مَسَّكَ الجَهدُ
وَطَريدِ لَيلٍ قادهُ سَغَبٌ
وَهناً إِلَيَّ وَساقَهُ بَردُ
أَوسَعتُ جُهدَ بَشاشَةٍ وَقِرىً
وَعَلى الكَريمِ لِضَيفِهِ الجُهدُ
فَتَصَرَّمَ المَشتي وَمَنزِلُهُ
رَحبٌ لَدَيَّ وَعَيشُهُ رَغدُ
ثُمَّ انثنى وَرِداوُّهُ نِعَمٌ
أَسدَيتُها وَرِدائِيَ الحَمدُ
لِيَكُن لَدَيكَ لِسائِلٍ فَرَجٌ
إِن لِم يَكُن فَليَحسُن الرَدُّ
يا لَيتَ شِعري بَعدَ ذَلِكُمُ
ومحارُ كُلِّ مُؤَمِّلٍ لَحدُ
أَصَريعُ كَلمٍ أَم صَريعُ ردى
أَودى فَلَيسَ مِنَ الرَدى بُدُّ


كتابة إنشاء أدبي حول نص شعري (قصيدة تعيرني هند)

عرفت المجتمعات العربية ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر بزوغ حركات تحررية ضد القوى الاستعمارية ، و قد رفعت شعار العودة إلى الماضي ، لا سيما في عصوره المزدهرة ، و لم يكن الشعر بمنأى عن ذلك ، إذ واكب تلك الحركات خطاب جديد ، أزاح عن النص اشعري كلفة التلاعب اللفظي ، و الأصباغ البديعية ، و أعاد النظر في مفهوم الشعر و وظيفته ، حيث أصبح الشعر فيض وجدان و تألق خيال ، يسهم في الحث على الفضائل ، و تهذيب النفوس ، بعد أن كان مجرد تسلية و ملهاة ؛ و قد عمل رواد هذا التيار على استلهام التراث الشعري المزدهر ، و ركزوا على الجانب البياني ، فبنوا الصور الشعرية على التشبيه و الاستعارة و المجاز .و لم يكن هذا التيار يخص بقعة جغرافية دون أخرى ، بل شمل الوطن العربي مشرقه و مغربه ، حيث برز البارودي و شوقي و الروصافي و الزهاوي في المشرق ، و برز محمد بن إبراهيم و المختار السوسي و عبد الله كنون و عبد الماك البلغيثي و علال الفاسي في المغرب ، و يعتبر هذا الأخير من المناضلين الذين حاربوا المستعمر عهد الحماية ، و من المصلحين الاجتماعيين بعد الاستقلال ؛ فإلى أي حد يعكس نصه الذي نحن بصدد تحليله خصائص خطاب إحياء النوذج ؟ و ما مدى تمثيل النص لنضال علال الفاسي و علاقته بواقع أمته المأزوم ؟
انطلاقا من شكل النص القائم على نظام الشطرين المتناظرين و وحدة القافية و الروي ، و انطلاقا من العنوان الذي جاء جملة فعلية تدل على التجدد و الاستمرار ، و الذي يحيل على صراع بين الشاعر و هند هذا الاسم الذي له امتدادات في الثقافة العربية القديمة ، و انطلاقا من معنى البيت الأول الذي ينكر فيه الشاعر على نفسه اللعب و اللهو بعد عامه الخامس عشر ؛ نفترض ابتداء أن يتحدث علال الفاسي عن علاقته بهند سبب تعييرها له ، كما نفترض أن يتحدث عن سبب إقباله على الجد في هذا السن المبكر متمثلا معاني الأسلاف ، و متبعا طريقتهم في البناء و التصوير ، فإلى أي حد سيكون هذا الافتراض صحيحا ؟

يبدأ علال قصيدته منكرا على نفسه اللعب بعد مرور عامه الخامس عشر ، هذا العام الذي يعتبر في نظره فاصلا بين مرحلتي اللعب و الجد ، و ذلك الإنكار راجع إلى همته العالية التي تبلغ عنان السماء ، و آماله العريضة التي تذهب هباء إن استمر في اللهو و اللعب ، غير أن إقباله على الجد لا يرجع فقط إلى هذا العامل الذاتي الذي بينه في الأبيات الثلاثة الأولى ، بل يرجع أساسا إلى الوضعية المزرية التي آلت إليها أمته التي لم تجد بعدُ طريقا إلى الحياة الكريمة التي تطمح إليها ؛ و من هنا فإن فتوة الشاعر ، و مرحلة شبابه كانت حسرة و تفجعا على هذا الوضع الأليم الذي جعله لا يستسيغ الطعام ، و لا يلتذ بالشراب ، و لا يهنأ بالنوم ، و حتى إن نام قليلا فإنه كمن يفترش جمر الغضا ؛ كل هذا جعله غريبا بين قومه ، لأن هذه نتيجة حتمية لمن كان تفكيره على هذا النحو .( من هنا الموضوع الأصلي) و هذا العذاب المتنوع لم يكن أثره على الشاعر نفسيا فقط ، و إنما كان جسديا أيضا ، تجلى في نحوله الذي لم يُرْضِ هند ، فعابت الشاعر به و عيرته ، و لكنه يحتمل ذلك و لا يرد عليها ، لأنها تجهل أن سبب نحافته تحسرُه المفرط على وضع أمته ، كما أنها تجهل أن دواءه بسيط ، و هو دمعة تشفي غليله ، لكن أنى له الدموع ؟ فقد جفت مجاريها ، لذا فإنه يصرف الخطاب في الوحدة الأخيرة إلى من يلجا إليه المكروب و ترفع إليه الأيدي ، متمنيا بل راجيا تحقق الشفاء و انتهاء الشقاء ، معبرا عن إيمانه بقضاء الله و قدره . و من هنا يتضح أن الموضوعات التي يثيرها النص لها امتداد في التراث العربي ، و تتراوح بين التغني الذاتي بالهمة العالية و بعد النظر ،( من هنا الموضوع الأصلي ) و التحسر على وضع الجماعة ، التضرع إلى الله عز و جل لكشف الكرب و البلاء .
و الملاحظ أن التيمة المهيمنة على النص هي تيمة التحسر و الأسى ، و قد توزعت عبر حقلين دلاليين : الأول ذاتي يرتبط بالشاعر و الثاني جماعي يعبر عن الأمة .
و يمكن تقسيم معجم الحقل الأول إلى ثلاث مجوعات : 
1 - ألعب - أطرب - لاعبت ...
2 - لي نظر عال - نفس أبية - عندي آمال ....
3 - تحسرا - ما ساغ لي طعم - لا راق لي نوم - أتعذب ..
و هكذا نجد ألفاظ اللهو و اللعب تسيطر على المجموعة الأولى و لكنها وردت في سياق الإنكار و الرفض ، أما ألفاظ المجموعة الثانية فإنها تعكس سبب ذلك الرفض و الإنكار ، إذ نلفيها تعكس قوة عزيمة الشاعر التي تتعارض مع اللهو و اللعب ، بينما يغلب طابع المعاناة على امجموعة الثالثة ، و هذه المعاناة ترجع إضافة إلى علاقة الصراع بين المجموعتين السابقتين ، إلى الحقل الثاني الذي يمثل الجماعة التي ينتمي إليها الشاعر ؛ و من ألفاظ هذا الحقل : ( لي أمة منكودة الحظ - لم تجد سبيلا إلى العيش - أهلي و معشري ..)غير أن حضور هذا الحقل باهت في النص ، مثل قوم الشاعر في الواقع، بل إن ذات الشاعر تسربت إليه عبر ياء المتكلم.
و الذي لا ريب فيه أن بين الحقلين علاقة سببية : فتخلف أمة الشاعر هو سبب معاناته و تحسره ، و ذلك التخلف قد جعله شبه يائس من الإصلاح الذاتي الداخلي ، لذا يتضرع إلى المدد الإلاهي كي يحسم الأمر .و الحقيقة أن هذه المعاني و الأفكار التي عبر عنها الشاعر لها امتداد في ماضي الشعر العربي ، و قد غذاها الشاعر بواقع أمته المأزوم؛ و أول مظاهر ذلك التأثر بالماضي نجده في اختيار اسم هند تلك المرأة التي كانت ترى في نفسها سيدة نساء العالمين ، و التي تسبب كبرياؤها في قتل ابنها الملك بعد أن أنفت أم الشاعر عمرو بن كلثوم أن تناولها الطبق و استغاثت بابنها بعد إلحاح هند ؛ فهند لا تفتأ توقظ الفتن عبر العصور ، و إن كانت في قصيدة علال الفاسي تبحث فقط عن مواصفات الرجل القوي لأن النحافة يتغزل بها في المرأة ، و ليست من سمات الرجال في نظر هند التي ليست الوحيدة من أثار نحولة الشاعر ، فقد سبقتها نساء كثيرات من بينهن تلك التي تعجبت من نحول أبي تمام : 
تَعَجَّبُ أن رأتْ جسمي نحيلا 
كأن المجد يُدْرَكُ بالصراع
فعلال الفاسي نحيل مثل أبي تمام ، و هو مثله أيضا يبين موقف المرأة من هذا النحول ، و إن كانت امرأة أبي تمام اكتفت بالتعجب ، فإنها في بيت علال الفاسي تجاوزت ذلك إلى العيب و التعيير .
كما نجد تغني الشعراء قديما بإقبالهم على الجد فهذا الإمام الشافعي قد قال : 
على قدر الجد تكتسب المعالي 
و من طلب العلا سهِر اليالي 
بل كأن علال الفاسي قد استجاب لنصيحة المتنبي قديما حين قال : 
إذا غامرت في شرف مروم 
فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير 
كطعم الموت في أمر عظيم
كما أن شقاء صاحب الفكر معنى قديم تداوله الشعراء قديما ، حيث أبرز أبو تمام هذه الثنائية الغريبة حين قال : 
و ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم
و تبلغ قمة الاقتباس من القديم أقصاها في البيت التاسع حيث يستدعي علال الفاسي بيت امرئ القيس في معلقته الشهيرة : 
و ان شفائي عبرة مُهَـــــــراقة 
فهل عند رس دارس من معوَّل
فالدموع شفاء للشاعرين رغم اختلاف سبب البكاء ، امر القيس بسبب رحيل الأحباب فهو يبكي على الأطلال ، أما علال الفاسي فبسبب تخلف القوم و الأصحاب ، إلا أن هذا التخلف شبيه بالرحيل ، فواقع شاعرنا يكاد يشبه أطلال امرئ لبقيس ، باعتبار أن الأمة العربية قد رحلت من دنيا الحضارة و التقدم ، و لم تجد بعدُ سبيلا إلى العيش الكريم ؛ و لا يقف استدعاء بيت امرئ القيس عند الصدر ،(من هنا الموضوع الأصلي) بل يتجاوزه إلى العجُز أيضا ، حين نجد نغمة التساؤل حاضرة عند الشاعرين : امرئ القيس يبحث عن شفائه في الرسم الدارس ، بينما يتضرع علال الفاسي إلى الله عز وجل كي يمده بالدموع التي نضبت.
و هذا التشابه الكبير بين البيتين أتاحته البنية الإيقاعية ، إذ سهل بحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن)على علال الفاسي أن يستدعي عبارة كاملة لامرئ القيس : ( و أن شفائي عبرة )=فعول مفاعيلن فعو ؛ و الملاحظ أن هذا البحر قد نظم عليه أغلب الشعراء قديما ، بل هيمن على أجود القصائد ، و يكفينا أن نشير إلى أن ثلاث معلقات من المعلقات السبع قد نظمت على هذا البحر الذي يتيح نفَسه الطويل الحرية للشاعر كي يعبر عن حرقته، و يصف واقع أمته ، و قد اختار الشاعر أن يقفي المطلع لأنه أول ما يقرع السمع ، و لأن الشعراء قديما اهتموا بتجويد مطالعهم بهذا العنصر الإيقاعي ؛ و قد أدى قبض ضرب هذه القصيدة إلى أن تكون قافيتها مطلقة من المتدارك ، و معلوم أن الإطلاق هو ثورة على السكون الذي لا ينسجم و همة الشاعر العالية ، بل إن اختيار صائت الضم كحركة لحرف الروي له دلالة وثيقة بهمة الشاعر القوية و نظره العالي ، أضف إلى هذا فإن حرف الروي ذاته قد جاء منسجما مع إيقاع القصيدة القوي باعتباره حرفا مجهورا انفجاريا شفويا.
كما اعتمد الشاعر على التوازي المقطعي بين الأبيات الثاني و الثالث و الرابع كما يتضح مما يلي : 
حرف عطف (و- و - و ) شبه جملة خبرمقدم (لي -عندي -لي ) مبتدأ مؤخر ( نظر -آمال - أمة) 
ثم يخالف في البيت الخامس عندما يبدأ بجملة فعلية ( قضيت ) ، ليعود إلى التوازي في عجز البيت الخامس و صدر البيت السادس كما يتضح مما يلي : 
حرف نفي (ما - لا - لا ) فعل ماض ( ساغ - لذ - راق ) جار و مجرور مقدم على الفاعل ( لي -.. - لي ) الفاعل ( طعم - مشرب - نوم )
ثم يتخلى عن التوازي في صدر البيت السادس معتمدا على دينامية المؤالفة و المخالفة التي تشد المتلقي و تربطه بالنص ، ليعود إلى التوازي المقطعي مرة أخرى بين البيتين العاشر و الحادي عشر : 
بيت 10 = بيت 11
حرف استفهام : هل
فعل مضارع : يبقى - تلد 
فاعل : الشقاء - الأيام
و الملاحظ أن هذه النماذج من الناحية الدلالية قائمة تارة على الترادف ( لي نظر عال=عندي آمال ، ما ساغ لي طعم = لا راق لي نوم ) و تارة على التضاد ( عندي آمال - لي أمة منكودة الحظ ). 
كما اعتمد الشاعر عل تكرار صامت الهمزة في المطلع أربع مرات ، و معلوم أن هذا الصامت يخرج من أقصى الحلق ، كما يتكرر صامت العين في البيت ذاته ، و في هذا التركيز على الصوامت الحلقية في المطلع دلالة على غصة الشاعر التي لا يستطيع إخفاءها منذ المطلع .
إضافة إلى تكرار بعض الكلمات كالجناس الاشتقاقي في البيت السادس ( نوم - نمت ) و في البيت السابع ( غريبا يغرب )و الذي يسمى في البلاغة العربية رد الأعجاز على الصدور ، و قد أدى الجناس الاشتقاقي وظيقتين مزدوجتين : و ظيفة جمالية تزيينية ، و أخرى دلالية ، لما في ذلك التكرار من تأكيد على المعنى المحمول و لعب بأذن المتلقي .
و لم تقتصر هذه الوظائف على الجانب الإيقاعي بل شملت الصور الشعرية أيضا ، حيث نجد النص غنيا بالصور الشعرية القائمة على المشابهة تارة ، و على المجاورة تارة ثانية ؛ إذ نجد الاستعارة تهيمن على الصور القائمة على المشابهة ، و من ذلك الاستعارة التصريحية ، حيث استعار الشاعر لفتوة عمره و قوة شبابه كلمة زهر من حقل الطبيعة للدلالة على تلك المرحلة الغضة من حياة الإنسان ، كما استعار جمر الغضا الذي لا تخمد جذوته للفراش ، ثم حذف المستعار له و ذكر المستعار منه فقط ، و ذلك للتعبير عن كثرة التقلب و عدم النوم ؛ و فرق كبير بين أن يقول الشاعر زهر عمري و بين أن يقول مرحلة شبابي ، أو بين أن يقول على جمر الغضا أتقلب و بين أن يقول لا أستطيع النوم ؛ حيث إنه إضافة إلى الوظيفة الجمالية التي تجعل النص شعريا ، نجد ذلك التغريب المقترن بالمفارقة الدلالية ، سواء بين الزهر و التحسر كما في الصورة الأولى ، أو بين جمر الغضا و النوم كما في الصورة الثانية . كما اعتمد الشاعر أيضا على الاستعارة المكنية في صدر البيت الحادي عشر حيث شبه الأيام بنساء لهن أرحام ، ثم حذف المشبه به و ذكر أحد لوازمه الذي هو فعل الولادة ، كما رشح هاته الاستعارة حين شبه المصائب و ما "لا يوده "ببنين ثم حذف المشبه به ، و لكنه مفهوم من سياق الجملة ، و إلى جانب الوظيفة التزيينة لهذه الاستعارة ، فإنها تكشف عن إيمان الشاعر الذي أسند الفعل القبيح للأيام - و من هذه الزاوية تصبح الاستعارة مجازا عقليا علاقته الفاعلية - و رجا زواله من الله تعالى . 
كما شكل علال الفاسي صورا شعرية قائمة على المجاورة ، على نحو ما نجد في البيت الثاني ، فقوله : " لي نظر عال " يريد به لازم المعنى الذي هو الطموح و الإرادة القوية التي كنى عنها في العَجُز أيضا بالمقام على هام المجرة ؛ كما اعتمد الكناية في قوله " ما ساغ لي طعم " و " لا لذ مشرب " و " لا راق لي نوم " إذ يقصد همه الذي يلزم عن تلك الأفعال المنفية ، و من هنا فإن هذه الصور كانت ذات وظيفة إقناعية لأنه قدم لنا البينة و الدليل ، إضافة إلى التغريب و التزيين .
و قد زاوج الشاعر في نصه بين الأسلوبين الخبري و الإنشائي ، مع هيمنة ملحوظة للأسلوب الأول عندما يخبرنا الشاعر بهمته و طموحه و و اقع أمته الأليم معتمدا على الخبر الابتدائي ما دام يرى مخاطبه خالي الذهن غير متردد و لا منكر ، بينما اعتمد على الخبر الطلبي عندما تحدث عن حالته بعد تعيير هند له ، و كأنه رأى علامات الشك على محياها فأكد الخبر ب"أن"؛ في حين يحضر الأسلوب الإنشائي بقوة في الوحدة الأخيرة عندما يتضرع الشاعر إلى الله عز و جل من خلال النداء : ( يا رب ) و الاستفهام : ( هل حتى المدامع تنضب ؟ هل يبقى الشقاء مخيما ؟ هل تلد الأيام ما لا أوده؟ ) و الأمر : ( اقض ) ، و قد انتقلت إلى معنى استلزامي قائم اساسا على الدعاء المقترن بتالرجاء ما دام الخطاب موجها من الضعيف الأدنى ( الشاعر ) إلى القوي الأعلى ( الله تعالى ) . بينما كان المعنى الاستلزامي لأسلوب الاستفهام في مطلع النص هو الإنكار ، لأن الشاعر ينكر على نفسه اللعب بعد مرور عامه الخامس عشر . 
و يلاحظ هيمنة ضمير المتكلم على جل أطوار القصيدة ( ألعب - لي - عمري - أهلي - شفائي ....) إلى جانب حضور ضمائر أخرى كضمير الغائب المؤنث المفرد الذي يعود تارة إلى آمال الشاعر ( بلوغها ) و تارة على أمته ( عليها) و ثالثة على هند ( درتْ ) و رابعة على دمعته ( وجدتها ) ، و كذلك ضمير المخاطب المفرد المذكر حين يتوجه الشاعر في الوحدة الأخيرة بالدعاء و التضرع إلى الله عز وجل الحاضر في قلبه و وجدانه : ( تباركت - أنت - اقض ). كما نجد في النص أسلوب التقديم و التأخير كتقديم الخبر ( لي - عندي ..) في الأبيات الثاني و الثالث و الرابع ، و تقديم شبه الجمل على الفاعل في قوله : ( ساغ لي طعم - راق لي نوم ) و كل هذا التقديم كان من أجل لفت الانتباه ، لا سيما و أن المقدَّم كان يقترن دائما بضمير المتكلم الذي يرتبط بذات الشاعر المكلوم مما آل إليه واقع أمته.
و هكذا يتضح أن علال الفاسي قد تمثل خطاب الإحياء ، حين تمثَّل معاني الأسلاف في قصيدته كالجد و الهمة العالية و الارتباط بالجماعة و الإيمان بالقضاء و القدر إلا أن هذا التمثل لم يكن جامدا و إنما امتزج بواقع الشاعر البئيس ، كما يظهر هذا التمثل في شكل النص و خصائصه الفنية ، و ذلك باعتماد الشاعر - كما رأينا - على بحر الطويل و الصور الشعرية البيانية لا سيما الاستعارة و الكناية. و انطلاقا مما سلف نجزم بصحة الفرضية التي أشرنا إليها في المقدمة ، مع الإشارة إلى أن العنوان كان مراوغا لأن العلاقة في النص غير محصورة بين الشاعر و هند كما قد يفهم من الوهلة الأولى ، بل إن حديثه عن هند لم يتجاوز بيتا يتيما ، و هذا ما أضفى جمالية على النص ، و حث القارئ على إعادة قراءته من جديد.


قصيدة "الضبع والغزلان "لتميم البرغوثي

ضبعٌ تهاجمُ سِرْبَ غُزلانٍ فَتَهْرُبُ كُلُّها
رَسَمَتْ حوافرهُنَّ عَشْرَةَ أفرعٍ فى الأرضِ عشوائيةً
والضبعُ تعرفُ أنه لا وقتَ كي تحتارَ فيما بينَها
تختارُ واحدةً لتقتلًها
حياةُ غزالةٍ ومماتُها أمرٌ يُبَتُّ بِسُرْعَةٍ
لا تعرف الضبعُ الغزالةََ، لا عداوةَ، لا تنافُسَ
ربما لو كان يومًا غيرَ هذا اختارتِ الأُخرى
وحتى بعد مقتلِها، سَتَعْجَزُ أن تقولَ الضبعُ إن سُئِلَتْ
لِمَ اختارَت غَزَالَتَها التي قَتلَتْ
ولكنِّي أظنُ الضبعَ تَعلَمُ جَيِّدًا، بِتَوازُناتِ الخَوفِ،
أنَّ السِّربَ، كَلَّ السِّربِ، لَو لم يَرْتَبِكْ، لو قامَ يَرْكُضُ نَحْوَها
طُحِنَتْ عِظَامُ الضبعِ تحتَ حوافرِ الغزلانِ، مُسْرِعَةً
فَقَطْ لَوْ غَيَّر السِّربُ اتِّجاهَ الرَّكْضِ عَاشَ جَمِيعُهُ
وَأَظُنُّ أَنَّ السِّرْبَ يَدرى بِاحتِمالِ نَجَاتِهِ
لكنَّ كلَّ غَزَالةٍ تَخْشَى تَخَاذُلَ أُخْتِها لو أَنَّها فَعَلَتْ
فَتَخْذِلُ أُخْتَها
والأختُ خَائِفَةٌ هِيَ الأُخْرَى فَتُسْلِمُ للرَّدَى تِلكَ التِى خَذَلَتْ
فَتَحيا كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمُفْرَدِها
وَتُقْتَلُ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمُفْرَدِها
وَلَكن، رُبَّما، وَلِرَحْمَةِ الله الكريمِ عِبَادَهُ،
هَجَمَتْ غُزَيِّلَةٌ عَلى ضَبْعٍ بِلا تَفْكِيرْ
وَتَتَابَعَتْ مِنْ بَعدِها الغُزْلانُ، مِثْلَ تَتَابُعِ الأَمْطارِ فِى وِدْيَانِها
في هذه اللحظاتِ تَعْلَمُ أن حُسْنًَا ما عَظِيمًا
سَوفَ يَأتي
ربما وَلَدٌ يُكَلِّمُ أَهْلَهُ في المَهْدِ أو يَتَنَفَّسُ الصُبْحُ الذي فى سُورَةِ التَّكْويرْ
لا أقصدُ التشبيهَ أو سَبْكَ المَجَازِ، ولا أُشِيرُ لِثَورَةٍ عَبْرَ البلادِ،
فَقَطْ أريدُ القَوْلَ والتَّذْكِيرْ
هذا الكلامُ حَقِيقَةٌ عِلْمِيَّةٌ يا أَهْلَنَا
الضبعُ أَضْعَفُ من فَرَائِسِها،
وَأخْوَفُ مِنْهُمو
بِكَثِيرْ.

تعريف التشبيه


تعريف التشبيه
(التشبيه) لغة: هو التمثيل، يقال: (هذا مثل هذا وشبهه).
واصطلاحاً: هو عقد مماثلة بين شيئين أو أكثر وارادة اشتراكهما في صفة أو أكثر بإحدى أدوات التشبيه لغرض يريده المتكلّم.
وفائدته: أن الصفة المراد اثباتها للموصوف، إذا كانت في شيء آخر أظهر، جعل التشبيه بينهما وسيلة لتوضيح الصفة، كما تقول: (زيد كالأسد) حيث تريد اثبات الشجاعة له، إذ هي في (الاسد) أظهر.
أركان التشبيه
وأركان التشبيه أربعة:
1 ـ المشبّه، كزيد.
2 ـ المشبّه به، كالأسد.
3 ـ وجه الشبه، كالشجاعة.
4 ـ أداة التشبيه ـ كالكاف ـ في قولك: (زيد كالأسد) وقد تحذف هذه، كما في (زيد أسد).
ثم ان الركنين الاوّلين: المشبّه والمشبّه به يسميّان بـ(طرفي التشبيه) أو (ركني التشبيه).
طرفا التشبيه وأقسامهما
وطرفا التشبيه على أربعة أقسام:
1 ـ الحسّيان: بأن يكونا مدركين بالحواسّ الخمس الظاهرة التي هي: (الباصرة، السامعة، الذائقة، اللامسة، الشامّة) نحو: (خدّك الورد ألّمته الرياح...).
2 ـ العقليان: بأن لم يكونا مدركين بالحواس الخمس، بل أدركا بالحواس الباطنية: وجدانيّاً كان، أم وهمياً، أم ذهنياً، نحو: (الجهل موت والعلم حياة..).
3 ـ المشبه به عقلي والمشبه حسّي، نحو: (الطبيب الجهول موت معجّل...).
4 ـ المشبه به حسّي والمشبه عقلي، نحو: (العلم كالنور يهدي كل من طلبه...).
طرفا التشبيه إفراداً وتركيباً
ينقسم (التشبيه) باعتبار طرفيه من حيث الإفراد والتركيب إلى أقسام أربعة:
1 ـ تشبيه مفرد:
أ ـ مطلقين كانا، نحو: (طالخدّ كالورد).
ب ـ أم مقيّدين، نحو: (العلم في الصغر كالنقش في الحجر).
ج - أم مختلفين، نحو: (ريقه كالشهد المصفّى) أو (الشهد المصفّى مثل ريقه).
2 - تشبيه مركّب بمركّب، كقوله:
كان سهيلاً والنجوم ورائه            صفوف صلاة قام فيها إمامها
3 - تشبيه مفرد بمركّب، كقولها:
أغرّ أبلج تأتمّ الــهداة بـــه            كـــأنه علـــــم فــي رأسه نار
4 ـ تشبيه مركّب بمفرد، كقوله:
وأسنانه البيض فــي فـمه            تلوح لدى الضحوك كالاقحوان
طرفا التشبيه إذا تعدّدا
وينقسم (التشبيه) باعتبار طرفيه من حيث الإفراد والتركيب إلى أقسام أربعة:
1 ـ التشبيه الملفوف: بأن يجتمع مشبّهان أو أكثر معاً، ومشبه بهما أو أكثر معاً أيضاً، كقوله:
ليــــــل وبــــــــدر وغصــــن            شعــــــر ووجـــــــه وقــــــــدّ
2 - التشبيه المفروق: بأن يجتمع كل مشبّه مع ما شبّه به، كقوله:
انما النفس كالزجاجة والعلــ            ـــــــم سراج وحكمـة الله زيت
3 - تشبيه التسوية، بأن يتعدّد المشبّه دون المشبّه به، كقوله:
صــــــدغ الحبيـــب وحـالي            كـــــــــلاهمــــــا كــــالليالــــــي
4 - تشبيه الجمع، بأن يتعدّد المشبه به دون المشبه، كقوله:
كأنمـــــا يبسم عـــن لـؤلؤ            مـــــُنضّد أو بَــــــرَد أو اُقـــــاح
التشبيه باعتبار وجه الشبّه
ينقسم التشبيه باعتبار (وجه الشبه) الى ستة أقسام:
1 ـ تشبيه التمثيل، وهو ما كان وجه الشبه منتزعاً من متعدّد، كقوله:
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه            يـــوافي تـــمام الشهر ثم يغيب
فشبّه الانسان في أدواره بالقمر في أطواره: هلالاً، وبدراً، ومحاقاً، فسرعة الفناء هو وجه الشبه المنتزع من أحوال القمر.
2 ـ تشبيه غير التمثيل، وهو ما لم يكن منتزعاً من متعدّد، نحو: (زيد كالاسد) فوجه الشبه الشجاعة وهو لم ينتزع من متعدّد.
3 ـ التشبيه المفصل، وهو ما ذكر فيه وجه الشبه أو ملزومه، كقوله:
يـــده كـــالسحب جـــوداً            وإذا مــــا جـــاد أغـــرب
وكقوله للكلام الفصيح: (هو كالعسل حلاوة) فإنّ وجه الشبه فيه هو لازم الحلاوة وهو ميل الطبع، لا الحلاوة الّتي هي ملزوم لوجه الشبه.
4 ـ التشبيه المجمل، وهو مالم يذكر فيه وجه الشبه ولا ما يستلزمه، كقوله:
إنما الدنيا كبيت نسجته الــعنكبوت            ولعمري عن قريب كلّ من فيها يموت
وكقوله: (هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها) أي: متساوون في الشرف.
5 ـ التشبيه القريب المبتذل، وهو ما كان وجه الشبه فيه واضحاً لا يحتاج إلى فكر وتأمل، كتشبيه الجود بالمطر، إلا أن يتصرّف المتكلّم فيه بحيث يخرجه عن الابتذال، كقوله:
لم تلق هذا الوجه شمس نهارنا            إلا بــــوجه لـــيس فـــيه حــياء
فإنّ تشبيه الوجه الحسن بالشمس مبتذل، إلا ان التصرّف فيه بإدخال الحياء أخرجه عن الابتزال.
6 ـ التشبيه البعيد الغريب، وهو ما كان وجه الشبه فيه يحتاج إلى فكر وتأمّل، كقوله:
والشمس كالمــرآة في يكف الاشل            تمشي على السماء من غير وجل
فإن تموج النور حين طلوع الشمس وتشبيهه بالمرآة في اليد المرتعشة التي تتموّج انعكاساتها، يحتاج إلى فكر وتأمّل.
أقسام تشبيه التمثيل
ثم ان تشبيه التمثيل ينقسم إلى قسمين:
الاول: ما كان ظاهر الاداة، كقوله تعالى: (مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً)(1).
الثاني: ما كان خفيّ الأداة، كقولك للمتحيّر: (أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر أخرى) إذ الاصل: أراك في تردّدك، كمن يقدّم رجلاً، ثم يؤخّرها مرّة اُخرى.
وبما ذكرناه من أصل المعنى ارتفع الإشكال، بأن المتحيّر لايؤخّر رجلاً أخرى، وانما يؤخّر الرجل التي قدمّها، وظهرت الاداة المحذوفة وهي المكان الّتي اختفت في اللّفظ.
موارد تشبيه التمثيل
لتشبيه التمثيل موارد كالتالي:
1 ـ أن يأتي في مفتتح الكلام وصدر المقال، فيكون برهاناً مصاحباً فيفيد ايحاء المعنى إلى النفس مؤيّداً بالبرهان، وهذا في القرآن كثير، قال تعالى: (مثل الّذين يُنفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتتْ سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة)(2).
2 ـ أن يأتي بعد تمام المعنى واستيفاء الكلام، فيكون برهاناً عقيب الدعوى فيفيد اثباتها وتأكيدها، وهذا يكون لأحد أمرين:
أ ـ أنّه يكون دليلاً على امكان الدعوى كقوله:
وما أنا منهم بالعيش فيهم            ولـــكن مـعدن الذهب الرُّغامُ
ادعى أنه مع اقامته فيهم ليس منهم، وهذا يبدو مستحيلاً عادةً، فاستدلّ له بهذا المثل وهو: أنّ الذهب مقامه في التراب وهو غيره ليدفع به ما ظهر مستحيلاً.
ب ـ أنّه يكون تأييداً للمعنى الثابت في الدعوى، كقوله:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها            انّ السفينة لا تــجري علــى اليُبس
أدوات التشبيه
أدوات التشبيه ألفاظ تدل على المماثلة، وهي على أقسام:
1 ـ أن تكون حرفاً، كـ (الكاف) و(كانَّ).
2 ـ أن تكون اسماً، كـ (مثل) و(شبه).
3 ـ أن تكون فعلاً كـ (يحكي) و(يضاهى).
وهي قد يلفظ بها، نحو: (زيد كالاسد).
وقد لايلفظ بها، نحو: (أخلاقه ماء زلال...).
والغالب في (الكاف) و(مثل) و(شبه) ونحوها، أن يليها المشبه به لفظاً نحو (زيد كالأسد) أو تقديراً نحو قوله تعالى: (أو كصيّب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق)(3) فإنه بتقدير: أو كمَثَل ذوي صيّب.
كما أن الغالب في (كأنّ) و(شابه) و(ماثل) ونحوها، أن يليها المشبّه، نحو قوله: (كأنّ زيد أسد).
التشبيه باعتبار أداته
وينقسم (التشبيه) باعتبار أداته إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ التشبيه المرسل، وهو ما ذكرت فيه الاداة، وتسميته بالمرسل، لإرساله عن التأكيد، نحو:
ألا إنما الدنيا كمنزل راكــــب            أناخ عشيّاً وهو في الصبح يرحل
2 ـ التشبيه المؤكّد، وهو ما حذفت منه أداة التشبيه، كقوله:
إنــما الدنيا أبو دلف            بـين باديه ومحتضره
فــــإذا ولّى أبو دلف            ولّت الدنيا علـى أثره
ويسمى (مؤكّداً) لإيهامه أن المشّبه عين المشبّه به.
3 ـ التشبيه البليغ، وهو ما حذف فيه أداة التشبيه ووجه الشبه، ويسمّى بليغاً، لبلوغه نهاية الحسن والقبول، لقوّة المبالغة في التشبيه، حتى يظن أن المشبه هو المشبه به، كقوله:
فاقضوا مآربكم عجالاً انما            أعماركم سفر من الاسفار
فوائد التشبيه
للتشبيه فوائد تعود في الأغلب إلى المشبّه وهي:
1 ـ بيان حال المشبّه وأنّه على أيّ وصف من الاوصاف، كقوله:
اذا قامـت لحاجتها تثنت            كأن عظامها من خَيزُران
وهذا القسم يكثر في العلوم، لإفادة حال المشبّه وبيانه.
2 ـ بيان امكان حال المشبّه، إذا أسند اليه أمر مستغرب، لاتزول غرابته الاّ بالتشبيه واثبات أن مثله واقع، كقوله:
انقلاب القوم بعد المصطفى            مــثل هـــود قلّبوا بعد الكلم
3 ـ بيان مقدار حال المشبّه في القوّة والضعف، والزيادة والنقصان، كقوله:
كأنّ مشيتها مـــن بيت جارتها            مــرُّ السحائب لاريث ولا عجل
4 ـ تقرير حال المشبّه وتقوية شأنه لدى السامع حتّى يهتمّ به، كقوله:
إن القـــلوب إذا تنافــر وُدُّهــا            مــثل الــزجاجة كسرها لايّجبر
5 ـ بيان امكان وجود المشبّه، إذا بدى في نظر السامع مستحيلاً، كقوله:
حـــنين الـجذع عند فراق طه            كــما يــتكلّم الشجـــر الــــــكليم
6 ـ قصد مدح المشبّه بما يزيّنه ويعظمه لدى السامع، كقوله:
كأنّك شمس والملوك كواكب            إذا طلعت لــم يبد منهنّ كــوكب
7 ـ قصد ذمّ المشبّه بما يقبّحه ويحقّره، كقوله:
وإذا أشار مـــحدّثاً فـــكأنــّه            قــــرد يقهقـــه أو عـجوز تلطـم
8 ـ بيان طرافة المسبّه بما هو طريف غير مألوف للذهن، كقوله:
وكأنّ محمّر الشقيق إذا تصوّب أو تصعّد            أعلام ياقوت نشرن على رماح زبرجد
التشبيه باعتبار الغرض
ينقسم (التشبيه) باعتبار الغرض المقصود منه، الى قسمين:
1 ـ مقبول، يفي بالغرض المقصود، كما في الامثلة السابقة.
2 ـ مردود، لا يفي ببه، وذلك فيما اذا كان المشبّه به أخفى من المشبّه في وجه الشبه، أو لم يكن بينهما شبه، كقوله (كان خورنقاً دار الكشاجم...).
من تقسيمات التشبيه
ثم إنه ينقسم (التشبيه) باعتبار تعارفه وعدم تعارفه إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ التشبيه الصريح، وهو ما تقدّم من التشبيه المتعارف، مما ليس بضمني ولا مقلوب.
2 ـ التشبيه الضمي، بأن لايجري فيه المشبّه والمشبه به على ما تعارف من صور التشبيه الصريح، وذلك، كقوله:
من يهن يسهل الهوان عليه            مــا لجـــرحٍ بميّت أيــلامُ
فأنّ فيه اشارة الى التشبيه، بمعنى: أنه كما لا يتألّم الميت بالجرح، لا يتألّم من اعتاد الهوان بالهوان، فهو تشبيه على غير المتعارف.
3 ـ التشبيه المعكوس، ويسمّى بالتشبيه المقلوب وهو ما يجعل المشبّه مشبّهاً به، لادعّاء أن المشبه أتمّ وأظهر من المشبّه به، كقول البحتري في وصف البركة:
كأنّها حين لجّت في تدفّقها            يد الخليفة لما سال واديها
ايهاماً الى أنّ يد الخليفة أقوى تدفّقاً بالعطاء من البركة بالماء.

فرق بين الحقيقة والمجاز

 فرق بين الحقيقة والمجاز
الحقيقة‏:‏ ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة‏.‏ والمجاز‏:‏ ما كان بضد ذلك‏.‏ وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عن الحقيقة لمعان ثلاثة وهي‏:‏ الاتساع والتوكيد والتشبيه‏.‏ فإن عدم هذه الأوصاف كانت الحقيقة البتة‏.‏
فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الفرس‏:‏ هو بحر‏.‏ فالمعاني الثلاثة موجودة فيه‏.‏ أما الاتساع فلأنه زاد في أسماء الفرس التي هي فرس وطرف وجواد ونحوها البحر حتى إنه إن احتيج إليه في شعر أو سجع أو اتساع استعمل استعمال بقية تلك الأسماء ولكن لا يفضى إلى ذلك إلا بقرينة تسقط الشبهة، وذلك كأن يقول الشاعر:
علوت مطا جوادك يوم يوم      وقد ثمد الجياد فكان بحرا
 وكأن يقول الساجع‏:‏ فرسك هذا إذا سما بغرته كان فجراً وإذا جرى إلى غايته كان بحراً ونحو ذلك‏.‏ ولو عَرِى الكلام من دليل يوضح الحال لم يقع عليه بحر لما فيه من التعجرف في المقال من غير إيضاح ولا بيان‏.‏ ألا ترى أن لو قال رأيت بحراً وهو يريد الفرس لم يعلم بذلك غرضه فلم يجز قوله لأنه إلباس وإلغاز على الناس‏.‏ وأما التشبيه فلأن جريه يجر ي في الكثرة مجرى مائه‏.‏ أما التوكيد فأنه شبه العرض بالجوهر وهو أثبت في النفوس منه والشبه في العرض منتفية عنه ألا ترى أن من الناس من دفع الأعراض وليس أحد دفع الجواهر‏.‏
وكذلك قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا‏}‏ هذا هو مجاز‏.‏ وفيه الأوصاف الثلاثة‏.‏ أما السعة فلأنه كأنه زاد في أسماء الجهات والمحال اسماً هو الرحمة‏.‏ وأما التشبيه فلأنه شبه الرحمة وإن لم يصح دخولها بما يجوز دخوله‏.‏ فلذلك وضعها موضعه‏.‏ وأما التوكيد فلأنه أخبر عن العرض بما يخبر به عن الجوهر‏.‏ وهذا تعال بالغرض وتفخيم منه إذ صير إلى حيز ما يشاهد ويلمس ويعاين ألا ترى إلى قول بعضهم في الترغيب في الجميل‏:‏ ولو رأيتم المعروف رجلاً لرأيتموه حسنا جميلاً وإنما يرغب فيه بأن ينبه عليه ويعظم من قدره بأن يصوره في النفوس على أشرف أحواله وأنوه صفاته‏.‏ وذلك بأن يتخيل شخصاً متجسماً لا عرضاً متوهماً‏.‏
وعليه قوله‏:‏
تغلغل حب عثمة في فؤادي    فباديه مع الخافي يسير
أي فباديه إلى الخافي يسير أي فباديه مضموماً إلى خافيه يسير‏.‏ وذلك أنه لما وصف الحب بالتغلغل فقد اتسع به ألا ترى أنه يجوز على هذا أن تقول‏:‏ شكوت إليها حبها المتغلغلا فما زادها شكواي إلا تدللا فيصف بالمتغلغل ما ليس في أصل اللغة أن يوصف بالتغلغل إنما وصف يخص الجواهر لا الأحداث ألا ترى أن المتغلغل في الشيء لا بد أن يتجاوز مكاناً إلى آخر‏.‏ وذلك تفريغ مكان وشغل مكان‏.‏ وهذه أوصاف تخص في الحقيقة الأعيان لا الأحداث‏.‏ فهذا وجه الاتساع‏.‏ وأما التشبيه فلأنه شبه ما لا ينتقل ولا يزول بما يزول وينتقل‏.‏ وأما المبالغة والتوكيد فلأنه أخرجه عن ضعف إلى قوة الجوهرية‏.‏
وعليه قول الآخر‏:‏
قرعت ظنابيب الهوى يوم عالج    ويوم النقا حتى قسرت الهوى قسرا
وقول ألآخر:
ذهوب بأعناق المئين عطاؤه     عزوم على الأمر الذي هو فاعله
وقول الآخر‏:‏
غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا    غلقت لضحكته رقاب المال
وقوله‏:‏
ووجه كأن الشمس حلت رداءها      عليه نقي اللون لم يتخدد
جعل للشمس رداء وهو جوهر لأنه أبلغ في النور الذي هو العرض‏.‏
وهذه الاستعارات كلها داخلة تحت المجاز‏.‏
فأما قولهم‏:‏ ملكتُ عبداً ودخلت داراً وبنيت حماماً فحقيقي هو ونحوه لا استعارة فيه ولا مجاز في هذه المفعولات لكن في الأفعال الواصلة إليها مجاز‏.‏ وسنذكره‏.‏
ولكن لو قال‏:‏ بنيت لك في قلبي بيتاً أو ملكت من الجود عبداً خالصاً أو أحللتك من رأيي وثقتي دار صدرق لكان ذلك مجازاً واستعارة لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه على ما مضى‏.‏
ومن المجاز كثير من باب الشجاعة في اللغة‏:‏ من الحذوف والزيادات والتقديم والتأخير‏:‏ والحمل على المعنى والتحريف‏.‏ ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ بنو فلان يطؤهم الطريق ففيه من السعة إخبارك عما لا يصح وطؤه بما صح وطؤه‏.‏ فتقول على هذا‏:‏ أخذنا على الطريق الواطئ لبني فلان ومررنا بقوم موطوئين بالطريق و يا طريق طأ بنا بني فلان أي أدنا إليهم‏.‏ وتقول‏:‏ بني فلان بيته على سنن المارة رغبة في طئة الطريق بأضيافه له‏.‏ أفلا ترى إلى وجه الاتساع عن هذا المجاز‏.‏ ووجه التشبيه إخبارك عن الطريق بما تخبر به عن سالكيه‏.‏ فشبهته بهم إذ كان هو المؤدي لهم فكأنه هم‏.‏ وأما التوكيد فلأنك إذا أخبرت عنه بوطئه إياهم كان أبلغ من وطء سالكيه لهم‏.‏ وذلك أن الطريق مقيم ملازم فأفعاله مقيمة معه وثابتة بثباته‏.‏ وليس كذلك أهل الطريق لأنهم قد يحضرون فيه ويغيبون عنه فأفعالهم أيضاً كذلك حاضرة وقتاً وغائبة آخر‏.‏ فأين هذا مما أفعاله ثابتة مستمرة‏.‏ ولما كان هذا كلاماً الغرض فيه المدح والثناء اختاروا له أقوى اللفظين لأنه يفيد أقوى المعنيين‏.‏
وكذلك قوله سبحانه ‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا‏}‏ فيه المعاني الثلاثة‏.‏ أما الاتساع فلأنه استعمل لفظ السؤال مع ما لا يصح في الحقيقة سؤاله‏.‏ وهذا نحو ما مضى ألا تراك تقول‏:‏ وكم من قرية مسؤولة‏.‏ وتقول‏:‏ القرى وتسآلك كقولك‏:‏ أنت وشأنك‏.‏ فهذا ونحوه اتساع‏.‏ وأما التشبيه فلأنها شبهت بما يصح سؤاله لما كان بها ومؤلفاً لها‏.‏ وأما التوكيد فلأنه في ظاهر اللفظ إحالة بالسؤال على من ليس من عادته الإجابة‏.‏ فكأنهم تضمنوا لأبيهم عله السلام أنه إن سأل الجمادات والجبال أنبأته بصحة قولهم‏.‏ وهذا تناهٍ في تصحيح الخبر‏.‏ أي لو سألتها لأنطقها الله بصدقنا فكيف لو سألت مَن مِن عادته الجواب‏.‏
وكيف تصرفت الحال فالاتساع فاش في جميع أجناس شجاعة العربية‏.‏


أكثر اللغة مجاز
اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة‏.‏ وذلك عامة الأفعال نحو قام زيد وقعد عمرو وانطلق بشر وجاء الصيف وانهزم الشتاء‏.‏ ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية فقولك‏:‏ قام زيد معناه‏:‏ كان منه القيام أي هذا الجنس من الفعل ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام وكيف يكون ذلك وهو جنس والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام‏.‏ ومعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم هذا محال عند كل ذي لب‏.‏ فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتساع والمبالغة وتشبيه القليل بالكثير‏.‏ ويدل على انتظام ذلك لجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل فتقول‏:‏ ِ قمت قومة وقومتين ومائة قومة وقياماً حسناً وقياماً قبيحاً‏.‏ فأعمالك إياه في جميع أجزائه يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها‏.‏ وإنما يعمل الفعل من المصدر فيما فيه عليه دليل ألا تراك لا تقول‏:‏ قمت جلوساً ولا ذهبت مجيئاً ولا نحو ذلك لما لم تكن فيه دلالة عليه ألا ترى إلى قوله‏:‏
لعمري لقد أحببتك الحب كله    وزدتك حباً لم يكن قبل يعرف
فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على استغتراقه واستيعابه وكذلك قول الآخر‏:‏
فقد يجمع الله الشتيتين بعدما      يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه‏.‏ قال لي أبو علي‏:‏ قولنا‏:‏ قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا الأسد ومعناه أن قولهم‏:‏ خرجت فإذا الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك‏:‏ الأسد تعريفه هنا تعريف الجنس كقولك‏:‏ الأسد أشد من الذئب وأنت لا تريد أنك خرجت وجميع الأسد التي يتناولها الوهم على الباب‏.‏ هذا محال واعتقاده اختلال‏.‏ وإنما أردت‏:‏ خرجت فإذا واحد من هذا الجنس بالباب‏.‏ فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازاً لما فيه من الاتساع والتوكيد والتشبيه‏.‏ أما الاتساع فإنك وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد‏.‏ وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بأن جئت بلفظه على اللفظ المعتاد للجماعة‏.‏
وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد وجاء الليل وانصرم النهار‏.‏ وكذلك أفعال القديم سبحانه نحو خلق الله السماء والأرض وما كان مثله ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا ولو كان حقيقة لا مجازا لكان خالقاً للكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا عز وعلا‏.‏ وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضاً لأنه ليست الحال التي علم عليها قيام زيد هي الحال التي علم عليها قعود عمرو‏.‏ ولسنا نثبت له سبحانه علما لأنه عالم بنفسه إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليست حال علمه بقيام زيد هي حال علمه بجلوس عمرو ونحو ذلك‏.‏ وكذلك قولك‏:‏ ضربت عمرا مجاز أيضاً من غير جهة التجوز في الفعل وذلك أنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى وهو أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه ألا تراك تقول‏:‏ ضربت زيداً ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ولهذا إذا احتاط الإنسان واستظهر جاء ببدل البعض فقال‏:‏ ضربت زيداً وجهه أو رأسه‏.‏ نعم ثم إنه مع ذلك متجوز ألا تراه قد يقول‏:‏ ضربت زيداً رأسه فيبدل للاحتياط وهو إنما ضرب ناحية من رأسه لا رأسه كله‏.‏ ولهذا ما يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول‏:‏ ضربت زيداً جانب وجهه الأيمن أو ضربته أعلى رأسه الأسمق لأن أعلى رأسه قد تختلف أحواله فيكون بعضه أرفع من بعض‏.‏
وبعد فإذا عرف التوكيد لم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام ألا تراك قد تقول‏:‏ قطع الأمير اللص ويكون القطع له بأمره لا بيده فإذا قلت‏:‏ قطع الأمير نفسه اللص رفعت المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة لكن يبقى عليك التجوز من مكان آخر وهو قولك‏:‏ اللص وإنما لعله قطع يده أو رجله فإذا احتطت قلت‏:‏ قطع الأمير نفسه يد اللص أو رجله‏.‏ وكذلك جاء الجيش أجمع ولولا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضه وإن أطلقت المجيء على جميعه لما كان لقولك‏:‏ أجمع معنى‏.‏
فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها حتى إن أهل العربية أفردوا له باباً لعنايتهم به وكونه مما لا يضاع ولا يهمل مثله كما أفردوا لكل معنى أهمهم باباً كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم والجزاء ونحو ذلك‏.‏
وبينت منذ قريب لبعض منتحلي هذه الصناعة هذا الموضع أعني ما في ضربت زيداً وخلق الله ونحو ذلك فلم يفهمه إلا بعد أن بات عليه وراض نفسه فيه واطلع في الموضع الذي أومأت له إليه فحينئذ ما تصوره وجرى على مذهبه في أن لم يشكره‏.‏
واعلم أن جميع ما أوردناه في سعة المجاز عندهم واستمراره على ألسنتهم يدفع دفع أبي الحسن القياس على حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة‏.‏ أولا - يعلم أبو الحسن كثرة المجاز غيره وسعة استعماله وانتشار مواقعه كقام أخوك وجاء الجيش وضربت زيداً ونحو ذلك وكل ذلك مجاز لا حقيقة وهو على غاية الانقياد والاطراد‏.‏ وكذلك أيضاً حذف المضاف مجاز لا حقيقة وهو مع ذلك مستعمل‏.‏ فإن احتج أبو الحسن بكثرة هذه المواضع نحو قام زيد وانطلق محمد وجاء القوم ونحو ذلك قيل له‏:‏ وكذلك حذف المضاف قد كثر حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام منه أكثر من مائة موضع بل ثلاثمائة موضع وفي الشعر منه ما لا أحصيه‏.‏
فإن قيل‏:‏ يجيء من هذا أن تقول‏:‏ ضربت زيداً وإنما ضربت غلامه وولده‏.‏ قيل‏:‏ هذا الذي شنعت به بعينه جائز ألا تراك تقول‏:‏ إنما ضربت زيداً بضربك غلامه وأهنته بإهانتك ولده‏.‏ وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة به‏.‏
فإن فهم عنك في قولك‏:‏ ضربت زيداً أنك إنما أردت بذلك‏:‏ ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز وإن لم يفهم عنك لم يجز كما أنك إن فهم عنك بقولك‏:‏ أكلت الطعام أنك أكلت بعضه لم تحتج إلى البدل وإن لم يفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بداً من البيان وأن تقول‏:‏ بعضه أو نصفه أو نحو ذلك‏.‏ ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله قال‏:
صبحن من كاظمة الخص الخرب     يحملن عباس بن عبدالمطلب
‏ وإنما أراد‏:‏ عبد الله بن عباس ولو لم يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بداً من البيان‏.‏
وعلى ذلك قول الآخر‏:‏
عليم بما أعيا النطاسي حذيما
أراد‏:‏ ابن حذيم.
ويدلك على لحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقته في أنفسهم أن العرب قد وكدته كما وكحدت الحقيقة‏.‏ وذلك قول الفرزدق‏:‏
عشية سال المِرْبدان كلاهما      سحابة موت بالسيوف الصوارم
 وإنما هو مربد واحد فثناه مجازاً لما يتصل به من مجاوره ثم إنه مع ذلك وكده وإن كان مجازاً‏.‏ وقد يجوز أن يكون سمى كل واحد من جانبيه مربداً‏.‏ وقال الآخر‏:‏
إذا البيضة الصماء عضت صفيحةٌ     بحربائها صاحت صياحاً وصلت
 فأكد صاحت وهو مجاز بقوله‏:‏ صياحا‏.‏
وأما قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ فليس من باب المجاز في الكلام بل هو حقيقة قال أبو الحسن‏:‏ خلق الله لموسى كلاماً في الشجرة فكلم به موسى وإذا أحدثه كان متكلماً به‏.‏ فأما أن يحدثه في شجرة أو فم أو غيرهما فهو شيء آخر لكن الكلام واقع ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة بكونه متكلماً لا غير لا لأنه أحدثه في آلة نظقه وإن كان لا يكون متكلماً حتى يحرك به آلات نطقه‏.‏ فإن قلت‏:‏ أرأيت لو أن أحدنا عمل آلة مصوتة وحركها واحتذى بأصواتها أصوات الحروف المقطعة المسموعة في كلامنا أكنت تسميه متكلماً وتسمي تلك الأصوات كلاماً‏.‏ فجوابه ألا تكون تلك الأصوات كلاماً ولا ذلك المصوت لها متكلماً‏.‏ وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوه بالآلات التي يصنعونها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها في النفس لعجزهم عن ذلك‏.‏ وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفنا فلا يستحق لذلك أن تكون كلاماً ولا أن يكون الناطق بها متكلماً كما أن الذي يصور الحيوان تجسيماً أو ترقيماً لا يسمى خالقاً للحيوان وإنما يقال مصور وحاك ومشبه‏.‏ وأما القديم سبحانه فإنه قادر على أحداث الكلام على صورته الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما أحب سبحانه وشاء‏.‏
فهذا فرق‏.‏
فإن قلت‏:‏ فقد أحال سيبويه قولنا‏:‏ أشرب ماء البحر وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه وانتشاره‏.‏
قيل‏:‏ إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة وهذا مستقيم إذ الإنسان الواحد لا يشرب جميع ماء البحر‏.‏ فأما إن أراد به بضعه ثم أطلق هناك اللفظ يريد به جميعه فلا محالة من جوازه ألا ترى إلى قول الأسود بن يعفر:
نزلوا بأنقرة يسيل عليهم      ماء الفرات يجيء من أطواد
فلم يحصل هنا جميعه لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجاً قبل وصوله إلى أرضهم بشرب أو بسقي زرع ونحوه‏.‏ فسيبويه إذاً إنما وضع هذه اللفظة في هذا الموضع على أصل وضعها في اللغة من العموم واجتنب المستعمل فيه من الخصوص‏.‏
ومثل توكيد المجاز فيما مضى قولنا‏:‏ قام زيد قياماً وجلس عمرو جلوساً وذهب سعيد ذهاباً وهو ذلك لأن قولنا‏:‏ قام زيد ونحو ذلك قد قدمنا الدليل على أنه مجاز‏.‏ وهو مع ذلك مؤكد بالمصدر‏.‏
فهذا توكيد المجاز كما ترى‏.‏ وكذلك أيضاً يكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ومن هذا الوجه مجازاً على ما مضى‏.‏
ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ولم تؤت لحية ولا ذكراً‏.‏ ووجه هذا عندي أن يكون مما حذفت صفته حتى كأنه قال‏:‏ وأوتيت من كل شيء تؤتاه المرأة الملكة ألا ترى أنها لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلاً ولما قيل فيها‏:‏ أوتيت ولقيل أوتى‏.‏ ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وهو سبحانه شيء‏.‏ وهذا مما يستثنيه العقل ببديهته ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ألا ترى أن الشيء كائناً ما كان لا يخلق نفسه كما أن المرأة لا تؤتي لحية ولا ذكرا‏.‏
فأما قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ فحقيقة لا مجاز‏.‏ وذلك أنه سبحانه ليس عالماً بعلم فهو إذاً العليم الذي فوق ذوي العلوم أجمعين‏.‏ ولذلك لم يقل‏:‏ وفوق كل عالم عليم لأنه عز اسمه عالم ولا عالم فوقه‏.‏
فإن قلت‏:‏ فليس في شيء مما أوردته من قولك‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ و ‏{‏خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ اللفظ المعتاد للتوكيد‏.‏ قيل‏:‏ هو وإن لم يأت تابعاً على سمت التوكيد فإنه بمعنى التوكيد البتة ألا ترى أنك إذا قلت‏:‏ عممت بالضرب جميع القوم ففائدته فائدة قولك‏:‏ ضربت القوم كلهم‏.‏ فإذا كان المعنيان واحداً كان ما وراء ذلك غير معتد به ولغواً‏.‏