السبت، 22 مارس 2014

نزار قباني..الحب يبدأ من دمشق وحديث عن شعره وحياته

نزار قباني..الحب يبدأ من دمشق وحديث عن شعره وحياته


قد لا يوجد شاعر عربي وقف شعره حبا لوطنه ... ووفاء لمدينته ومكان ولادته مثل نزار قباني , لأنها ساهمت في تشكيل نسيجه الشعري
والفني والجمالي والعاطفي وتكوين فكره وثقافته وإبداعه ولو نشأ في بلد آخر غير سورية . وغير دمشق لا اختلفت مسيرة الحياة الثقافية وتكوين القصيدة العربية اختلافا كبيرا في الوطن العربي .. لذا كانت علاقة التأثر والتأثير المتبادل بين الشاعر وبيئته على أشدها لأنه كان يحاول إعادة تشكيل الأوطان وتشكيل الإنسان في الوطن العربي ... إنسان الفكر والشعر والأدب .. الانسان الحر الخالي من العقد الدينية والسياسية والنفسية والاجتماعية .. فمشروعه في أساسه كان يرتكز إلى مقومات اجتماعية أخلاقية وقومية .. وكان يرى في دمشق منطلقا لمشروعه وحلمه القومي العربي , سيما كان قد عقد الزواج بين المرأة والوطن :والحب يبدأ من دمشق فأهلنا عبدوا الجمال وذوبوه وذابوا‏
ودمشق تعطي للعروبة شكلها وبأرضها تتشكل الأحقاب‏
ويبلغ الحب لدمشق ذروته عند نزار حين تصبح جزءا من دمه وخلايا جسده وتشتبك بأعصابه وروحه فيمنحها أجمل قصائده التي يخصها بها ولننظر إلى بعض عناوين أشعاره فنجد : القصيدة الدمشقية , ترصيع بالذهب على سيف دمشقي , موال دمشقي , من مفكرة عاشق دمشقي كازانوفا يبكي في دمشق , الشام بتتكلم عربي ,. رسالة من ستالينغراد إلى قنيطراغراد دمشق ... تتزوج , يدافعان عن الجولان ويدافعان عن قلبي , إلى الأمير الدمشقي توفيق قباني , مواويل دمشقية إلى قمر بغداد ..‏
هذي دمشق وهذي الكأس والراح إني أحب وبعض الحب ذباح‏
أنا الدمشقي لو شرحتم جسدي .. لسال منه عناقيد وتفاح‏
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني .. وللمآذن كالأشجار أرواح‏
أجمل المفردات والتعابير والأوصاف كانت لدمشق التي تختصر جميع النساء وتؤكد الحب الصادق للشاعر يهيم بها حتى تصبح هي الحبيبة التي يلقي برأسه على صدرها ويغفو بعيدا عن الهموم والأحزان :‏
فرشت فوق ثراك الطاهر الهدبا فيا دمشق , لماذا نبدأ العتبا ؟‏
أنت النساء جميعا .. ما من امرأة أحببت بعدك , إلا خلتها كذبا‏
ياشام إن جراحي لا ضفاف لها فامسحي عن جبيني الحزن والتعبا‏
دمشق ياكنز أحلامي , ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا ؟‏
إن صناعة دمشق الأساسية هي العروبة .. وهذه الصناعة الدمشقية قديمة جدا .. ومشهورة جدا ... إن المادة الرئيسية في جدول الصادرات السورية هي ( القومية العربية ) ..لا أحد يتكلم العربية مثل دمشق ولا أحد يحمل سلم العروبة بالعرض إلا دمشق ولا أحد يجيد صناعة السيوف المطعمة بالذهب والفضة إلا الدمشقيون والذين يصنعون السيوف يرثون أخلاقها .‏
هذه هي سورية ... كانت في الحرب أستاذة .. وكانت على طاولة الحوار أستاذة .. فهل سمعتم سورية وهي تتكلم بالعربي الفصيح ؟‏
بهذه اللغة المتقنة .. يواكب نزار الأحداث التي تمر على أمته ويحضر نثره وشعره في كل موقف يتطلب منه الحضور . فأثناء حرب تشرين التحريرية .. وخلال حرب الاستنزاف .. ومفاوضات الهدنة والحوار .. كان يقاتل بالكلمة ويحاور بالشعر .. إلى جانب الجيش العربي السوري وإلى جانب المفاوض السياسي السوري .. نافضا غبار الذل والخنوع عن إرادة الأمة العربية .. مبينا أسبقية وفضائل دمشق في النضال الدائم من أجل القومية العربية ذلك أن ( صناعة دمشق الأساسية هي العروبة ) فدمشق حسب رأي الشاعر هي فاتحة العروبة وسيفها المسلول .. لذا عندما قامت حرب تشرين 1973 غناها نزار أروع قصائده وأحلاها :‏
شمس غرناطة أطلت علينا بعد يأس وزغردت ميسلون‏
جاء تشرين يا حبيبة عمري أحس الوقت للهوى تشرين‏
مزقي يا دمشق خارطة الذل وقولي للدهر كن فيكون‏
ودمشق عروس الشاعر ولكن مهرها ثمين جدا .. فمهر المناضلات أغلى ولكن من سيدفع ؟!‏
ويشعر نزار أنه مدين لمدينته دمشق وكلما جاء يرد ديونه إليها .. حاصرته الديون مرة أخرى :‏
البسي يا دمشق دموعي سوارا وتمشي فكل صعب يهون‏
وضعي طرحة العروس لأجلي إن مهر المناضلات ثمين‏
كلما جئتها أرد ديوني للجميلات حاصرتني الديون‏
إن تخلت كل المقادير عني فبعيني حبيبتي أستعين‏
هكذا تصبح دمشق الملاذ الأخير للشاعر والملجأ الذي يلتجئ إليه إذا خانته الأزمان وتخلت عنه الأقدار .. وهذا فعلا ما تحقق له وعاد إلى تراب دمشق ليسكن بعيني حبيبته أبد الدهر ..‏
لقد تداخل حب دمشق وتمازج مع شبكة تكوينه المعقدة حتى استطاعت دمشق هذه المدينة العظيمة والوطن العظيم أن تشرش في لغة الشاعر وثقافته وتاريخه ومسيرة حياته .. وبهذا استطاع أن يرفع هذا الحب ويسمو به ويجعله يمتد عصورا وعصورا منذ بداية التاريخ وما قبله كذلك وحتى نهاية الزمان القادم فهي الأول والآخر وهي بداية العروبة وبداية الانسانية :‏
يا دمشق التي تقمصت فيها هل أنا السرو أم أنا الزيتون‏
حامل حبها ثلاثين قرنا فوق ظهري وما هناك معين‏
نحن أسرى معا وفي قفص الحب يعاني السجان والمسجون ..‏
غير أن الهوى يصير ذليلا كلما ذل للرجال جبين ..‏
إذا دمشق حبيبة الشاعر التي يتغزل بها والتي ابتعد عنها لكنها لم تبتعد عنه .. ولم تفارق قصائده .. وهذا ما بحثه الدكتور أحمد بسام ساعي في كتابه حركة الشعر الحديث في سوريا من خلال أعلامه .. حين عقد مقارنة طريفة بين الشاعر أدونيس والشاعر نزار قباني وقد غادر الاثنان وطنهما .. فأدونيس قد اغترب من سورية أو فر منها وكان يمكن له في مفره أو في منفاه أن يحتفظ بسوريته كما فعل نزار قباني ولكنه لم يفعل ..‏
وأدونيس, إذ يترك سورية , يودع فيها كل مشاعره القومية والشرقية التي تربطه بالوحدات البشرية في مختلف درجاتها , السوريون , العرب , الجماعة , الفرد , ليقول وداعا يا عصر الذباب في بلادي .. أترك الوطن المليء بالسواد المليء كالبيضة حيث لا مكان للشمس .. ص506‏
أما نزار كلما ابتعد عن دمشق ازداد إحساسا بارتباطه بها , واتصال مشاعره بكل حنية من حناياها العتيقة التي انطبعت صورها في قرارة نفسه , وكانت أبجديته الشعرية هي أبجدية مساكن دمشق القديمة المظللة بالدوالي , وطرقاتها الحجرية الضيقة , وأحواض مياهها , وياسمينها وفلها وفتياتها هذه اللغة الشامية التي تتغلغل في مفاصل كلماتي تعلمتها في البيت المظلة .. ولقد سافرت كثيرا بعد ذلك , وابتعدت عن دمشق موظفا في السلك الدبلوماسي نحو عشرين عاما , وتعلمت لغات كثيرة أخرى و إلا أن أبجديتي الدمشقية ظلت متمسكة بأصابعي , وحنجرتي , وثيابي وظللت ذلك الطفل الذي يحمل في حقيبته كل ما في أحواض دمشق من نعناع , وفل , وورد بلدي .‏
إن نظرة سريعة على الموقفين السابقين لشاعرين كبيرين يمثلان قطبي الحداثة الشعرية في سوريا تظهر بوضوح الموقف السلبي واللامسؤول واللاملتزم لأدونيس مقابل الموقف الإيجابي والملتزم والمحب لنزار قباني تجاه وطنه ومدينته التي تظل أسيرة عنده بكل ما فيها من مساوئ ومحاسن .‏
ومهما قدمت له من إساءات فإن حسناتها تمحو كل شيء عداها .. وهذا ما لم نجده عند أي شاعر سوري آخر :‏
مدينتنا تظل أثيرة عندي برغم جميع ما فيها أحب نداء باعتها أزقتها , أغانيها مآذنها كنائسها سكاراها .. مصليها تسامحها , تعصبها عبادتها لماضيها .‏
أخيرا ... إن أسلوب السهل الممتنع الذي يتبعه في كتاباته يمثل فخا كبيرا للنقاد ولكل من يحاول الاقتراب من أدبه فكيف يفسر المرء ما هو مفسر وكيف يشرح ما هو أوضح من نور الشمس في عز الظهيرة من نهارات الصيف ؟!وكأنه بهذه اللغة الواضحة الجميلة والعميقة يحقق معجزة شعرية تفرد بها عن غيره .. لذا لم يكن باستطاعتنا إلا أن نذكر الفكرة وندعمها بشواهد من شعره ..‏
وإذا أردنا أن نعود إلى الجذور والأسباب نجده قد سبقنا إليها ..فقد كان نزار مقتنعا بأنه فنان حقيقي يحطم العالم بالكلمات ويعيد رسمه واكتشافه وهندسته وبناءه بالكلمات أيضا .. وإذا أردنا أن نسأل عن المرأة المثالية ..والحب المثالي الناضج .. والوطن العظيم المتحرر .. فعلينا أن نفتح دواوين قصائده ... ونقرأ أشعاره .. بيتا بيتا وكلمة كلمة .. وكل فاصلة ونقطة .. وإشارة تعجب واستفهام .. بعيدا عن أية أحكام مسبقة وآراء جاهزة وأية رؤيا ضعيفة وتجزيئية وأية مصلحة مهما صغرت وتضاءل شأنها .. ونختم هذا البحث بوصية الشاعر التي كتبها وهو يلتقط بنبضات فؤاده جميع ما في العالم وخصوصا وطنه , ومدينته دمشق , من حب وطفولة وجمال ليؤكد استمرارية حبه وعشقه لدمشق حتى بعد رحيله , مطمئنا إلى أن يعود الطائر إلى عشه .. والطفل الصغير إلى حضن أمه فكانت وصيته الأخيرة تختصر تاريخه الفكري والثقافي وموقفه العاطفي والإنساني من بلده وشعبه ومدينته فكان شاعرا بالموقف / الفعل وبالكلمة والالتزام ونختم بحثنا بوصيته التي هي آخر ما كتب وآخر عشق تفرد به :‏
أرجو أن ينقل جثماني إلى دمشق ويدفن في مقبرة الأهل في باب الصغير وإنني أعتبر هذه الوصية نهائية ..‏
وهكذا يعود الطائر إلى عشه , والطفل الصغير إلى حضن أمه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق