الجمعة، 28 مارس 2014

قراءة في كتاب الشعر العربي المعاصر

قراءة في كتاب الشعر العربي المعاصر

  أبرز الأعمال التي أسست لنظرية الشعر العربي المعاصر في القرن العشرين، ووضعته في سياقه الثقافي المؤطر له "كتاب الشعر العربي المعاصر لمؤلفه عز الدين إسماعيل" وهو كتاب يستحق من كل باحث في ميدان الحداثة الشعرية الوقوف معه ومحاورته في كل القضايا التي يتناولها .

الكتاب وإن حمل عنوان الشعر العربي المعاصر (قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) فإنه اتخذ كمدخل له قضيتي المعاصرة والتراث وهما قضيتان غير منفصلتين نظرا للتلازم والترابط القائم بينهما وهو ما عبر عنه  المرحوم عز الدين بقوله :"فأنت لكي تكون عصريا لابد أن تحدد موقفك من التراث ".

أي ماذا يعني التراث بالنسبة لك كشاعر تمثل الضمير الحي لهذه الآمة ,وكشخص تتلقي تجارب السالفين , وتتعاطي معها فلابد أن تحقق هذه الرؤية ,بل ولابد لك من تشخيص هذا الموقف وتجسيده في تعاملك مع معطيات الحياة. يقول عز الدين "كما أنك لا تستطيع أن تفسر نوعية موقفك من التراث ,إلا من خلال فهمك لمغزى هذا التراث بالنسبة لظروف الحياة الراهنة. فالتعاطي معها سلبا أو إيجابا لا يكون اعتباطيا بل لابد أن يؤسس علي رؤية واعية ومتعمقة بما يعنيه هذا التراث ,أي معرفة كنهه , وليس بظواهره أوقشوره ، فتلك سطحية تشوه حقيقة هذا التراث" .

وهنا يطرح الدكتور عز الدين مجموعة من الأسئلة ,التي تؤكد استحالة خروج الشاعر عن معطيات عصره أو عدم التعبير عنها فيقول " هل يمكن أن يكون الشاعر إلا عصريا ؟ أم هل يملك إلا أن يكون معبرا عن عصره من وجه أو آخر ؟ وبعبارة أخري أيمكن أن يعيش شاعر في عصر ويعبر في الوقت نفسه عن عصر آخر ؟".

تؤكد كل هذه التساؤلات علي الرؤية القائلة بحتمية عصرية الشاعر وهي الرؤية التي يؤسس لها عز الدين في كتابه هذا أي عصرية الشاعر مهما كان من خلال تعبيره عن عصره وتفاعله مع معطياته , والاستفادة منها في إثراء تجربته الشعرية بأي شكل كان ذلك فكل الطرق تؤدي إلي المعاصرة ,وان اختلف النقاد في تحديد مفهومها ,نظرا لسطحية نظرة بعضهم إليها أو محاولة تبسيط مفهومها وهو تبسيط أو سطحية لم تمنع عز الدين من استحضار رأي أصحابها ,مجسدا ذلك في وجهة نظر زكي نجيب محمود القائل "إن جميع الشعراء الذين يعيشون بيننا معاصرون...بسبب بسيط هو أنهم أبناء هذا العصر "وهو تصور لا يفي بالمطلوب في هذا المجال الذي لابد فيه من استكناه حقيقي لظروف العصر والتعبير عنها بالشكل المناسب لها ,وقد جر هذا النوع من الفهم للمعاصرة آراء أخري لم تأت بجديد بل إنها عقدت المسألة ,وأخرجتها من حيزها المنشود في ربطها بالتراث وتعالقها معه ,فكانت أولي هذه الرؤي , رؤية ذات مفهوم سطحي يدعو إلي القطيعة مع التراث وقد قاد لواءها أبو نواس بدعوته لهجر الوقوف عل الأطلال والدمن , واستبدالها بالخمارات والحانات كما تكرر نفس النموذج مع أحمد شوقي في دعوته إلي وصف مخترعات العصر.

أما الرؤية الثانية :فهي ما يسمي بالعصرية المطلقة والمغالية التي مثلها الشاعر الفرنسي {رامبو} الذي أراد أن يظهر من خلال الفنون ,شعورا بالظواهر المعاصرة ,غير أن هذه الدعوات قد أخفقت في الاستمرار ,لأنها لم تعبر عن الفهم الحقيقي للمعاصرة ,الذي يتطلب فهم روح العصر والتعبير عنه مع استيعاب كامل للتاريخ من منظور عصري.

لذلك نشير إلي أن هذا العصر قد سخر للشاعر ما لم يكن عند الأقدمين خاصة بالتواصل والتلاقح الثقافي بين كل الحضارات البشرية علي اختلاف مشاربها ومآربها ,مما أسس لوحدة في الفكر الثقافي و سهل علي الشاعر تبني كل القضايا الإنسانية ,أينما كانت , ولعل هذا التميز وهذه الشمولية هي التي جرت علي الشعر المعاصر هذا السيل من التهم ,وهذا الفهم الخاطئ لحقيقة رسالته ,وصلته بماضيه فكان الفهم السائد أو الذي كان يلقي رواجا واسعا هو أن هذه التجربة إنما جاءت لتعلن القطيعة مع التراث وقد غذا هذا التصور التعاطي الإيجابي مع ما سمي قديما ب{المعركة بين الجديد والقديم} وهو في رأي عز الدين تصور مفتعل تجب إعادة النظر فيه لأنه يجانب الصواب في فهم العلاقة بين الجديد والقديم ,لأنها قطعا ليست عدائية بل إنها في أبعد صورها علاقة مغايرة والمغايرة ,لا تعني العدائية , فالشعر الجديد يختلف فعلا في منحاه الجمالي شكلا وموضوعا ـ عن الشعر القديم ,لكنه ليس خروجا أو إقصاء وقد برهنت علي ذلك كل التجارب الأولية المؤسسة لهذه الحركة.

وبعد هذه الوقفة مع إشكالية العلاقة بين الشعر المعاصر والتراث ,يدخل الكاتب في القضايا والظواهر الفنية والمعنوية المميزة لهذا الشعر وفي مقدمتها التشكيل الموسيقي الذي تجاوز فيه المعاصر العمود الشعري المتوارث .

وللحديث عن هذا التشكيل الموسيقي لابد أن نشير إلي أن أي فن يستند في تشكيله علي اللغة , واللغة أداة زمانية ,تمثل مجموعة من الأصوات المقطعة في مقاطع , في تتابع معين لحركات وسكنات في نظام اصطلح الناس علي أن يجعلوا له دلالات بذاتها وعلي هذا يري عز الدين "أن اللغة تشكيل للزمن نفسه , تشكيل يجعل له دلالة معينة " والتشكيل الزماني في الشعر يعني كل ما يتصل بالإطار الموسيقي للقصيدة من وزن وقافية وإيقاع وصورة موسيقية ,ومن الجدير بالذكر أن الشاعر العربي القديم ,لم يكن لحظة نظمه القصيدة,يقوم بعملية تشكيل زماني لها ,لأن الشكل موجود أصلا وهو البحر الشعري العروضي ,وهنا رأي الشعراء المعاصرون أن أول خطوة في التجديد ينبغي أن تبدأ بإعادة هذا الشكل ,مما يسمح بالحرية التي يبحث عنها وهو ما تحقق له ,وقد مرت هذه التجربة بمرحلتين :

ـالأولي: مرحلة تفتيت البنية العروضية للبيت الشعري , وإحلال السطر الشعري محلها , والسطر الشعري عبارة عن تركيبة موسيقية للكلام ,لا ترتبط بأي شكل خارجي ثابت .

أما الثانية : فهي مرحلة الجملة الشعرية ’التي هي بنية موسيقية أكبر من السطر , واحتفظت بكل خصائصه .

وغير بعيد عن التشكيل الموسيقي للشعر الجديد يتناول عز الدين تشكيلا آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو التشكيل المكاني أي تشكيل الصورة الشعرية التي يخلق من خلالها الشاعر توافقا بين النفسي الطبيعي ليكون أكثر دقة في ما يريد الوصول إليه يقول عز الدين "إن الصورة الشعرية رمز مصدره اللاشعور والرمز أكثر امتلاء وأبلغ تأثيرا من الحقيقة الواقعة " لكن تشكيل هذه الصورة معضلة مما يجعلنا في حاجة دائمة إلي توضيح هذا الإشكال واستكناه حقيقته , لأن للصورة الشرعية تركيبة معقدة وغريبة , لارتباكها بكل ما يمكن استحضاره في الذهن من مرئيات أي ما يمكن تمثله في المكان , ومن أهم ما يميز الصورة في الشعر الجديد هو ما أسماه عز الدين "ظاهرة التكثيف الزماني والمكاني في انتخاب مفردات الصورة وتشكيلها ".

وإذا كان التشكيل الموسيقي وتشكيل الصورة مسألتين قديمتين جديدتين في الشعر فان هنالك بعض القضايا والظواهر , التي قد تميز الشعر المعاصر ويختص بها أكثر من غيره ومن أبرز هذه الظواهر :الغموض , وهو أمر طبيعي لتميز لغة الشعر المعاصر عن الشعر القديم , نظرا لما يحمله هذا العصر من الهموم والقضايا التي لم تكن مطروحة من ذي قبل ,يقول عز الدين "ولغة عصرنا تختلف بكل تأكيد عن لغتنا في أي عصر مضي وهي لا تختلف عنها من حيث هي لغة مجردة فما عربيتنا الأدبية أو الكتابية بعامة هي العربية الفصحى " .إلا أن الجديد الذي طرأ وتجدر الإشارة إليه هو تغير ظروفنا نحن ,مما يستدعي تغييرا في أفكارنا وتصوراتنا وآرائنا وغيرها ,مما يفرض وجود تشكيل جديد للغة التي نتكلم بها فيجد فيها القارئ الذي لم يتعود عليها غموضا للتصور يحسبه غريب لكنه ليس كذلك , ومما عزز فكرة الغموض هذه في أذهان الكثيرين استخدام هذا الشعر للرموز والأساطير وهي ظاهرة فنية تميز التجربة الجديدة ’ لأن طبيعة الرمز غنية ومثيرة تجعل التعبير به أمرا مفيدا في جلاء الصورة التي يعبر عنها الشاعر دون أن يراعي في ذلك أي محظورات مهما كانت سواء عنده في ذلك الرمز الديني والعلمي واللغوي, فا لمهم أن يحسن الشاعر استغلال العلاقات أو لأبعاد القديمة لهذا الرمز والأمر لا يختلف كثيرا عند الحديث عن الأسطورة بل يخضع الشاعر في تعامله معها لنفس المبادئ التي تحكم استخدامه للرمز , ذلك أن الأسطورة أقرب إلي أن تكون جمعا بين طائفة من الرموز المتجاورة , والي جانب تعامل الشاعر مع الأسطورة فقد تسللت إلي التجربة الجديدة النزعة الدرامية نظرا لوعي الشاعر واتساع ثقافته ولضرورة فرضتها عليه الحياة ,فتعامل معها الشعراء وان أخفق فيها الكثيرون يقول الدكتور عز الدين "وانما تتوقف الخاصية الدرامية في الشعر علي مقدرة الشاعر في الوقت نفسه علي اختيار ما هو جوهري والاستغناء عن التفصيلات ", أما من الناحية المعنوية فان الظواهر الجوهرية التي ميزت هذا الشعر هي الارتباط بالمدينة ... والالتزام والثورية وهي ظواهر فرضها الواقع الذي يعيشه الشاعر , فمعظم شعراء هذه الفترة تحدثوا عن المدينة وعنونوا دواوينهم بها وهو عائد إلي تأثير الشعر الغربي يقول عز الدين إسماعيل "لابد أن ظروف الحياة التي يمارسونها والإطار الحضاري الذي يعيش فيه شعراؤنا المعاصرون , وواقع التجربة الني يعانيها هؤلاء ,هي التي ارتفعت بهذا الموضوع إلي مستوى الاهتمام " أما الحزن فكان حاضرا مستشريا حتى لفت الأنظار وان لم يكن محورا أساسيا في ما يكتبه الشعراء حتى أثار جدلا واسعا بين النقاد والشعراء , ذلك أن الشعراء حسب رأي عز الدين " صاروا يلحون إلي إبراز جانب واحد من الحياة هو جانب القتامة فيها "ولا يلتفتون إلي الجوانب المضيئة , وهذا غير منطقي فالحياة ليست كلها سوادا بل فيها جميع الألوان , ولعل سبب هذا النظر الأحادي الجانب هو اتساع الرؤية واكتشاف الكثير مما لم يكن معروفا لدي القدماء , ومن أهم هذه الظواهر كذلك الالتزام والثورية التي تعتبر جديدة كل الجدة لأنها تعبر عن ارتباط الشاعر بالحياة والواقع الذي يعيشه واحتكاكه بهذا الواقع بما يعج به من مشاكل مختلفة الأبعاد , مما حتم علي الشاعر معالجة هذه القضايا والالتزام بها حتى تظل الصلات قائمة بينه وجمهور المتلقين .

هذه إذا مجمل القضايا التي تناولها كتاب الشعر العربي المعاصر في تأسيس صاحبه لنظرية هذا الشعر ليعبر بحق عن الانطلاقة الأساسية لبناء الهرم الشعري الحديث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق