الجمعة، 28 مارس 2014

تجليات القدس في الشعر الفلسطيني المعاصر

تجليات القدس في الشعر الفلسطيني المعاصر

تجليات القدس في الشعر الفلسطيني المعاصر


بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
 
غير خافٍ على أحد أن مدينة القدس تحظى بمكانة خاصة لدى بني البشر جميعاً، وذلك بما لها من قداسة وعراقة؛ جعلا منها قِبلةً لكل إنسان يدين بدين سماوي، أو ينتمي لحضارة عريقة.
فهي تضم "حوالي 200 أثر إسلامي، و60 أثراً مسيحياً، و15 أثراً يهودياً." وهي بذلك حاضنة الأديان السماوية، وأكثر المدن تمثيلاً لها.
ونظراً لما تكتسبه هذه المدينة من رمزية على مستويات عدة كالمستوى الديني، والمستوى الحضاري، والمستوى السياسي. .. فقد استقرت في ضمير الإنسان وفي عمق حضارته؛ فكانت محوراً لصراع – امتد على مدار التاريخ – بين الإمبراطوريات والحضارات المتصارعة و المتعاقبة آلت فيه إداراتها إلى جهات متعددة ومتنوعة خلعت عليها أسماء عديدة.
فإذا كانت النشأة الأولى لهذه المدينة على أيدي الكنعانيين واليبوسيين الذين أطلقوا عليها اسم (أور سالم)  "حيث اعتبرت مدينة القدس من بين مدنهم والتي يحتمل أنها ظهرت إلى الوجود في القرن 18 ق.م." "وقد نزح اليبوسيون مع القبائل الكنعانية إلى فلسطين، وكانوا أول من سكن مدينة القدس، وأول من قام ببنائها." "أما الفلسطينيون فقد عادوا إلى بلاد كنعان سنة 1175 ق.م من الليريا على الأرجح. .. وهم الذين أعطوا البلاد اسم فلسطين الحالي." وقد قام داود عليه السلام بتوحيد القبائل الإسرائيلية "وتولى قيادتها، وأصبح ملكاً عليها، ثم استطاع أن يستولي على القدس التي كان اسمها أورشالم ثم أورشليم حوالي سنة 1000 ق.م من اليبوسيين." ثم دخلها البابليون بقيادة نبوخذ نصر الكلداني، ثم احتلها اليونان الإغريق، فالرومان على يد الإمبراطور هادريا نوس سنة70م الذي غير اسمها إلى إيليا كابيتولينا ثم أحرقها الفرس، وفتحها المسلمون سنة 14 هـ الموافق 636م حيث سلمها بطريركها للخليفة عمر.وأسموها بيت المقدس ثم احتلها الفرنجة إبان الحروب الصليبية وحررها الناصر يوسف صلاح الدين الأيوبي، ثم سلمها الملك الكامل للفرنجة مرة أخرى وعاد الناصر داود فحررها وظلت تحت الحكم الإسلامي إلى أن احتلها الغزاة الصهاينة كاملة في حربي النكبة والنكسة.
ونظراً لما تتمتع به مدينة القدس من أهمية دينية تاريخية وحضارية؛ فقد حظيت بمكانة مرموقة في الأدب العربي. وقد تغنى بها الشعراء العرب على مر القرون فمنهم من تطرق لمكانتها الدينية، ومنهم من تطرق لمعالمها، ومنهم من جمع بين الجانبين فأصبحت القدس في شعرهم رمزاً مقدساً يشعل النفس و المخيلة في السلم والحرب على حد سواء.
ولعل حقبة الحروب الصليبية بما شهدته من مد وجزر، وكر وفر كانت الأوفر حظاً في الشعر العربي القديم الذي تناول القدس.
فقد تغنى شعراء هذه الحقبة بمعالم القدس وانتصاراتها وانكساراتها وبينوا أثر ذلك كله في نفوس المسلمين.
ومن الشعراء الذين تغنوا بالمدينة المقدسة عمارة اليمني إذ يقول:
 
قولا لمن في عزمه فترة ارجع إلى الجد وحل المراح
فالقدس قد أذن إغلاقه علي يدي يوسف بالانفتاح
 
وهو هنا يتفاءل بفتح القدس واستعادتها من أيدي الفرنجة على يد القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، كما يدعو إلى العمل الجاد من أجل هذا الفتح، وكذلك إلى نبذ الفرقة والتخاذل؟
 
ويؤكد العماد الأصفهاني هذا الشعور لدى عمارة اليمني فيقول:
 
أوما وعدت القدس أنك منجز ميعاده في فتحه وظهوره
فمتى تجير القدس من دنس العدا وتقدس الرحمن في تطهيره
 
فهو هنا يحث الهمم على فتح القدس متعجلاً ذاك الفتح الذي اعتبره عبادة وتقديساً لله عز وجل.
لذا فإننا نجد الشاعر نفسه يهنئ صلاح الدين بفتح القدس فيقول :
 
فلا يستحق القدس غيرك في الورى فأنت الـذي مـن دونهم فتـح القدسا
 وطـهرته مـن رجسـهم بدمـائهم  فأذهبت بالرجس الذي ذهب الرجسا
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها وألبستهـا الدين الـذي كشف اللبسا
 
وهو هنا يهنئ الفارس المغوار بفتاته التي حررها من أيدي الغزاة، فجعل من مدينة القدس فتاة أو قل عروساً تخلع لباس الذل والكفر وترتدي لباس العزة والكرامة والإسلام، وهي صورة تتلاءم مع أجواء النصر والتحرير التي عاشها الشاعر وأمته فرحة وسعادة.
وكذلك فعل الشاعر الشريف الجواني الذي أشاد بالنصر الذي حققه صلاح الدين، ونوه إلى الذل الذي أحاق بأعدائه ومليكهم قائلاً :
 
أترى مناماً ما بعيني أبصر القدس يفتح والفرنجة تكسر
وقمامة قمت من الرجس الذي بزواله وزوالها يتطهــر
ومليكهم في القيد مصفوداً ولم ير قبل ذاك لهم مليك يؤسر
 
هذا فيما يتعلق بتحقيق النصر، أما فيما يتعلق بالهزيمة وسقوط القدس في أيدي الفرنجة فقد تعرض إليه الكثير من الشعراء بالرثاء والحزن ومن بينهم الشاعر مجد الدين محمد بن عبد الله الحنفي إذ يقول:
 
مررت على القدس الشريف مسلماً  على ما تبقى مـن ربوع كأنـجم
ففاضت دموع العين مني صبابة على ما مضى من عصرنا المتقدم
 
فهو يسكب الدموع لما آلت إليه هذه المدينة المقدسة، فقد محا الغزاة معالمها الإسلامية ودمروا مقدساتها ظناً منهم بأنهم يغيرون التاريخ ويحرفون مساره. وهو ما يقوم به الاحتلال "الإسرائيلي" في وقتنا الحالي محاولاً تغيير الحقائق التاريخية والجغرافية على الأرض لنزع الصفة الفلسطينية عن المدينة وإلباسها ثوباً زائف اللحمة قوامه المستوطنات وجدار الفصل العنصري.
وكذلك يفعل الشاعر القرقساني عندما يقول :
 
   مصاب القدس قـد سلب الرقـادا وقد لبس الخطيب به الحدادا
   وقـاضيه قضى نحبـاً وإن لـم  يمت لخراب ما أعلى و شادا
 ونادى المسجد الأقصى : أيرضى بهذا الفعل من فرض الجهادا ؟!
   ومنبـره الشريف يئن خوفــاً  وممـا حـل بالمحـراب مادا
 
ألا تذكرنا هذه الأبيات بما تعاني منه مدينة القدس ومسجدها الأقصى المبارك، من حصار ودمار؛ من حفر وإحراق. من قتل وإبعاد، كل ذلك يأتي في سياق رغبة العدو في نيل الاعتراف بالتفوق (الميجالوثيميا)، التي تظهر في سعي هذا العدو للاعتراف به ألا يؤكد هذا لنا أن التاريخ يعيد نفسه وإن تغيرت الأسماء و الوجوه.
وهناك نماذج عديدة من الشعر لكثير من الشعراء في حقبة الحروب الصليبية تؤكد ذلك.
 
لكننا سننتقل إلى حقبة أخرى. هي العصر الحديث فقد ورد ذكر مدينة القدس على استحياء وفي قصائد محدودة لدى بعض الشعراء العرب مما يدعو إلى القول أن قضية القدس لم تشكل محور ارتكاز في حقبة ما بعد الحروب الصليبية. وقد ظل الأمر على ذلك الحال إلى أن سقطت المدينة مجدداً في أيدي الغزاة الصليبيين في الحرب العالمية الأولى. فعندما دخل "اللنبي" القدس عام 1917م أثناء الحرب العالمية الأولى قال "الآن انتهت الحروب الصليبية وعندما دخل الجنرال غور دمشق عام 1920 توجه إلى ضريح صانع نصر حطين البطل المسلم صلاح الدين الأيوبي ليقول بشماتة الحاقد المتعصب "ها نحن عدنا يا صلاح الدين"!! وظل الحال على ما هو عليه إلى أن سقطت المدينة في أيدي الصهاينة، فطالعتنا بعض القصائد لشعراء عرب أشاروا فيها إلى المدينة المقدسة ولكن هذه القصائد لم تصور الصراع الذي دار حول المدينة، ولم تعبر عن الخطر المحدق بها.
ومن بين الشعراء الذين أرسلوا تحياتهم للقدس الشاعر خليل مطران في قصيدته "تحية للقدس الشريف" إذ يقول"
 
سلام على القدس الشريف ومن به
على جامع الأضداد في إرث حبه
على البلد الطهر الذي تحت تربه
قلوب غدت حباتها بعض تربه
 
وهي كما نلاحظ قصيدة لا تلامس معاناة القدس وأهلها و لم تصور الهجمة الشرسة على هذه المدينة.
ومن الشعراء الذين تحدثوا عن القدس الشاعر المصري علي محمود طه :
 
أخي إن في القدس أختاً لنا أعد لها الذابحون المدى
أخي قم إلى قبلة المشرقين لنحمي الكنيسة و المسجدا
يسوع الشهيد على أرضها يعانق في جيشه أحمدا
 
يشير الشاعر إلى استعداد العدو للانقضاض على القدس ويدعو الأمة العربية إلى التوحد لمواجهة هذه الهجمة الشرسة للأعداء، وهذا لا يكون إلا بوحدة العرب مسلمين و مسيحيين، وبذلهم كل نفس من أجل رد العدوان.
وكذلك نجد الشاعر عمر أبو ريشة قد تحدث عن القدس في قصيدته التي تحمل عنوان (عرس المجد) وهي قصيدة ألقيت في الحفلة التذكارية التي أقيمت في حلب، ابتهاجاً بجلاء الفرنسيين عن سوريا وتعرض فيها الشاعر لذكر القدس إذ يقول :
 
أين في القدس ضلوع غضة لم تلامسها ذنابى عقرب؟
      وقف التاريخ في محرابها وقفة المرتجف المضطرب
 
ثم يقول في موضع آخر من القصيدة ذاتها :
 
يا روابي القدس، يا مجلى السنا يا رؤى عيسى على جفن النبي
دون عليائك في الرحب المدى صهلة الخيل ووهج الغضب!
 
أضف إلى ذلك ما قاله إيليا أبو ماضي، والجواهري، ومظفر النواب.
ومن الملاحظ أن القصائد العربية التي تعرضت لذكر القدس في هذه الحقبة قليلة وإنها لم ترق إلى مستوى أهمية المدينة و قدسيتها.
وأما على صعيد الشعر الفلسطيني الحديث فالأمر مختلف، إذا قلما نجد شاعراً لم يولِ اهتماماً للقدس. فالقدس بالنسبة للشعراء الفلسطينيين رمز عزة وكرامة، وهي كذلك مركز الصراع العربي "الإسرائيلي" والذي يعد امتداداً للصراع التاريخي الذي شهدته المدينة على مر العصور، لذا فإنهم أولوها اهتماماً كبيراً تجلى نفثات حرى في أنغامهم وقوافيهم، وتجسد ألماً وحزناً في أبعاد متعددة عرفتها قصائدهم.
ومن هنا فإن الباحث سوف يتناول هذه الأبعاد ويكشف عن تفاصيلها من خلال الشعر الفلسطيني. أما هذه الأبعاد فهي.
 
أولاً : البعد الديني
 
تحظى مدينة القدس بأهمية دينية كبرى لم تتوفر لغيرها من المدن على مر الأيام. فهي مركز مقدس لدى أنصار الديانات السماوية الثلاث كما أنها مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السماء. وهي في عقيدتهم مباركة لقوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)  صدق الله العظيم
 
وهي في نظر أنصار الديانة المسيحية مقدسة أيضاً لأنها معبر ألام المسيح ومركز صلبه حسب اعتقادهم و قيامته "فقال الملاك للمرأتين: "لا تخافا أنتما، فإني أعلم أنكما تطلبان يسوع المصلوب. وليس هو هنا، لأنه قام كما قال."  وقد كان في أورشليم /القدس.
وهي كذلك مقدسة لدى أنصار الديانة اليهودية فهي عاصمة مملكتهم التي احتلوها من اليبوسيون "وذهب داود وكل إسرائيل إلى أورشليم (أي يبوس). وهناك اليبوسيون سكان الأرض"
 
وكذلك هي مقر تابوت الله "وعمل داود لنفسه بيوتاً في مدينة داود، وأعد مكاناً لتابوت الله ونصب له خيمة"  وكذلك هي مقر بيت الرب "هو يبني لي بيتاً وأنا أثبت كرسيه إلى الأبد" وكذلك هي مواطن الهيكل فقد ورد على لسان داود عليه السلام أن الرب قد قال له : "إن سليمان ابنك هو يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابناً، وأنا أكون له أبا" ومن المعروف أن سليمان حكم أربعين سنة سبعة منها في حبرون وثلاث وثلاثون في أورشليم.
 
إضافة إلى هذه النصوص الواردة في الكتب المقدسة لهذه الديانات، فإن المعالم الدينية في المدينة تثبت أهميتها الدينية.
لذلك نجد القدس قد تربعت على مشاعر الشعراء و أيقظت البعد الديني في أشعارهم.
 
فها هو الشاعر الشهيد عبد الرحمن محمود يخاطب الأمير سعود منبهاً إلى الخطر الذي يحيط بالقدس ومسجدها الأقصى فيقول :
 
يا ذا الأمير أمام عينك شاعر ضمت على الشكوى المريرة أضلعه
المسجد الأقصى أجئت تزوره أم جئت من قبل الضياع تودعه ؟
 
لقد ألقى الشاعر بسؤاله عن المسجد الأقصى وما ينتظره من ضياع حجراً في بحيرة الركود العربي والإسلامي الذي لم يحن له حتى الآن أن يتحرك لنجدة القدس ومقدساتها. ألا تستحق هذه المدينة وقفة كل إنسان غيور على دينه من أجل تخليصها من براثن الاحتلال كما يقول الشاعر إبراهيم طوقان:
 
تلك الخوارق إن طلبت أدلة ثبت البراق بهن والإسراء
 
وهو ما يؤكد عليه الشاعر أحمد دحبور في قوله :
 
أنت مهدي، صخرتي
ميلاد إسرائي
****
فإذا الليل تهادي
خرج الحارس من خاصرة الصخرة
والتفت على المهد ونادى
يايبوس
أورشليم
إيليا
قدسي الأقداس، قداس الضياء
 
يحاول الشاعر أن يضئ البعد الديني للقدس فيشير إلى الصخرة المشرفة بوصفها معلماً إسلاميا تتوق إليه النفوس، ويوغل في إضاءة هذا البعد مستعيناً بحادثة الإسراء والمعراج التي تعد إحدى معجزات السماء التي منّ بها الله على نبيه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وجعله فيها إماماً للأنبياء جميعاً. لكن الاحتلال الذي رمز له الشاعر بالليل يحاول إطفاء هذا النور الإلهي فيكون مصيره الفشل على يدي الثائر الفلسطيني العربي/ حارس الصخرة المشرفة وجالب النور إلى الأنام.
كما نلاحظ التركيز على وحدة الصف الفلسطيني المسلم و المسيحي من خلال الحديث عن الرموز الدينية فهذه الشاعرة سامية الخليلي تقول :
 
ناديت. . صرخت
بقيت أنا الصدى
معلقة في جرس كنيسة
وهلال مئذنة
يأكلني الغبار لنجدة القدس
 
تؤكد الشاعرة أن نداءاتها المتكررة لم تصادف أذناً صاغية، فتصرخ بأعلى صوتها لكن جدار الصمت الفولاذي لا يسمح بالمرور، فيرتد صدىً إلى أذني الصارخة ولا مجيب.
وهي هنا تجمع الرمز الإسلامي والرمز المسيحي في إشارة إلى وحدة الشعب لتكشف معاناتها التي لا تقل عن المعاناة التي تعرض لها المسيح عليه السلام في طريق الآلام.
ومن الشعراء الذين برز البعد الديني لمدينة القدس بوضوح في شعرهم الشاعر شهاب محمد فنجده يقول :
 
وهم الذين على العهود همُ
لم يخلفوا وعداً
لم ينكثوا عهداً
والبيت و الإسراء و المعراج
في أعناقهم قسم
***
يا صخرة في نورها
يتوضأ الفجر
 
يتحدث الشاعر عن المنتفضين في القدس و يتبادر إلى ذهنه صفات المؤمن التي هي نقيض صفات المنافق الثلاث التي أشار إليها الرسول عليه الصلاة والسلام. فهم فتية يصدقون الوعد ويحفظون العهد و يبرون القسم. فقد عاهدوا الله وأقسموا أن يحفظوا الأقصى مسرى النبي ومعراجه من كيد الأعداء وأن يحرروه من دنسهم وأن يبشروا بفجر جديد ينبلج نوره من قدسية المكان الذي تتربع الصخرة المشرفة على جنباته.
 
ثانياً : البعد الاجتماعي
الشعر بطبيعته لا يمثل رصداً مباشراً لما ينفعل به الشاعر من أحداث و ظواهر اجتماعية، بل هو تفاعل يعبر من خلاله الشاعر عن رؤية خاصة تجسد التحامه بالقضايا الاجتماعية المتنوعة التي تبرز في السياق الاجتماعي الذي يعيشه الشاعر. لذا فإننا عندما نقرأ الشعر الفلسطيني الذي قيل في القدس نلاحظ إشارات إلى قضايا اجتماعية جديدة كالاستيطان، والتمييز العنصري، والحصار، والهجرة وهي من القضايا الاجتماعية التي برزت في السياق الاحتلالي للمدينة و تأثر بها الشعراء فبرزت في أشعارهم بوضوح. فها هو الشاعر أحمد فرح عقيلان يشير إلى العنصرية الصهيونية فيقول :
 
حتى غدا الكلب الحقير يجوس في  أقداسنا ويدوس جبهــة يعـرب
والمسجد الأقصى يصيح دخانه يا ضيعة الإسلام في مسرى النبي
 
فالتمييز العنصري موجه هنا من الصهاينة إلى كل ما هو عربي و مسلم، فالصهيوني رغم حقارته يمارس الإذلال في حق العربي، وكذلك الإلغاء فهو أيضاً يحاول نفي كل معالم العروبة و الإسلام من هذه المدينة المقدسة. تسيطر عليه في ذلك كله عقدة احتلال الآخر و دفعه إلى الاعتراف (الميجالوثيميا).
أما اغتراب الإنسان عن مدينته فيعبر عنه محمود درويش قائلا
 
أنا لا أنا في حضرة المعراج. ..
….
قلتُ قتلتني. .. ونسيت مثلك أن أموت
 
يشير الشاعر هنا إلى الاغتراب الذي أصبح يسيطر على الإنسان المقدسي، فلم يعد يشعر بأنه يملك السيطرة على المكان، ما دام الجندي "الإسرائيلي" يوجه بندقيته إلى صدره العاري ولديه الرغبة في قتله في كل حين. إذاً نحن أمام احتلال سيغير معالم كل شيء حتى الإنسان وصولا إلى الوهم المزروع في رأسه ورواية نسجتها الخرافات عن هيكل مزعوم.
ويؤكد هذا الشعور بالغربة الشاعر ذاته عندما قال :
 
حنيني إليك. . اغتراب
ولقياك. .  منفى !
 
فقد أصبحت القدس غريبة عن أهلها، فهم يحنون إليها لأنهم يشعرون بالبعد عنها وهم على ترابها، لأن كل شيء فيها أصبح غريباً بعد الاحتلال. فهي توغل في الاغتراب بفعل الممارسات الاحتلالية التي تحاول التخلص من كل ما يشير إلى عروبة هذه المدينة المقدسة.

أما الشاعر إبراهيم قراعين فيشير إلى ظاهرة أخرى جديدة فيقول.
 
جار غريب قادم
جار وريث يرتحل
"والضاد" في جنباته
يوماً كل يوم
تقل
 
يتحدث الشاعر هنا عن الاستيطان للبيوت العربية فظاهرة تغير الجيران ظاهرة مستشرية في القدس إذ يحاول المستوطنون فرض سيطرتهم على جميع البيوت العربية في القدس وبكل السبل. فليس غريباً أن تقضي المحكمة أحياناً بحق للمستوطن في بيت لا صلة له في الواقع غير الطمع. فقد حدثني د. نادر أبو خلف وهو من سكان القدس عن همومه ذات مرة، وكيف أنه اضطر لترك بيته في القدس واستئجار بيت قريب من مكان عمله نتيجة للصعوبات اليومية التي يواجهها في طريقه إلى العمل، فبرزت لديه هموم و مخاوف جديدة حول البيت الذي تركه. فالأمر ليس بسيطاً لأن المستوطنين يسعون إلى السيطرة على كل ذرة تراب في المدينة المقدسة.
ويؤكد ذلك قول الشاعر ذاته
 
أيغنم من سطا بيتاً وينجـو          فيخلى مالك و يحـل لص
أضاع العدل !! والقانون ولى و أفرغ منهما روح ونص
ورب البيت صاح البيت بيتي تسلسل عن أب لابن فقصوا
طردت ولم أجد في الكون عوناً ولا مأوى فبيتي اليوم خص
 
الأمر واضح هنا فالصهاينة متسلحين بقانون الغاب يطردون العرب من بيوتهم ويعطونها للمستوطنين والعالم كله شاهد على هذه الجرائم، ولا أحد يحاول المساعدة.
أما الثورة على الذل فترد في قول الشاعر عبد اللطيف عقل
 
سلام عليك بقدر العذاب
الذي ذاقه الصبية الثائرون
على الذل في القدس و الناصرة
 
إن الثورة التي يواجهها العدو في القدس وغيرها من المدن لهي ثورة ضد كل محاولاته لإذلال أهل القدس بتحطيم إنسانيتهم و امتدادهم الحضاري في المدينة من خلال سعيه لفرض حقائق جديدة على الأرض كالاستيطان، والسور، والحفر، والهدم، والتهجير، والاستيلاء على المؤسسات والمعالم التاريخية.
 
ثالثاً :البعد الإنساني
يزخر الشعر بصفة عامة بالإشارات الإنسانية التي تنفتح على قضايا الإنسان و مشكلاته و همومه. ونظراً لأن الإنسان المقدسي والفلسطيني يرزح تحت وطء كم هائل من الهموم و المشكلات التي تسبب بها الاحتلال لموطنه؛ فإننا نجد فيضاً هائلاً من الإشارات الإنسانية في الشعر الذي قيل في هموم أهل القدس و أحزانهم وكذلك في تطلعاتهم نحو الحرية. فها هو الشاعر محمود درويش يقول :

 لابد لي أن أرفض الموت
 وإن كانت أساطير تموت
 إنني أبحث في الأنقاض عن ضوء، وعن شعر جديد
 
إنه يرفض الموت بعناد شديد فلا طريق أمامه سوى الرفض، فالعدو يعمل من أجل زواله من القدس وهو رغم هزيمة الرواية العربية والخطاب العربي يتمسك برفضه ويبحث عن أمل جديد وخطاب جديد.
وهو هنا يكشف عن إرادة صلبة في تحدي الاحتلال ورغبة حقيقية في النصر تتجلى في التأكيد على الحلم الذي يسري عبر أنغام الشعر، والأمل الذي ينبعث من بين الأنقاض فيكون كطائر الفينيق الذي ينبعث من الرماد. لذلك نراه مرة أخرى يتماهى مع الأرض في مشهد نادر من مشاهد الحلول والالتحام فيقول :
 
أنت حقيقتي، وأنا سؤالك
لم نرث شيئاً سوا اسمينا
وأنت حقيقي، وأنا ظلالك
 
إن أقصى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من حب اتجاه محبوبه هو أن يذوب في هذا المحبوب أي أن يحل فيه بالمعنى الصوفي. وهو الحد الذي وصل إليه الشاعر فلم يعد قابلاً للانفصال أو الزوال ما دامت الأرض باقية.
ولنا أن نرى ما يقوله شاعر آخر هو أحمد دحبور
إن تكوني لشعوب الأرض مفتاح السماء
فلماذا لستٍ لي أرضاً و أرضي أنت
واسمي كان منقوشاً على حزنك
……………..
وجرحي ألم صار بلاداً
إنه يصرخ : يا. ..
 
يعبر الشاعر عن حيرته وألمه للغربة الواقعة بينه وبين مدينته المقدسة التي تفتح ذراعيها لكل شعوب الأرض عداه هو صاحب الأرض و المقدسات، وهو الذي لا يزال تاريخه قائماً رغم أنف الاحتلال الذي يحاول ليل نهار أن يمحو هذا التاريخ ويطمس الهوية بطرد أهل المدينة من ديارهم، فيتحول هذا الألم إلى جرح نازف يصرخ بأعلى صوته يا قدس أنت الداء والدواء أنت الجرح و البلسم.
ولعل الشاعر عبد اللطيف عقل كان محقاً عندما قال :
 
عاشق القدس ليس يحسب يوماً
إن أتاها أقاتلاً أم قتيلاً
******
آخ يا قدس أنهكتك المواويل
وأودت بروحك الأشعار
 
يعبر الشاعر عن عشق عظيم لمدينته التي هو على استعداد للتضحية من أجلها بأغلى ما يملك ألا وهو الروح. فلم يعد هناك حسابات خاصة يحسبها الشاعر والقدس تنتهك حرماتها أمام أعينه ؛ لذا فقد تساوت في نظره الحياة مع الموت ولم يعد فرق بينهما مادامت القدس محتلة، ولا تجد من يفرج كربتها غير كلمات فارغة و طبول زائفة يرددها مثقفون لعب الخمر بعقولهم، وغيرت الأموال أبجدياتهم.
ربما يكون ذلك ما دفع الشاعرة سامية الخليلي إلى القول :
 
أتلو صلاة بعض العابرين إليها
المتسربين دون تصريح زيارة


دون حجة العلاج
وختم تأشيرة المهاجر
يصلي
على عتبة قنصلية
 
فهي تسجل بألم شديد ما آل إليه حال أهل القدس الذين أصبحوا بحاجة إلى تصريح زيارة أو حجة علاج من المغتصب لدخول مدينتهم.
وهو أمر يصعب احتماله، مما دفع كثيراً من أهلها إلى السعي إلى أبواب القنصليات الأجنبية من أجل الحصول على تأشيرة للهجرة والخلاص من عذابات الاحتلال. وهي بهذا تجسد مرارة الاحتلال التي هانت عنها مرارة الهجرة. ويجسد ذلك الشاعر إبراهيم قراعين بقوله :
 
القدس تحت الاحتلال وعيشها         مرٌ.. وفيه الذل ليس يطاق
ماذا لأهل القدس غير دمائهم          برصاص أسلحة العدو تراق
ماذا لأهل القدس غير صدورهم        فبها تفك وتكسر الأطواق
 
فهو هنا يكشف عن معاناة شديدة يعيشها أهل القدس تحت الاحتلال، فهم يعيشون حياة مريرة ولا يملكون للدفاع عن أنفسهم سوى دمائهم و أرواحهم الطاهرة التي يبذلونها من أجل كرامتهم ومدينتهم. ولكن الاحتلال يدفعهم إلى الرحيل عن مدينتهم ثم يستولي على بيوتهم و ممتلكاتهم. ورغم ذلك كله يظل الشعار الذي رفعه إبراهيم طوقان في وقت مبكر شعاراً لكل فلسطيني يردد معه.
 
لنا البراق والحرم لنا الحمى، لنا العلم
أرواحنا، أموالنا فدى البراق والحرم
 
رابعاً :البعد الحضاري
يمكن النظر للقدس على أنها أحد المراكز الهامة للحضارة البشرية، فهي مدينة موغلة في القدم تعاقبت عليها حضارات وإمبراطوريات متعددة، أضف إلى ذلك فقد كانت مهبطاً للديانات السماوية.
وهي لذلك أحد أكثر المراكز الحضارية اكتنازاً في العالم، فقد تلاحمت بها ثقافات متعددة ومتنوعة، وتعايشت فيها أديان مختلفة، وتصارعت على أرضها الحضارات وتحاورت، فأنتج كل ذلك حضارة مميزة امتزج فيها الروحي بالمادي, والعلمي بالفلسفي، والشرقي بالغربي فشكلت نسيجاً حضارياً متناغماً طغى عليه الطابع العربي الإسلامي وزركشته بألوانها الديانات والقوميات الأخرى.
من هنا فإن الباحث عندما يتحدث عن البعد الحضاري فإنما سيؤكد على الانتماء العربي لهذه المدينة, وسيشير إلى التعايش الديني من جهة والصراع الوجودي/ السياسي من جهة أخرى. وهي قضايا كان لها حضور واضح في الشعر الفلسطيني المعاصر.
فقد أشار الشاعر إبراهيم قراعين إلى عروبة المدينة في قوله :
بأرض القدس نبقى صامدينا    وشوكاً في حلوق الغاصبينا
وبالأرواح والأجساد كنا        ومازلنا لها حصناً حصينا
فمهما زور المحتل يبقى         لسان القدس قرأناً مبينا
 
فهو يتحدث عن الصمود العربي في وجه الغاصب المحتل، وينوه إلى الاستعداد للتضحية بالأرواح من أجل الدفاع عنها، لذا فإن القدس ستظل عربية مهما حاول الاحتلال تغيير الحقائق، وستظل لغة القرآن العربية لسان هذه المدينة.
أما الشاعر شهاب محمد الذي يقول :
 
أنت يا رمز وجودي الآدمي
أنت يا جنة أرض الله يا مسرى النبي
يا فلسطين الحبيبة
يا ثرى القدس الطهور اليعربي
 
اعتبر القدس رمزاً لوجوده؛ لأنها جنة أرض الله ومسرى نبيه، وقلب فلسطين الحبيبة التي ينطق ثراها الطاهر بعروبة أصيلة لا مجال للشك فيها.
وانطلاقاً من إيمان الشاعر الفلسطيني بعروبة مدينته المقدسة فإنه توجه باللوم والعتاب والسخرية المريرة إلى أمته العربية وحكامها لتقاعسهم عن نصرة القدس الشريف.
فهذا إبراهيم طوقان يوجه سهام العتاب إلى أمير الشعراء أحمد شوقي و حافظ ومطران لأنهم لم ينبروا للدفاع عن قضية القدس وفلسطين فيقول :

 
خطبنا لا يهز (شوقي) ولكن جاء روما فهزه الرومان
 خطـبنا لا يـهز حافـظ إبراهيم لكن تهزه اليابان
ما لمطران يا فلسطين شأن بك لكن له بنيرون شان
 
وهو عتاب ينم عن ثقة في أن الإنسان العربي، والشاعر العربي لا بد أن يهتم بقضايا أمته ثم ينفتح على قضايا الأمم الأخرى ثانياً.
أما الشاعر عبد اللطيف عقل فيشن هجوماً عنيفاً على المثقف العربي، والحاكم العربي أيضاً؛ نظراً لعدم نصرتهم أهل فلسطين، ولعدم اهتمامهم بقضية القدس فيقول :
 
سلام عليك بقدر العذاب
الذي ذاقه الصبية الثائرون
مع الذل في القدس و الناصرة
 
هذا الهجوم على الحاكم والمثقف العربيين اللذين انجرفا إلى اللهو والترف، والسكر والطرب بعائدات النفط العربي، ولم يعودا يهتمان بقضايا الأمة يأتي من خلال عدم تجاوب هاتين الشريحتين مع أطفال الحجارة الذين هبوا للدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس والناصرة بأجسادهم الصغيرة وحجارتهم العظيمة و الوقوف في وجه أعتى آلة حرب عرفها العصر الحديث.
أما الشاعر أحمد فرح عقيلان فيسخر من الواقع العربي قائلا :
 
إذا رجعت لنا رملات سينا فلا رجعت لنا القدس الحرام
وحق العرب في الأقصى هراء وأنف المسجد الأقصى رغام
وكل حرائق الأقصى سلام         ومن حرقوه أحباب كرام
 
السخرية التي تطفح بها الأبيات السابقة إنما هي نتاج ألم و مرارة أصابا الشاعر لما وصل إليه حال العرب من إهمال لقضية القدس ومسجدها الأقصى المبارك. فلم يعد العربي يلقي بالاً لمعاناة القدس وأهلها ومقدساتها، بل راح ينسج علاقات الود والوئام مع الصهاينة الذين أحرقوا الأقصى ومرغوا أنف أهله في التراب.
أما النقطة الثانية التي سيشير إليها الباحث في البعد الحضاري فهي النقطة الخاصة بالمشهد الديني الذي برزت فيه ألوان التعايش بين الديانات السماوية في الفترة الإسلامية، في حين كان الصراع الديني قبل الإسلام هو اللون الوحيد في المشهد، وقد تكرر ذلك في فترة الحروب الصليبية وها هو اليوم يعود بقناع جديد ولكنه لم يتخل عن جوهره الصهيوني الهادف إلى نفي الديانات الأخرى عن طريق التعرض بالتخريب والإحراق والتدمير لمقدساتها.
يجسد الشاعر محمود درويش هذا التعايش بين الأديان المختلفة فيقول :

في القدس، أعني داخل السور القديم،
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى
تصوبني. فإن الأنبياء هنا يقتسمون
تاريخ المقدس. . . يصعدون إلى السماء
ويرجعون أقل إحباطا و حزناً، فالمحبة،
والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة
 
يسير الشاعر في مدينة القدس (داخل السور القديم) حيث كل شيء حاضر بزمانه، هذا الحضور الزماني الممتد عبر المكان يضفي عليه قدسية تستمد منه المدينة قدسيتها، فالأنبياء المتعاقبون يقتسمون تاريخ القدس، ولا مجال لاختلاف الرواية، أو التشكيك في صدقيتها، لأن المكان يوثق الزمان. فهي مهد النبوة، وقيامة المسيح و معراج النبي محمد صلى الله عليه وسلم والأدلة ما زالت تقف بشموخ لتثبت صدق ذلك. لذا يجدر بها أن تكون مدينة للسلام والمحبة اللذين نصت عليهما الرسالات السماوية.
وها هو الشاعر أحمد دحبور يؤكد هذا التعايش فيقول :
 
فإذا الليل تهادى
خرج الحارس من خاصرة الصخرةِ،
والتفت، على المهد ونادى
يا يبوس
أورشليم
إيلياء
قدسي الأقدس، قداس الضياء
 
يعتمد الشاعر التسلسل التاريخي للمدينة المقدسة مدخلاً للتعايش بين الأديان و القوميات المختلفة في هذه المدينة، فقد حاول الشاعر أن يصهر هذه المراحل المتعاقبة في بوتقة القدس لينتج عن صهرها مركب جديد بمواصفات جديدة هو الثائر الفلسطيني الذي يقف في وجه الظلم و العدوان ليرده عن كيده ويكون نوراً يهجم على ظلام ليل الاحتلال ليمحوه.
وهو هنا يشير إلى التوحد الفل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق