السبت، 29 مارس 2014

البلاغة في بعض سور القران(ق،الذاريات،الطور،النجم،القمر،الرحمن)




((246)) قال تعالى : (... اءيحب اءحدكم اءن ياءكل لحم اءخيه ميتا فكرهتموه ...) ان قـراءتـنا لهذا النص الصوري تقترن باثارات فنية متنوعة , في ميدان صياغة الصورة و تشخيص نـمـطـهـا, كما لو كانت تشبيها اءو استعارة اءو رمزا... الخ . بيد اءننا وفقا لرصدنالانواع الصور و مـحـاولـة فرز كل واحدة منها عن الاخرى , حيث اعتاد الاقدمون , اءو حتى بعض المعاصرين , اءن يـدمـج اءكـثـر مـن صـورة ويـهـبـها مصطلحا واحدا, نصطلح على الصورة اءعلاه اسم الصورة الاستدلالية , اءي الصورة التى تعتمد احداث علاقة بين طرفين يستدل باءحدهما على الاخر, حيث استدل بالصورة اءعلاه على ممارسة الغيبة و غيرها.
و تـتجسد الاهمية الفنية للعنصر الاستدلالي بكونه يقوم على محاكمة عقلية تعتمدما هو حسي اءو قـيـمـى مـن الـظـواهر. و تتضخم الاهمية الفنية للعنصر المذكور حينما يقترن باءدوات اءخرى كالحوار اءو التقابل و نحوهما, كما هو ملاحظ في الصورة التى نحن في صددها, مضافا الى عناصر اءخرى نحاول اءن نقف عليها الان في تحليلنا للصورة المشاراليها.
الغيبة كما نعرف جميعا هـي مـمـارسـة عدوانية تتخذ من العنصر اللفظي اءداة للتعبيرعن النزعة المذكورة متجسدة في الاسـاءة الـى شـخـص غائب عن المجلس اءو اللقاء الذي مورست فيه الغيبة . و لعل ما يزيد النزعة العدوانية بروزا هو اقترانها بنمط آخر من السلوك هو النفاق حينا, كما لو كان الشخص ذا علاقة ايـجـابـيـة مـع الـجارح فيقابله بوجه ايجابي في حضوره , و بوجه سلبي في غيابه , اءو يهابه عند حضوره .
و لـكـن حـتى بمناءى عن هذا الجانب فان ممارسة الغيبة تعد عملا عدوانيا بالغ ‌الدلالة , مادام يشكل ليس اساءة اءو تشويها لسمعة الاخر فحسب , بل يجسد ممارسة لاشاعة الشر اءيضا, بصفة اءن فضح الاخر هو اشاعة لما مارسه سرا اءو بنحو لم يسمع به الاخرون .
من هنا, بمقدورنا اءن نتبين اءهمية الصورة الاستدلالية التي نسجها النص بالنسبة الى الغيبة من حيث صلتها بالظواهر التي اءشرنا اليها.
اذن : لنتحدث عن الجانب الفني للصياغة الصورية المتقدمة فنقول :
لقد انتخب النص ظاهرة ((الاكل للحم الميت )) من جانب , و كونه (اءخا) من جانب آخر. و نحن اذا وضعنا في الاعتبار اءن النص القرآني الكريم و هو نص يتسم بالكمال والاعجاز لا يـنـطق الا بما هو اءكمل تعبيرا عن الحقائق , حينئذ نقتنع تماما باءن الظاهرة التي توكاء عليها في كشفه للمفارقات التي تنطوي الغيبة عليها لابد من انطوائها على ما هومثير ومدهش .
و يـمـكـننا ملاحظة ذلك حينما نجد اءولا انتخابه للحم الميت كما قلنا. و ثانيا كونه لحم الاخ دون غيره من الاطراف الاجتماعية . و لعل اءو ما يتداعى الى الذهن هو : العلاقة بين المجروح (اءي من اغتيب ) و بين الجارح (اءي من اغتاب ), حيث نعرف اءن الغيبة تتم في الغالب مـن خـلال الاشـخـاص الـذين يرتبطون بعلاقة (المواجهة ) فيما بينهم اءو ما يطلق عليه مصطلح (الـجـمـاعـة الادلية ) في اللغة الاجتماعية و هم الاصدقاء اءو الاعداء, و حينئذفان النص حينما ينتخب الاخ دون غيره , فان تشبيه الغيبة باءكل لحمه يظل من الوثاقة بمكان كبير, هذا من جانب , و حـتـى لـو اءخـذنـا الـظاهرة من جانبها الاخر, و هو انسحاب الغيبة على مطلق المؤمنين بما فيهم غيرالمرتبطين بعلاقة المواجهة اءو الصداقة , فان الرابطة الاسلامية العامة القائلة باءن ((المؤمنين اخـوة )) تـنسحب على هذه الظاهرة بدورها,و عندئذ تكون العلاقة الفنية بين (الاخ ) و بين اءكل لـحـمه و هو ميت من الوثاقة بالمكان الكبير الذي اءشرنا اليه . لكن لندع ذلك و لنتجه الى التركيبة الـصـوريـة فـي مـادتها العامة التي تقوم على ظاهرة (اءكل لحم الميت ) لملاحظة مكنوناتها الفنية المذهلة , فما ذا نجد؟ الـسـؤال اءولا هو لماذا عملية ((الاكل )), ثم لماذا الميت ((بعد اءن اءوضحنا السر الفني لظاهرة ((الاخ )) دون غيره من الاطراف الاجتماعية ؟ ان عملية الاكل كما هو بين اشباع لاهم حاجة حيوية عند الانسان . و هذا يعني اءن النص قد انتخب للغيبة اءشد عمليات الاشباع عـند الانسان مما تستتبع اءشد الذنوب مفارقة بما يترتب على المفارقة من العقاب الشديد. و في هذا تحسيس للشخصية بمدى ما تمارسه من عظيم الذنب , كما هوواضح .
و اءمـا بـالـنسبة الى كون الاكل للحم الميت فان الظاهرة تزداد توهجا حينما نضع في الاعتبار اءن الـنص لم يستهدف من عملية الاكل ما يتسم بنمطه الاشهى , بقدر ما كان التركيز على ظاهرة الاكل بصفتها اشباعا. و اءما نمطه فان النص سيحوله الى ما هو مضاد,اءي يستخدم الرمز من حيث توظيفه في سياق جديد, لذلك فانه قد انتخب نمطا من الاشباع الذي يقترن باءبشع صوره مادام مستهدفا السمة الـمـضـادة لاشـبـاع الحاجة , و ليس النتيجة الطبيعية له . لذلك فان اءبشع عمليات الاكل تتمثل في ظاهرة مقترنة بثلاث سمات مرتبطة بثلاث حواس , كل واحدة منها تكفي وحدها لاثارة الاشمئزاز فـي الـنـفـوس ,والـحـواس الـمـرتـبطة بالسمات الثلاث هي حاسة التذوق , حاسة الشم , حاسة الـبـصـر,فـالـحـالـة الـتـذوقية هي تناول اللحم الميت , و الحاسة الشمية هي : رائحة الميت , و الحاسة البصرية : هي مراءى الميت , و حينما تتواكب هذه الحواس في آن واحد حينئذ بمقدورنااءن نتصور مدى درجة الاشمئزاز التي تصيب الشخص , و هو يشاهد جثة اءو لحم ميت يقترن برائحه كـريـهـة تزكم الانف , و يقترن بمنظر بشع هو شكله , و بهذا يكون النص قداستخدم رمزا مكثفا يـحـتشد فيه ما يثير القرف لدى المتلقي و هو يتمثل عملية تناول للحم الميت . و لكي لا يدع النص الـمـتلقي بمناءى عن التخيل المذكور, اءردفه مباشرة بعبارة (فكرهتموه ) حتى يجعله في اللحظة المذكورة يعايش هو في هذه الصورة المقترنة باثارة اءشد درجات الكراهية لممارسة الغيبة بالنحو الذي اءوضحناه .

سورة ق

قـال تـعـالـى : (و لـقـد خـلـقـنـا الانسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن اءقرب اليه من حبل الوريد) ((247)) .
الـصـورة اءعـلاه تـتضمن نمطا من الصياغة التي تجمع بين التشبيه و الرمز عبر تركيبة خاصة .
الـتشبيه هو عبارة (اءقرب ) فيما نصطلح عليه بالتشبيه المتفاوت , و الرمز هو (حبل الوريد), و يـعنينا من ذلك : السمة الفنية لهذا التركيب , فنقول : النص هنا يستهدف الاشارة الى انه تعالى اءعرف بـمـا فـي اءعـماق الانسان من الافكار التي يحياها. و نحن نستنتج ذلك من خلال سياق الصورة التي تـقـدمـتـهـا عبارة (و نعلم ما توسوس به نفسه ), و العبارات التي تاءخرت عنها من نحو (اذ يتلقي المتلقيان عن اليمين و عن الشمال قعيد # ما يلفظ من قول الا لديه رقيب عتيد) ((248)) اذن الظاهرة هـي : رصد السلوك من قبل اللّه تعالى , حيث اءشار النص الى معرفة تعالى بما توسوس به الشخصية , و اءشـار الى اءن هناك نمطين من الملائكة تسجلان سلوكه (عن اليمين و عن الشمال قعيد) و اءنه حتى بالنسبة الى ما ينطق به من قول فثمة رقيب عليه .
للمرة الاخرى ما يعنينا من ذلك هو : المدى الفني الذي تنطوي عليه الصياغة الصورية المشار اليها, بعد اءن نكون قد وقفنا عند دلالتها الفكرية سريعا.
من حيث الدلالة و علاقتها بالصورة يشير النص الى اءن اللّه تعالى خلق الانسان ,واءنه يعلم ما تحدثه بـه نـفسه من ممارسة هذا السلوك اءو ذاك , و اءنه تعالى اءقرب اليه من حبل وريده . فالملاحظ هنا اءنـه تعالى وصل بين خلقه الانسان و بين وسوسته . و السؤال هو : اءن الوصل بين هاتين الظاهرتين يـعنى شيئا هو : المعرفة التامة بما في الاعماق حتى بالنسبة الى نواياه , و ليس سلوكه المتجسد في هـذا الفعل اءو ذاك , اذ من الملاحظ اءن المعرفة في مستواها العادي تتمثل في ممارسة الفعل و ليس في النوايا, النص يريد التنبيه على مطلق سلوك الانسان و ازاحة التوهم عند من يخيل اليه اءن الفعل الخارجي هوالفاضح للسلوك و ليس النية . لذلك نجد اءن النص قد انتخب ظاهره الوسوسة يشير به الى النية من جانب و الى سلبيتها من جانب آخر, لان الوسوسة من الشيطان كما هو واضح ,والمهم بعد ذلـك هـو, علاقة هذه الظاهرة بالعنصر الصوري الذاهب الى اءنه تعالى اءقرب الى الانسان من حبل وريده .
لا شـك , اءن الـصـورة المشار اليها جاءت لتوضح اءو لتعمق معنى معرفته تعالى لوسوسة الانسان و درجتها و مدى درجة معرفته بذلك , حيث شبهها باءنها اءقرب اليه من حبل وريده .
و الـسـؤال هـو : ما هي السمات الفنية لهذه الصورة المتجسدة في اءنه تعالى اءقرب الى الانسان من حبل وريده , اءو لنقل : ما هي الدلالة الفنية لحبل الوريد دون غيره من الظواهرالتي يمكن اءن يشبه مـنـهـا مـثل هذا الموقف ؟ النصوص المفسرة تشير الى اءن المقصود من ذلك هو : عرق يخالط بدن الانسان اءو عرق بالقلب اءو عرق بالحلق ... الخ .
و لعل الاتجاه الذاهب الى اءن المقصود به هو : الحلق اءو العرق الاقرب الى القلب ,ينسجم مع سياق الـنـص , فـهـذا الـعرق يتصل من جانب بالمخ و يتصل بالقلب , و كلاهماعلى صلة واضحة باءفكار الانسان , وسوسته التي اءشار النص اليها (ونعلم ما توسوس به نفسه ), بصفة اءن الافكار صادرة من الـمـخ , و اءن القلب هو الذي يعايشها تقبلا اءو رفضا اءوتحفظا, يضاف الى ذلك صلة هذا العرق اءو الحبل بحياة الانسان اءساسا, فمع قطعه مثلاتنقطع حياة الانسان .
اذن : اءمكننا اءن نتبين اءهمية انتخاب هذه العينة الحسية دون غيرها من العينات بالنسبة الى التشبيه الـذاهـب الـى اءنه تعالى اءقرب الى الانسان من حبل وريده في معرفة ماتوسوس به نفسه , اءو في الـسـيـطرة عليها, اءو في رصدها... الخ , حيث ينهي النص ذلك بالاشارة الى الملكين المرابطين عن يمينه و شماله و الحاصين عليه حتى ما ينطق به من الكلمات .
قـال تعالى : (و جاءت كل نفس معها سائق و شهيد # لقد كنت في غفلة من هذافكشفنا غطاءك فبصرك اليوم حديد# و قال قرينه هذا ما لدي عتيد) ((249)) الـنـص اءعـلاه , يـنطوي على جملة من الاداءات الفنية في صعيد الصورة , و ما تواكبهامن اءدوات لـغـويـة , و فـي مقدمتها عنصر المحاورة . و بالرغم من اءننا نتحدث عن العنصرالصوري , و ليس اللغوي اءو اللفظي , الا اءن الاخير بمواكبته للعنصر الصوري يسهم في اقرار الدلالة الفنية له .
اءول ما يواجهنا في هذا الصدد هو : الرمزان (سائق ) و (شهيد). و مع اءن هاتين العبارتين تحملان دلالتهما اللغوية , السائق : بصفته يسوق الانسان الى ساحة المحاكمة اءو الحساب , و الشهيد: بصفته الملك اءو الجوارح التي تشهد على الشخص بممارسته هذاالعمل اءو ذاك .
اءقول : على الرغم من ذلك , فان العبارتين المذكورتين تحملان دلالة الرمز, من حيث كونه مؤشرا الـى دلالة اءخرى غير بطانتها اللغوية المباشرة , بصفة اءن العبارتين تومئان الى (ملك ), و هو غير السائق بصورته المطلقة , و الى الملك اءيضا بصفته شاهداوليس سائقا, اءو بصفة اءنه , اءي الشهيد, هـو الـجـوارح , مـضـافا الى اءننا في حالة ذهابنا الى اءن السائق و الشهيد في الحاليتن هما ملكان :
اءحـدهـما يسوق و الاخر يشهد, فعندئذ تكتسب هاتان العبارتان دلالتهما الرمزية و ليس اللغوية . و نـتجه الى الجزء الاخر من الصورة (فكشفنا غطاءك ) و الجزء الاخير منها (فبصرك اليوم حديد) لنواجه اءفقا آخر من الحشدالصوري الممتع . فالنص اءولا يتحدث بلغة مباشرة عن تغافل الشخصية الـمـنـحرفة عن اليوم الاخر و جزاءاته (لقد كنت في غفلة من هذا), ثم يردفه بلغة غير مباشرة (فـكـشـفـناعنك غطاءك ), اءي : يرد النص على غفلة الانسان بعنصر صوري هو : كشف الستار الـذي حـجـبـه عن النظر الى اليوم الاخر, ثم بعنصر صوري اءكثر كثافة , و هو (فبصرك اليوم حـديـد),حيث رتب على عملية الكشف عملية حدة النظر محققا بهذا عملية الانماء العضوي لصياغة الـصـور. فـالـمـلاحـظ اءن النص بانتخابه الرمز اءو الاستعارة (غطاءك ) ثم بانتخابه الرمز اءو الاسـتـعـارة (حـديد) بالنسبة الى النظر, انما يحدثنا اءولا عن العلاقة بين الغفلة والغطاء, ثم بين الكشف وحدة البصر, حيث نلحظ (التضاد) الصارخ من جانب التضادبين الغطاء و بين حدة البصر, و بـيـن كون اءحدهما ترتب على الاخر من جانب آخر,والاهم من ذلك نلحظ طبيعة الثراء الصوري متمثلا في عمليتي الكشف والحدة .
اءمـا الكشف فتتجسد نضارته في كونه يتحدث عن الغطاء الذي يرمز الى الغفلة الدنيوية , و لا رمز اءشد كثافة من الغطاء الذي يستر الوعي العبادي عن الشخصية المنحرفة الغافلة , اءي : اءن (الغفلة ) يرمز لها ب (الغطاء) الذي يسد على الشخصية المنافذ جميعا,وبالمقابل فان الكشف عن الغطاء بعد اءن تـنـتـقـل الـشخصية الى اليوم الاخر و استتباع ذلك (حدة ) النظر انما يكشف دلالة الرمز و يهبه جمالية فائقة من خلال التضاد الذي اءشرنا اليه بين الغفلة التامة و بين النظر الحاد, فهناك اغراق في الغفلة , و هنا اغراق في ما يضادهاوهو حدة الوعي بما كانت عليه الشخصية من الغفلة , فالحدة هنا رمـز مكثف ينطوي اءولا على كونه عينة اءو ملمحا خارجيا للشخصية , مفصحا عن الملمح الداخلي المتاءزم لها.
و نـحن لو سمحنا باءن ندقق تاءملنا في المراءى الجسمي بعملية حد النظر, لخرجناباستجابة هائلة مـدهـشة بمنطويات هذه الصورة . فحدة النظر تكشف اءولا عن وجود(توتر) في الشخصية غير عادي , كما يكشف عن وجود دلالات تعايشها الشخصية مصحوبة بطبيعة الحال بالتوتر المشار اليه , و كـل من الدلالات و التوتر يحمل طابعه السلبي الذي يعني : اءن الشخصية قد ظهر لها الان (عند الـحـسـاب ) اءنها كانت في غفلة عن هذا اليوم و جزاءاته , بما يصاحب هذا الاحساس من ندم , و بما يخلفه هذا من تمزق وانسحاق ... الخ .
طـبـيـعيا, اءن الاهم من ذلك , من الزاوية الفنية , هو : اءن الدال (حدة البصر) هو الذي يضفي على الـصورة جماليتها, من خلال كونه مظهرا فيزيقيا, و الا كان ممكنا اءن يكتفي النص بالذهاب الى اءن الانـسـان في اليوم الاخر يكتشف مدى غفلته في الحياة الدنيا .الخ ,الا اءن ابراز هذه الدلالة في دال حـسـي اءو مـلـمـح خارجي للشخصية يظل اءشد حيوية للمتلقي عندما يشاهد اءشخاصا يتحركون اءمامه , و ليس حيال مفهومات اءو دلالة فحسب .
بـعـد ذلك , يتحدث النص عن التفصيلات المترتبة على هذه الصورة و المواكبة لهاوالمتقدمة عليها مـتـمثلة في عملية رصد السلوك و نتائجه , بعد اءن يكون النص قد اءوماء الى العملية المذكورة , من خـلال الـرصد الدنيوي للسلوك قبل اءن يصوغ الصورة الاخروية (الكشف و الحدة ), حيث مهد لها بـالاشارة الى الملكين الراصدين للسلوك (اذ يتلقى المتقليان عن اليمين و عن الشمال قعيد ما يلفظ من قـول الا لـديـه رقـيـب عتيد) و بعد اءن يتقدم بصياغة الصورة (الكشف و الحدة ) يرتد الى عملية الرصد و نتائجه فيقول (و قال قرينه هذا ما لدي عتيد... قال قرينه ما اءطغيته و لكن كان في ضلال بعيد... يوم نقول لجهنم هل امتلات و تقول هل من مزيد) ((250)) .
ان هذه الايات الكريمة التي اءعقبت الصورة المذكورة و الايات التي تقدمتها تشكل بمجموعها موقفا اءو مقطعا من الصوغ الفني لشريحة من السلوك لا تقف عند مجرد صياغة الصورة الكشف و الحدة بـل تـتـجـاوزها الى صياغة حادث و بيئة و شخصية قصصية لهاامتاعها الفني العظيم . فهناك اءولا شخصيات متنوعة (بشر و ملائكة ), و هناك بيئات مختلفه (دنيا و آخرة ), و هناك حوادث (و نفخ فـي الـصـور.) و هـنـاك مواقف (عملية الرصد,و قال قرينه ...الخ ) بما يواكب ذلك جميعا عنصر الحوار و السرد.
و الـمـهم هو : اءن الحوار بخاصة قد اءضفى جمالية فائقة على الموقف , و لكن ما يعنيناهو الحوار (الـصـوري ) مـتـمثلا في قوله تعالى ((يوم نقول لجهنم هل امتلات ...)) و اذا كانت الصورة هي :
مركب من شيئين لا علاقة بينهما في صعيد الواقع , فيمكننا حينئذ عدالمحاورة المتقدمة (صورة ).
طـبيعيا, من الممكن اءن تكون المحاورة المذكورة واقعا بالفعل , كما لو اءوحى اللّه تعالى الى خزنة جـهـنـم بـذلـك , و اجابتها بما تقدم , بيد اءن نمط المحاورة يوحي باءن المساءلة حوار مصطنع على مستوى الصياغة (الرمزية ), اءي : اءننا اءمام صورة رمزية تشير الى الاعداد الهائلة من المنحرفين الـذين تسعهم جهنم و زيادة . و بدلا من التعبير عن ذلك باللغة الماءلوفة يتجه النص القرآني الكريم الـى الـتـعـبير باللغة الصورية التي جمعت الى جمال الصورة جمالية الحوار و حيويته المتمثلة في تـسـاؤل هـو : هل امتلات بالمنحرفين يا جهنم ؟ و يجى ء الجواب : اني اءسع للمزيد منهم , فهل من مزيد؟ و يتضخم جمالية الحوارحينما يتم طرفا الحوار من خلال عنصر التساؤل , و ليس التساؤل والاجـابـة فحسب ,حيث نلحظ ان جهنم بدورها تساءل : هل من مزيد. و نحسب اءن جمالية الحوار الـمـتـقـدم بـلغته و رموزه و طريقه صياغته لا يمكن ان نتلمسها من خلال التحليل الفني , بقدر ما نـدع ذلك للقارى ء الذي يتحسسها من خلال تذوقه الصرف . مادام الفن لا يخضع في غالبيته الى القدرة المنطقية في تحديده , بل الاحساس الداخلي للمتلقي بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .

سورة الذاريات .h3 قـال تـعـالـى : (و فـي عـاد اذ اءرسـلـنـا عليهم الريح العقيم # ما تذر من شي ء اءتت عليه الا جعلته كالرميم ) ((251)) النص اءعلاه يتضمن استعارة (الريح العقيم ) و تشبيها (جعلته كالرميم ). في البداية ينبغي اءن نشير الى اءن الصورة القرآنية تتميز بتنوعها في الصياغة و التركيب , و حينا آخرللنادر من الخبرات , و حينا ثالثا للطريف و المدهش من التركيب ... وهكذا.
و لكل من هذه المستويات مسوغاته بطبيعة الحال .
و فـي الـصـورتـيـن المتقدمتين نواجه اءكثر من مستوى ماءلوف و طريف في التركيب والصياغة , بالنسبة الى الاستعارة (الريح المعقيم ) نواجه تركيبا يترشح باءكثر من دلالة ,فبالرغم من اءن العقم يـعـنـي عـدم الولادة , فان رشحاتها بالدلالات المتنوعة من الممكن اءن نتبينها بوضوح , فالريح التي اءرسـلـت عـلـى المنحرفين , بما اءنها استئصالية و ليست مجردجزاء سلبي , حينئذ فان العقم يظل الـتـعـبير الاوسع و الادق عن الاستئصال , نظرا للصلة الوثيقة بين عدم الولادة التي تعني : العدمية اءسـاسـا, و بـين الاستئصال الذي يعني العدمية اءساسا اءيضا, و من حيث رشحاتها المتعددة الدلالة , نـلـحظ اءن العقم لا ينحصر في عدم الولاده فحسب , بل تترتب آثار سلبية متنوعة , من الممكن اءن يشير الشي ء الى اعدامه من الوجود دون اءن يقترن هذا الاعدام بما هو مشين كالموت مثلا اءو فقدان الـشـي ء بـعـدوجوده , و هذا بخلاف العقم الذي يقترن بالشؤم كما هو واضح . فالمراءة التي لا تلد مـثـلاتـظـل مطبوعة بسمة الشؤم , نظرا لارتباط الاستيلاد باستمرارية النسل البشري , فضلا عن اءن الولد يقترن وجوده بنشاطات و عواطف و معطيات كثيرة تحقق مزيدا من الاشباع والامتاع للحاجات الاسرية , و هذا بالنسبة الى عقم الريح في ما لا تلد, اءي معطى ينتفع به , بقدر ما يتسبب في احـداث الـظـواهر السلبية , و هكذا نجد اءن العقم في الاستعارة المذكورة يطفح بدلالات متنوعة يستطيع المتلقي اءن يستنطقها حسب خبراته التي تستولد ما تشاء من الدلالات كما هو بين .
و اءما التشبيه (جعلنه كالرميم ) فانه واحد من التشبيهات الماءلوفة جدا بالقياس الى تشبيهات قرآنية اءخرى , تتطلب جهدا ليس باليسير في استيضاح العلاقات المتراكبة بين اءطراف الصورة . غير اءن الالفة المذكورة تظل كما كررنا منطوية على اءسرار فنية عميقة الدلالة , فالرميم اما اءن يقصد منه العظم البالي , و اما اءن يقصد منه الـنـبـات اليابس , و في الحالتين : فان العظام البالية تسحق , و اءن النبات اليابس يداس , و حينئذ فان الـمـظـاهـرالـمـتـمـثلة في البلى و اليبس و السحق و الدوس تظل لدى الرائي مقترنة من حيث الـمـراءى بـالاسـتـمـرارية البائسة , اذا قيس بما كان عليه من حيوية الجسد البشري اءو حيوية النبات قبل الموت اءو اليبس .
و الـمـهم هو اءن النهاية الكسيحة للمنحرفين من خلال المراءى المذكور و صلة ذلك بنمط الجزاء الاسـتـئصالي (الريح المقيم ) التي ذرتهم بنحو قد تحولوا من خلاله الى اءشلاءمتمزقة , يوضح لنا مـدى حـيوية التشبيه المذكور, من حيث صدقه و دقته بالقياس الى النهاية العادية لمن يغشاه الموت لسبب اءو لاخر, حيث لا يقترن مراءى الموت في الحالة الاخيرة بالمظاهر البائسة التي اءوحى بها التشبيه الذي نحن في صدده .
سورة الطور

قال تعالى : (اءم لهم سلم يستمعون فيه فلياءت مستمعهم بسلطان مبين ) ((252)) . ثـمـة نمط من التركيب الصوري اطلقنا عليه مصطلح الاحالة , و نعني بها : الصورة التي تتركب من ظاهرتين , اءو التي تتوكاء على احداث علاقة بين ظاهرتين يمتنع حدوثهما في دنيا الواقع و الوهم كليهما. و الهدف من ذلك هو الاشارة الى شي ء ممتنع اءيضا. و يتميز هذاالنمط من التركيب الصوري باثارة بالغة , من زاوية كونه يعتمد عنصر السخرية . و هذا مانطلق عليه مصطلح الصورة الساخرة , بصفة اءن الموقف يتطلب ذلك , و تكون فاعليته حينئذ اءشد درجة بالنسبة الى المتلقي .
و لـو تـاءمـلنا الصورة التي نحن في صددها للحظنا اءنها تتحدث عن المنحرفين المعاصرين لرسالة الاسـلام , حيث ترصد مجموعة من اءنماط سلوكهم المضحك , من حيث تخرصاتهم حيال الرسالة , و تـجـيـبهم بمجموعة من الانماط الساخرة مثل (قل تربصوا فاني معكم من المتربصين # اءم تاءمرهم اءحـلامـهـم بـهـذا...) ((253)) (اءم خـلقواالسموات والارض # اءم عندهم خزائن ربك # اءم لهم سـلـم ...) ((254)) الخ . فالصورة الاخيرة تتساءل ساخرة اءلكم اءيها المنحرفون سلم تستطيعون بـواسـطـتـه اءن تصعدوا الى السماء و تستمعوا الى الوحى ؟ و اذا كان الامر كذلك حينئذ فلياءتونا بالدليل , و الجديربالذكر اءن النص القرآنى الكريم في موقع آخر يعتمد هذه الصورة اءيضا, و لكن لـيـس مـن خـلال الـتـسـاؤل , بل من خلال عنصر ساخر آخر هو : الطلب بالصعود, و ليس على نحوالتشكيك اءو التساؤل ... في الحالين فان السخرية هي العنصر الفني الذي يطبع مثل هذه الصورة , من حيث توكؤها على ما هو محال كما هو بين .
و الاهـم مـن ذلك هو اءن الصورة , بهذا النمط من التركيب الساخر و المطالبة بشي ءمحال , تتصاعد بعواطف المتلقي الى ذروة الاثارة التي تستهدف في النهاية تحقيق عنصر(الاقناع ) لديه , حيث يقتنع الـمـتـلـقي تماما من خلال مواجهته ما هو محال في ما لا يمكن لاحد اءن يصعد الى السماء, و هذا ما يـكشف باءن حجج المنحرفين واهية لدرجة اءنهاتتطابق مع ما هو محال , و هذا هو اءهم سمة للفن , مضافا الى كونه قد اعتمد السخرية التي تضفي حيوية خاصة على استجابة المتلقي , و تدعه يستمتع بمزيد من الاثارة الفنية بالنحو الذي اءوضحناه .

سورة النجم

قال تعالى : (ما زاغ البصر و ما طغى ) ((255)) الاية اءعلاه تتحدث كما هو بين عن النبي (ص ) ليلة الاسراء و ما رآه (ص ) من شخصيات و بيئات مثل شخصية جبرئيل (ع ) و مثل سـدرة المنتهى و جنة الماءوى ... الخ ,ومطلق آياته تعالى . المهم اءن النص في سياق عرضه لرحلته (ص ) و مـشـاهدته للمرائي المذكورة عقب على ذلك بالقول ((ما زاغ البصر و ما طغى )), و هذا الـتـعقيب اءو التعليق الذي اعترض السرد القصصي للشخصية و للبيئة قد اعتمد العنصر الصوري بدلا من المباشرة متمثلا في عمليتي عدم زوغان البصر و عدم طغيانه .
ان عـدم الزوغان و الطغيان هنا قد خلعهما النص على سمة جسدية هى البصر,وليس على سمتهما الداخلية (القلب ), و هذا يعني اءننا اءمام رمز, و الرمز كـمـا كـررنـا آاحـداث عـلاقـة بـين ظاهرتين تشير احداهما الى الاخرى المحذوفة بطبيعة الحال .والسؤال : ما هي الدلالات التي تتضمنها الصورة الرمزية المذكورة ؟ ان الرمز الرئيس هناهو ((الـبصر)), و القضية تتصل بمشاهدته (ص ) لشخوص و بيئات , و حينئذ, فان البصر هوالجهاز الوحيد الذي يستخدم في الرحلة الهادفة ليقف (ص ) على الاسرار التي اءراد تعالى اءن يكشفها للنبي (ص ), و هذا يعني اءن المساءلة هي المشاهدة , والمشاهدة عملية مباشرة حسية لا يتوقع المتلقي اءن تتحول الى رمز, فلماذا اذن صيغت من خلال الرمز؟ الرمز هناهو : عدم الزيغ وعدم الطغيان .
اءمـا الـزيغ فيعني الميل , اءي ميل البصر عما هو مرسوم من المشاهدة , كما لو مال البصرمثلا عند الشخص و هو مدعو الى مشاهدة مزرعة ما الى ما هو خارج عن اءسوارها.
و اءما الطغيان فيعني : تجاوز الحد المرسوم الى ما هو ظلم اءو علو اءو... الخ .
و اذا كان الميل ينسحب على ما هو مادي , كميل الظل مثلا, و يمكن اءن يتحول الى رمز اءو استعارة لما هو نفسي , كشغف القلب نحو شى ء ما, فان الطغيان يظل ذا طابع نفسي كالظلم , اءو الاحساس بالعلو مـثـلا, و السؤال من جديد : ان هذين الطابعين : الزيغ ‌والطغيان , قد سحبهما النص على ظاهرة هي الـبـصر. ترى ما هي الدلالة الفنية لذلك ؟المفسرون يشيرون الى اءنه (ص ) مازاغت عينه يمينا و شـمـالا و لـم يـجاوز الحد المرسوم له . وهذا يعني اءن الرحلة كانت هادفة , و اءن التجاوز للهدف المرسوم اءمر غير مرغوب فيه ,بصفته فضولا اءو سلوكا لا ضرورة له اءو منافيا للاداب العامة ...
الخ .
و الاهـم مـن ذلـك هـو تـوظيف هذين الرمزين لتوضيح الحقيقة المشار اليها, حيث ان (الزيغ ) هو الميلان , و الطغيان هو التجاوز, و اءحدهما غير الاخر, و لكنهما يصبان في دلالة متجانسة . و اذا عرفنا اءن النص القرآني لا يستخدم ما لا ضرورة له , حينئذ نستخلص فارقا بين الرمزين و الزيغ و الـطغيان متمثلا في اءن الزيغ هو مجرد تعبير عن الفضول مثلا,واءن الطغيان هو استثمار الشي ء لـلـوصـول الـى هدف غير مشروع مثلا, فالاول فضول والاخر تجاوز. و كلاهما قد نزه (ص ) عنهما.
اذن : يظل الرمزان المشار اليهما تعبيرا عن سلوك اءخلاقي خاص بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .

سورة القمر

قال تعالى : (خشعا اءبصارهم يخرجون من الاجداث كاءنهم جرادمنتشر) ((256)) . تـعد هذه الصورة التشبيهية واحدة من التشبيهات المذهلة في القرآن الكريم , اننانعرف باءن التشبيه هـو مـا يـتـركب من ظاهرتين تنتج عنهما ظاهرة ثالثة , اءو لنقل : هواحداث علاقة بين شيئين لا علاقة بينهما في دنيا الواقع , بيد اءن هذه العلاقة لا تاءخذ قاعدة خاصة بقدر ما تخضع للسياق الذي يـفرض رصدا لاوجه التشابه بين الظاهرتين , فقديرصد وجه واحد من اءوجه الشبه , بحيث يحقق الاثـارة الـفـنـية , و قد يرصد وجهان اءوثلاثة , اءو حتى يمكن في حالات خاصة اءن ترصد جميع الاوجه لدرجة التقارب اءوالتماثل بين الظاهرتين , كما في قوله تعالى بالنسبة الى قضية موارة اءحد ابـنـي آدم , حـيث رصد الشبه بين مواراته و موارة الغراب للطائر على درجة من التماثل , حيث ان كـلـيـهـمـامـن ذوي الارواح , و كليهما مقتول , و كليهما يوارى تحت التراب ... الخ . و المهم هو :
اءن بعض التشبيهات يكتفى فيها رصد واحد من السمات , و بعضها اءكثر, و بعضها غالبية السمات .
هنا, في النص الذي نحن في صدده نواجه النمط الثالث من الرصد, حيث يمكن الذهاب الى اءن هناك ما يقارب عشرة اءوجه من الشبه بين الشخوص المنبعثين من قبورهم الى عرصة القيامة و بين الجراد المنتشر, و هذا ما يحقق مزيدا من الامتاع الفني حينمايرى المتلقي هذه الاوجه المتكثرة من الشبه بينهما, مضافا بطبيعة الحال و هذا هو الاهم الـى عـملية الرصد ذاتها بما تنطوي عليها من الاثارة . و هذا ما يتطلب شيئا من التوضيح .فنقول : ان الموقف الاخروي كما هو بين من خلال النصوص القرآنية اءو الحديثية التي تصفه باءشد اءلوان الهول يـتطلب حينا صورة حسية مباشرة مثل الايات التي استهلت بهاسورة الحج مثلا (ان زلزلة الساعة ...
الخ ) ((257)) و حينا آخر يتطلب صورة تركيبية كالتي نحن في صددها.
ان الظاهرة هنا ترتبط بقيام الساعة و خروج الناس من قبورهم على اءثر نفخة الصور,و حينئذ فان الـهـول الـذي سـيـرافق مثل هذا القيام و الخروج من حيث المظهر الخارجي للعملية , اءي خروج الاعداد الهائلة من البشرية , و هي اءعداد لا يمكننا اءن نرقمها احصائيا,لكثرتها المتمثلة في البشر جميعا منذ اءن خلقوا و حتى قيام الساعة الذي نجهل وقته , مثل هذا المظهر لخروج البشرية جميعا مـن الـقـبور ليس من السهل اءن نستحضر في اءذهاننا مدى هوله , من حيث عملية الخروج في وقت واحد, و تجمعهم بعد ذلك في مكان واحد, و مايرافق كلا من عمليتي الخروج و التجمع من الزحام , اءو الطريقة التي ينتظمون خلالها اءو...الخ . كل اءولئك ليس من السهل استحضاره في الذهن بقدر ما يمكن اءن نجدها عبر صورة ماءلوفة هي مظهر الجراد المنتشر, فكلنا, اءو غالبيتنا, شاهد الاكداس مـن الجراد المتطايرهنا و هناك , والمتراكم هنا و هناك , مما لا يحصى عدده , و الطريقة التي تتم خـلالـهـاعـمـلـيـات الـتطاير و التراكم و الهبوط الى الارض . فهناك عنصر الشبه بين عمليتي الانـبـعـاث بـيـن القبور و انتشار الجراد, من حيث المكان , و هو الارض , حيث تعدده هنا وهناك , ومـن حيث تطايره بعد ذلك , و من حيث الارتطام بين بعضه البعض , و من حيث عشوائيته اءوضبابية تطايره ورحلته , و من حيث تراكمه بعد ذلك على الارض .
و اءولـئك جـمـيـعا بما يواكبه من الاحاسيس التي من الممكن اءن نتخيلها متواكبة مع عمليات البدء بالرحلة , و التطاير و الارتطام و الهبوط, تقرب لنا بوضوح مدى التماثل بين العمليتين خروج البشر و رحـلـتـه نـحو عرصات القيامة و بين الجراد المنتشر, مع ملاحظة اءن المراءى نفسه مثير كل الاثـارة , بـما ينطوي عليه من اثارة الهول و الاضطراب والذهول من جانب , و بما يحققه من الاثارة الفنية من جانب آخر, من حيث رصدنالدقائق الحادثة و خطوطها التفصيلية بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .
قال تعالى : (انا اءرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر # تنزع الناس كاءنهم اءعجاز نخل مـنـقـعـر) ((258)) و قـال تـعـالـى : (انـا اءرسـلـنـا عـلـيـهـم صيحة واحدة فكانواكهشيم المحتظر) ((259)) .
اءمامنا تشبيهان اءو صورتان , احداهما وردت في رسم العقاب لمجتمع عاد,والاخرى لمجتمع ثمود.
الصورة الاولى ورد فيها التشبيه باءداة (كاءن ), و الاخرى باءداة (الكاف ). الاولى رسمت مصائرهم مـن خـلال تـشبيهها بعجز النخل المنقعر, والاخرى بهشيم المحتظر, الاولى : وسيلتها الريح , و الاخرى وسيلتها الصيحة .
هـذه المقارنات بين المجتمعين , والعقابين و وسيلتهما و اءدوات الرسم فيهما, تظل ضرورية نظرا لانـطـوائهـا عـلى سمات فنية لها اثارتها الكبيرة , كما سنرى بالنسبة لادوات التشبيه . و سبق اءن اءوضـحنا اءن اءدوات التشبيه الثلاثة المباشرة (الكاف ) (كاءن ) (مثل )تنطوى كل واحدة منها على وظـيـفـة فنية , من حيث درجة التشابه التي تمثلها هذه الاداة .فالاداة تمثل تجسد النسبة العالية من التشابه بين الطرفيين , و الاداة الكاف تمثل الدرجة المتوسطة , و الاداة كاءن تمثل الدرجة الاقل من التشابه بين طرفي الصورة .
والـمـلاحـظ فـي الـصـورتين اللتين نحن في صددهما, اءن الاولى قد استخدم فيها الاداة كاءن , و الاخـرى استخدمت فيها الكاف , مما يعني اءن درجة التشابه بين طرفي الصورة في الاولى اءقل منها في الثانية , و هذا ما يمكن توضيحه على هذا النحو. لقد شبهت الصورة الاولى مصائر القوم باءعجاز نـخـل منقعر, بينا شبهتم في الثانية بهشم المحتظر, اءي اءن التشابه بين مصائر القوم و بين اءعجاز الـنـخل المنقعر في الصورة الاولى تظل متماثلة من حيث علاقة نمط العقاب بالمصائر, فالريح التي اءرسلت عليهم لم تمحقهم بدرجة عالية جسديا بقدر ما جعلت رؤوسهم تنقطع عن اءبدانهم , و هذا ما اءوضحته الصورة نفسهاحينما قالت ((تنزع الناس كاءنهم اءعجاز نخل منقعر)) بمعنى اءنها تقتلعهم و تـرمـي بـهم على رؤوسهم فتدق رقابهم كما ورد في التفسير, بينا نجد الصورة الثانية ترسمهم مهشمين جسديا بحيث اءصبحوا كحطام الشجر, و ليس كاءصوله , و الفارق واضح بين الصورتين .
و الـمـهم هو درجة التشابه و صلتها بالاداة حيث تتضح النسبة الماءلوفة اءو المتوسطة التشابه من خلال الصورة البشرية و الشجرية الاولى , حيث اءن رصد العلاقة بينهما لاتصل الى درجة التماثل بقدر ما اقتطع النص زاوية مثيرة من التشابه , هي فصل جزء من الشجرة عن اءصلها, و هذا ما عنيناه فـي مقدمة هذ القراءة عندما قلنا : ان المهم ليس هورصد اءوجه التشابه من الظاهرتين من زواياهما جميعا, بل الرصد لما هو مطلوب من الوجه الذي يلح النص عليه و يستهدفه , و هذا الرصد قد يكون واحدا من وجوه التشابه واثنين اءو اءكثر, حسب ما يتطلب الموقف .
و هـنـا قـد تـطلب الموقف رصد عملية الفصل بين رؤوس القوم و اءجسادهم , فاتجهت الصورة الى اءعجاز النخل المنقعر, اءما بالنسبة الى الصورة الاخرى فقد تطلب الرصد اءن يكون لاكثر من وجه مـن وجوه التشابه بين مصائر القوم والهشيم المحتظر, بسبب اءن الصيحة غير الريح , فالريح مهما كـانـت عـقيمة لا تهشم الشي ء بل تذروه . مثلا, بعكس الصيحة , و ((صيحة جبرئيل (ع ))), حيث تجسد عملية تحطيم للظاهرة , و لذلك وردت الصورة متوكئة على اءداة الكاف , و التي تمثل الدرجة الـماءلوفة في التشابه , و ليس الدرجة الاقل كالصورة الاولى و اءداتها ((كاءن )), فجعلتهم كحطام الشجر و ليس كاءصوله , و الفرق واضح بين الشجر المحتفظ باءصوله و الشجر المحطم اصولا, و هـذا واحـد مـن الـمـلامح الفنية المدهشة لهاتين الصورتين اللتين تتحدثان عن مجتميعن منحرفين تـعـرض اءحدهمالعقاب (الريح ), و الاخر لعقاب الصيحة , فجاء التشبيهان لمصائرهما متماثلين من جـانـب من حيث ابادتهما, و متمايزين من جانب آخر من حيث المظهر الخارجي للابادة , حيث فصلت الاجـسـام عـن الـرؤوس في الصورة الاولى , و هشمت الاجسام في الصورة الاخرى , تبعا لنمطي العقاب و انعكاس ذلك على الاداة التشبيهية بالنحو الذي اءوضحناه .

سورة الرحمن

قـال تـعـالـى : (و له الجوار المنشئات في البحر كالاعلام ) ((260)) و قال تعالى : (فاذاانشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) ((261)) و قال تعالى : (كاءنهن الياقوت والمرجان ...) ((262)) .
فـي سـورة الـرحـمـان الـكـريمة مجموعة صور تشبيهية , بضمنها صورة يتداخل فيهاالتمثيل و (التشبيه ), و هي صورة (فاذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ). و يلاحظ,اءن بعض البلاغيين يردم الفارقية بين التشبيه و التمثيل , و حتى بعض اءشكال الاستعارة ,حيث يعدهما اءي الاخيرين تشبيها حذفت اءداته . و هو خطاء محض ((263)) .
و يـدلـنـا على ذلك هذه الاية الكريمة ذاتها حيث لا يمكن عدها من الصور التفريعية التي يتفرع من تـشـبيهها تشبيه آخر, لذلك ينبغي اءن نعد النص المتقدم (فاذا انشقت ...) نصاينطوي على صورتين متداخلتين و متراكبتين , اءولاهما (التمثيل ), و الاخرى (التشبيه )متفرع منها.
و قـد كررنا اءن التمثيل هو احداث علاقة بين طرفين , اءحدهما يجسد الاخر بمثابة تعريف له , و هـذا مـا نـلـحـظـه في الصورة الاولى حيث تجسد السماء (وردة ) ثم يتفرع من التمثيل المذكور (تـشـبـيـه ) هـو اءن الـوردة هي كالدهان , و الا ليس بمقبول اءن نذهب الى اءن انشقاق السماء هو كالوردة , و اءن الوردة كالدهان , نظرا لعدم استخدام الاداة التشبيهية في الاولى , و هذا يعني اءن عدم الاستخدام هو, اكساب الصورة دلالة اءخرى بالنحو الذي قلناه . و اءيا يكون الامر, فالذي يعنينا هو الـتركيب الصوري لكل من التمثيل و التشبيه واءسرارهما الفنية , فنقول : ان النص يتحدث عن قيام الساعة و كيفية زوال الحياة الدنيا,ومنها نهاية السماء, حيث يشير الى تصدعها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق