الأحد، 23 مارس 2014

الصورة في شعر بشار بن برد (91هـ / 168هـ)

الصورة في شعر بشار بن برد (91هـ / 168هـ)
تمهيد

يعد ( بشار) مرحلة من مراحل التطور الطبيعي للقصيدة القديمة ، إذ على يده شهدت الصورة الشعرية، تحولاً نوعياً سواء في مفهومها ، أو في مثيرها ولم تعد عملية نقل لمحسوس يشاغب النظر، دون أن يتصل بالقيمة النفسية للأشياء، بل أصبحت – الصورة- أداة الخيال الفاعلة ومضماره الرحب، الذي يمارس فيه نشاطه ، وبه يختبر قدراته ، وذلك حينما شغل به ( بشار) عوضاً عن النظر ، ليزداد خياله توهجاً، فكان ان تحررت الصورة من قبضة المحاكاة، وسطوة المثال، لتجوب عوالم الخيال...
قالوا العمى منظر قبيح تالله مافي البلاد شي

قلنا بفقدي لكم يهون تأسى على فقده العيون




لم يتعرض شاعر لموجات الاذى المتتابعة ، ولحملات التشهير المتلاحقة، مثلما تعرض بشار (بن برد)، بل لم يكن ذلك اخر امره، وإنما كان القتل بأمر الخليفة (المهدي) هو نهاية مطافه، إذ ضُرب “ ... سبعين سوطاً ، وقيل: ضرب عنقه وكانت وفاته سنة سبع، وقيل ثمان وستين ومائة في ايام المهدي ...” ليدفن دون ان يمشي بجنازته احد، إلا عبدة من السند.

أثار حفيظة المجتمع ، لتجاسره على كل شيء،فانتهى الى لاشيء.. تحالف الكل ضده، وكأنما المجتمع برمته اعتزم تحطيمه، واغراقه في سيل عرم من الدسائس والاتهامات .. تيارات شتى، وطبقات مختلفة ، وشرائح متنوعة ربما تباينت فيما بينها واختلفت في كل شيء إلاّ أنها في شيء واحد اتفقت واتحدثت هو القضاء عليه ..فقهاء على اختلاف مذاهبهم شعراء ورواة شعر وعلماء لغة على تنوع مشاربهم ..أمراء ورجال دولة على تنوع مراتبهم بل وحتى العامة جميعهم تلاقوا وتقاطعوا في نقطة النيل من هذا الشاعر المتعجرف الزنديق الفاحش فكان لهم ما أرادوا وقد اسهم (بشار) في ذلك وساعدهم عليه بغروره المتطرف وتوهمه أنه فوق المجتمع:



ونبئت قوماً بهم جنة يقولون من ذا وكنت العلم

ألا أيها السائلي جاهداً ليعرفني أنا أنف الكرم



كل ما فيه مثار احتقار ومدعاة سخرية أكان من حيث نسبه فهو من أعجمي ، ابن رقيق كان يضرب الطوب ليعيره بذلك (حماد عجرد):


ولريح الخنزير أهون من ريـ حك يا ابن الطيان ذي التبان



أو لتجاسره على الاعراض ودعوته الى الفسق:
لا يؤسينك في مخبأة قول تغلظه وإن قبحا

عسر النساء الى مياسرة والصعب يمكن بعدما جمحا




إن تلك الامور مجتمعه ولدت فيه كماًً من العقد النفسية لعل أبرزها شعوره المتضخم بالاضطهاد ودون شك أن الإعاقة الجسدية والاجتماعية كان لها أثر فاعل في تكوين شخصيته المركبة المتصفة بحدة الطبع وتلون الموقف وتقلب المزاج وتطرفه فإذا به ذو طبيعة قلقة ..متوجسة ..عدائية لا تعرف معنى السكون أو الاستقرار .

وهذا ما يفسر لنا مظاهر تقلبه وتلونه وعدم ثباته في أمر صدر عنه وكأنه تكوين من ثنائيات غير متجانسة فلايكاد يستقر على شيء حتى ينقلب بتطرف الى نقيضه لذلك ضل طريقه فابتلعته أمواج الشك ليجد نفسه في قعر التمرد والإلحاد:



في اللاذقية ضجة مابين أحمد والمسيح

هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يصيح

ياليت شعري ما الصحيح؟




إن في تطرفه بين الشيء وضده وتشبع شخصيته بالمفارقات علامة دالة على تأصل حيرته وتوجسه وفقدان توازنه النفسي والاجتماعي ولعل تلون موقفه من العرب يؤكد ما تقدم فتارة نراه يفتخر بهم مادحاً ًخصالهم:



أمنت مضرة الفحشاء أني أرى قيساً تضر ولا تضار

لقد علم القبائل غير فخر على أحد وإن كان افتخار

بأنا العاصمون إذا شجرنا وإنا الحازمون إذا استشاروا

وأخرى يتطرف في هجائهم :

إذا انقلب الزمان علا بعبد وسفل بالبطاريق الكبار

ملكنا كم فغطينا عليكم ولم ننصبكم غرضاُ لزار




وكذلك هو في جانب القيم والاخلاق يعيش حالة من التناقض العجيب بين اشارة بالسلوك الحميد وجمال الاتصاف بالحياء :



فلا وأبيك ما في العيش خير ولا في الدنيا إذا ذهب الحياء

وبين مجاهرة بالمجون وتحريض على التهتك:

قالوا حرام تلاقينا فقلت لهم ما في التلاقي ولا في قبلة حرج

من راقب الناس لم يظفر بحاجته وفاز بالطيبات الفاتك اللهج


إن بشار أعلم بحقيقة طبيعته المتمردة المتجاسرة على كل شيء والقلقة من كل شيء:

طبعت على ما في غير مخير هواي ولو خيرت كنت المهذبا



فهكذا كان ديدنه أن يتلون ويتناقض في مفارقات عجيبة وكأننا أمام شخصيتين تختلفان أيما اختلاف : فكراً .. وعقيدة .. وعاطفة ..

فطبيعة تكوينه هي من “... دفعت به دفعاً الى التطرف وحدة المزاج والجمع بين المتباعدين والخلط بين النقيضين ..”  وهذه الطبيعة كانت من التأصل ومن القوة بحيث ظهر أثرها أيضاً في فنه إذ جمع شعره بين المحافظة والنزوع الى التجديد وبين القوة والعلو وبين الوهن والسقوط .. وكأن (بشار) قد أراد بتلك الطبيعة المتناقضة الزاخرة بالثنائيات غير المتجانسة إثبات تميزه تمثلاً بالقول المأثور : (بضدها تتميز الاشياء)..

بإصرار وتطرف تضاغنا الطرفان وأسرفا في العداء أكان المجتمع الذي أمعن في التشهير ببشار واقتناص فرص الاجهاز عليه بتأليب العامة والخاصة كقول (واصل بن عطاء) محرضاً:

“...إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد ...” أو من جانب (بشار) الذي أغول في نزقه وتطرف في تحديه المجتمع وبالغ في الاعتزاز بذاته وتحقير الآخرين:


ودعاني معشر كلهم حمق دام لهم ذلك الحمق

ليس من جرم ولكن غاظهم شرفي العارض قد سد الأفق



لم يجد بشار إزاء ما تعرض له من تشويه وتجريح إلاّ الدفاع عن نفسه ليتحول الى مهاجم شرس فاحش الفعل بذيء القول لا يراعي حرمة شيء فكان الشعر سلاحه المرعب الذي ترتعد له فرائص المجتمع:
تزل القوافي عن لساني كأنها حمات الأفاعي ريقهن قضاء



بلغت القطيعة ذروتها لا بين بشار والمجتمع فقط بل وبين نفسه أيضاً ليصل الى أعلى مشاعر الغربة والانفصال في قوله :

«اللهم إني قد تبرمت بنفسي وبالناس جميعاً »..

شعوره المتأصل بهامشية وجوده وتعدد مستويات النقص فيه وبخاصة آفة العمى دفعاه بقوة الى التحدي والتعويض فإذا بالنقص تفوقاً وإذا بالحرمان إبداعاً فشهد بذلك المجتمع ليقول له (الاصمعي) :” مارأيت أذكى منك قط..« فيجيبه بشار :»هذا لأني ولدت ضريراً واشتغلت عن الخواطر للنظر..” ثم أنشد:
إذا ولد المولود أعمى وجدته وجدك أهدى من بصير وأجولا

عميت جنيناً والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم معقلا



إذاًً سر ذكاء بشار يكمن في ظلام عينيه الذي زاد خياله توهجاً وجعله أشد حرصاً على اثبات وجوده وتأكيد ذاته المتميزة لا سيما في عصر شديد الإيمان بالتمايز:



وعيرني الاعداء والعيب فيهم وليس بعار أن يقال ضرير

إذا أبصر المرء المروءة والتقى فإن عمى العينين ليس يضير




آفة العمىبكل أثارها السلبية من آلام نفسية وتداعيات اجتماعية كانت هي ايضاً قوة محفزة تشده دوماً الى التعويض وتدفع به نحو التميز الفني الذي وضعه على رأس مدرسة التجديد فحرمانه نعمة البصر دعاه الى تقليب تربة خياله وتجديدها لتثمر ودون مؤثر النظر – جمال المجهول غير المرئي وقد سئل عن ذلك فأجاب قائلاً :«إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الاشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته » إذاًً من فاعلية التوهم والتصور صاغ بشار روعة الإلتقاء بين مالم يبصره قط وبين ما صوره وتخيله :



فإني كلما اشتقت إلى وجهك صورته

أناجي شبهاً منك على الترب إذا اشتقته




كثيرة هي الابيات التي حاول بها (بشار) خداعنا وإيهامنا أنه كامل الحواس وصحيحها وأنه لا يشكو عيباً أو حرمان بصر غير أن البيتين السابقين يكشفان حقيقته كشاعر خيالاته تتفجر لكونه أعمى ويمكن رصد الاشارات الدالة على ذلك من عجز البيت الأول في كلمة (صورته) الدالة على عملية تأليف الشاعر صورة ذهنية لوجه الحبيب الذي لم يره أصلاً لعله عماه ...و (التصور) هنا بمعنى (التخيل) الذي يرادف لغوياً (التوهم) كأن نقول :تخيلته فتخيل لي ... أو نقول : تصورته فتصور لي أكان الشيء موجوداً أو لم يكن ...وبذلك فعملية (التصور) لا تعني نقل صورة من العالم الخارجي ونسخها بناءً على رؤية البصر بل هي عملية ذهنية بحتة تقوم على تأليف تخيلي بغية تحقيق قدر معين من (المتصور) كما تخيله أو (تصوره) الشاعر وبالتالي فإن تلك العملية لا تسعى بصورتها المتكونة أن تقوم مقام (المتصور) بحيث تأخذ مكانه.. أما الاشارة الاخرى فموقعها صدر البيت الثاني في كلمة (شبهاً) التي تعني (المثل) فالتشبيه يعني (التمثيل) وهو عند البيانيين “إلحاق أمر بأمر لصفة مشتركة بينهما”ونفهم من ذلك أن (التشبيه) هو مقارنة نسبية بين طرفين متمايزين يشتركان في صفة أو أكثر مما يعني انتفاء التوحد وتأكيد التعدد ..وصورة بشار المتخيلة لوجه حبيبته لا يختزنها في مستودع ذاكرته بحيث يمكنه استرجاعها متى أراد وإنما هي وليدة عملية (التصور) و (التخيل) لذا فهي بنت خياله ولا تمثل حقيقة ملامح ذلك الوجه وإنما حاول الشاعر خلق نوع من التقارب النسبي المنبعث من إحساسه الداخلي بين ما (صوره) وبين ما لم يره على الواقع المحسوس أصلاً..

في ظلام عينيه ازداد خياله توهجاً فأبدع صوراً شعرية أدهشت من حوله فحقق تميزه من خلال تفعيل وشحذ خياله في تخيل المنظور وتشخيصه لبناء علاقة تفاعلية تجسد القيمة النفسية للأشياء وبهذا نسج بشار صورة فنية جديدة متحررة من سيطرة التقليد ومن سطوة مفهوم المحاكاة ليؤكد بذلك أن الصورة إنما هي “...أداة الخيال ووسيلته ومادته الهامة التي يمارس بها ومن خلالها فاعليته ونشاطه ..” فالتخيل بديلاً عن النظر والمشاهدة , فالشعر ليس نقلاً لجزئيات العالم وإنما هو خلق وابتكار ومحاولة لإعادة صياغة المنظور وهو ايضاً تشكيل متجدد يتولد من خيالات الشاعر وتداعياته النفسية والفكرية..

هناك 4 تعليقات: