السبت، 29 مارس 2014

تفسير سورة الحديد

تفسير سورة الحديد

صفوة التفاسير
سورة الحديد

مدنية وآياتها تسع وعشرون آية
بين يدي السورة
* هذه السورة الكريمة من السور المدنية ، التي تعنى بالتشريع والتربية والتوجيه ، وتبنى المجتمع الإسلامي على أساس العقيدة الصافية ، والخلق الكريم ، والتشريع الحكيم .
* وقد تناولت السورة الكريمة ” سورة الحديد ” ثلاثة مواضيع رئيسية هي :
أولا : أن الكون كله لله جل وعلا ، هو خالقه ومبدعه ، والمتصرف فيه بما يشاء .
ثانيا : وجوب التضحية بالنفس والنفيس ، لإعزاز دين الله ، ورفع منار الإسلام ، الذي ختم الله به الرسالات السماوية . ثالثا : تصوير حقيقة الدنيا بما فيها من بهرج ومتاع خادع ، حتى لا يغتر بها الإنسان ، وينسى الآخرة .
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن عظمة الخالق جل وعلا ، الذي سبح له كل ما في الكون ، من شجر ، وحجر ، ومدر ، وإنسان ، وحيوان ، وجماد ، فالكل ناطق بعظمته ، شاهد بوحدانيته [ سبح لله ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم ] الآيات .
* ثم ذكرت صفات الله الحسنى ، وأسماءه العليا ، فهو الأول بلا بداية ، والآخر بلا نهاية ، والظاهر بآثار مخلوقاته ، والباطن الذي لا يعرف كنه حقيقته أحد ، وهو الخالق للإنسان ، والمدبر للأكوان [ له ملك السموات والأرض يحيى ويميت وهو على كل شىء قدير هو الأول والأخر والظاهر والباطن .. ] الآيات .
* ثم تلتها الآيات وهي تدعو المسلمين إلى البذل والسخاء والإنفاق في سبيل الله ، بما يحقق عزة الإسلام ورفعة شأنه ، فلابد للمؤمن من الجهاد بالنفس والمال لينال السعادة في الدنيا ، والمثوبة في الآخرة [ آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن أهل الإيمان ، وأهل النفاق ، فالمؤمنون يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ، والمناققون يتخبطون في الظلمات ، كما كانوا في الدنيا يعيشون كالبهائم ، في ظلمات الجهل والغي والضلال [ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم .. ] الآيات .
* وتحدثت السورة عن حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة ، وصورتهما أدق تصوير ، فالدنيا دار الفناء ، فهي زائلة فانية ، كمثل الزرع الزاهي الخصيب ، الذي ينبت بقوة بنزول الغيث ، ثم يصفر ويذبل ، حتى يصير هشيما وحطاما تذروه الرياح ، بينما الآخرة دار الخلود ، والبقاء ، التي لا نصب فيها ولا تعب ، ولا هم ولا شقاء [ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو ، وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد . . ] الآيات .
* وختمت السورة الكريمة بالغاية من بعثة الرسل الكرام ، والأمر بتقوى الله عز وجل ، والاقتداء بهدي رسله وأنبيائه [ ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ... ] الآيات إلى نهاية السورة الكريمة .
التسمية :
سميت السورة ” سورة الحديد ” لذكر الحديد فيها ، وهو قوة الإنسان فى السلم والحرب ، وعدته في البنيان والعمران ، فمن الحديد تبنى الجسور الضخمة ، وتشاد العمائر ، وتصنع الدروع ، والسيوف والرماح ، وتكون الدبابات والغواصات والمدافع الثقيلة إلى غير ما هنالك من منافع .
قال الله تعالى : [ سبح لله ما في السموات والأرض .. ] إلى قوله [ هي مولاكم وبئس المصير ] . من آية (1) إلى نهاية آية (15) .
اللغة :
[ سبح ] نزه الله ومجده وقدسه
[ العزيز ] القوي الغالب على كل شيء
[ الأول ] السابق على جميع الموجودات
[ الآخر ] الباقي بعد فنائها
[ يلج ] يدخل
[ يعرج ] يصعد
[ الظاهر ] بوجوده ومصنوعاته وآثاره
[ الباطن ] بكنه ذاته عن إدراك الأبصار له
[ الحسنى ] المثوبة الحسنة والمراد بها الجنة
[ انظرونا ] انتظرونا
[ نفتبس ] نستضىء ونهتدي بنوركم
[ سور ] حاجز بين الجنة والنار
________________________________________
[ الغرور ] الشيطان وكل من خدع فهو غار وغرور .
التفسير :
[ سبح لله ما في السموات والأرض ] أي مجد الله ونزهه عن السوء ، كل ما في الكون ، من إنسان ، وحيوان ، ونبات ، وجماد ، قال الصاوي : والتسبيح تنزيه المولى عن كل ما لا يليق به ، قولا ، وفعلا ، واعتقادا ، من سبح في الأرض والماء ، إذا ذهب وأبعد فيهما ، وتسبيح العقلاء بلسان المقال ، وتسبيح الجماد بلسان الحال ، أي أن ذاتها دالة على تنزيه صانعها عن كل نقص ، وقيل بلسان المقال أيضا وهو الأصح ، لقوله تعالى [ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ] وقال الخازن : تسبيح العقلاء تنزيه الله عز وجل عن كل سوء ، وعما لا يليق بجلاله ، وتسبيح غير العقلاء من ناطق وجماد اختلفوا فيه ، فقيل : تسبيحه دلالته على صانعه ، فكأنه ناطق بتسبيحه ، وقيل : تسبيحه بالقول ، ويدل عليه قوله تعالى : [ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ] أي لا تفهمون كلامهم ، والحق أن التسبيح هو القول الذي لا يصدر إلا من العاقل ، العارف بالله تعالى ، وما سوى العاقل ففي تسبيحه وجهان : أحدهما : أنها تدل على تعظيمه وتنزيهه والثاني : أن جميع الموجودات بأسرها منقادة له يتصرف فيها كيف يشاء ، فإن حملنا التسبيح على القول كان المراد بقوله : [ سبح له ما في السموات والأرض ] الملائكة والمؤمنون العارفون بالله ، وإن حملنا التسبيح على التسبيح المعنوي ، فجميع أجزاء السموات وما فيها من شمس ، وقمر ، ونجوم وغير ذلك وجميع ذرات الأرضين وما فيها من جبال ، وبحار ، وشجر ، ودواب ، وغير ذلك ، كلها مسبحة خاشعة ، خاضعة لجلال عظمة الله ، منقادة له ، يتصرف فيها كيف يشاء ، فإن قيل : قد جاء في بعض فواتح السور [ سبح لله ] بلفظ الماضي ، وفي بعضها [ يسبح لله ] بلفظ المضارع ، فما المراد ؟ قلت : فيه إشارة إلى كون جميع الأشياء ، مسبحة لله أبدا ، والتسبيح غير مختص بوقت دون وقت ، بل هي كانت مسبحة أبدا في الماضي ، وستكون مسبحة أبدا في المستقبل
[ وهو العزيز الحكيم ] أي وهو الغالب على أمره ، الذي لا يمانعه ولا ينازعه شيء ، الحكيم في أفعاله الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة . . ثم ذكر تعالى طرفا من بيان عظمته وقدرته فقال :
[ له ملك السموات والأرض يحيي ويميت ] أي هو جل وعلا المالك المتصرف في خلقه ، يحيى من يشاء ، ويميت من يشاء ، قال القرطبي : يميت الأحياء في الدنيا ، ويحي الأموات ، للبعث والنشور
[ وهو على كل شيء قدير ] أي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، ولفظ [ قدير ] مبالغة في القادر ، لأن ” فعيل ” من صيغ المبالغة
[ هو الأول والآخر ] أي ليس لوجوده بداية ، ولا لبقائه نهاية
[ والظاهر والباطن ] أي الظاهر للعقول بالأدلة والبراهين الدالة على وجوده ، الباطن الذي لا تدركه الأبصار ، ولا تصل العقول إلى معرفة كنه ذاته وفي الحديث : (أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء قال شيخ زاده : وقد فسر صاحب الكشاف (الباطن) بأنه غير المدرك بالحواس ، وهو تفسير بحسب التشهي ، يزيد مذهبه من استحالة رؤية الله في الآخرة ، والحق أنه تعالى ظاهر بوجوده ، باطن بكنهه ، وأنه تعالى جامع بين الوصفين ، أولا وأبدا
[ وهو بكل شيء عليم ] أي هو تعالى عالم بكل ذرة في الكون ، لا يعزب عن علمه شيء ، في الأرض ولا في السماء
[ هو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ] أي خلقهما في مقدار ستة أيام ، ولو شاء لخلقهما بلمح البصر ، وهو تحقيق لعزته ، وكمال قدرته ، كما أن قوله : [ يعلم ما يلج في الأرض ] تحقيق لحكمته ، وكمال علمه
________________________________________
[ ثم استوى على العرش ] استواء يليق بجلاله ، من غير تمثيل ولا تكييف (( قال في التسهيل : حمل قوم الاستواء على ظاهره ، وتأوله قوم بمعنى قصد كقوله ” ثم استوى إلى السماء ” ولو كان كذلك لقال : ثم استوى إلى العرش ، وتأولها آخرون أنها بمعنى استولى بالملك والقدرة . . والحق هو الايمان به من غير تكييف ، فإن السلامة في التسليم ، ولله در مالك حين سأله رجل عن ذلك فقال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والسؤال عن هذا بدعة ، وقد روي مثل قول مالك عن ” أبي حنيفة ” و ” جعفر الصادق ” و ” الحسن البصري ” ولم يتكلم الصحابة ولا التابعون في معنى الاستواء ، بل امسكوا عنه ، ولذلك قال مالك : السؤال عنه بدعة )).
[ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ] أي يعلم ما يدخل في الأرض ، من مطر وأموات ، وما يخرج منها من معادن ونبات وغير ذلك
[ وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ] أي وما ينزل من السماء من الأرزاق ، والملائكة ، والرحمة ، والعذاب ، وما يصعد فيها من الملائكة والأعمال الصالحة ، كقوله [ إليه يصعد الكلم الطيب ]
[ وهو معكم أين ما كنتم ] أي هو جل وعلا حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته ، قال ابن عباس : هو عالم بكم أينما كنتم ، قال ابن كثير : أي هو رقيب عليكم ، شهيد على أعمالكم ، حيث كنتم وأين كنتم ، من بر وبحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو القفار ، الجميع في علمه على السواء ، يسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم
[ والله بما تعملون بصير ] أي رقيب على أعمال العباد ، مطلع على كل صغيرة وكبيرة
[ له ملك السموات والأرض ] كرره للتأكيد والتمهيد لإثبات الحشر والنشر أي هو المعبود على الحقيقة ، المتصرف في الخلق كيف يشاء
[ وإلى الله ترجع الأمور ] أي إليه وحده مرجع أمور الخلائق في الآخرة فيجازيهم على أعمالهم
[ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ] أي هو المتصرف في الكون كيف يشاء ، يقلب الليل والنهار بحكمته وتقديره ، ويدخل كلا منهما في الآخر ، منارة يطول الليل ويقصر النهار ، وأخرى بالعكس
[ وهو عليم بذات الصدور ] أي هو العالم بالسرائر والضمائر ، وما فيها من النوايا والخفايا ، ومن كانت هذه صفته فلا يجوز أن يعبد سواه .. ثم لما ذكر دلائل عظمته وقدرته ، أمر بتوحيده وطاعته فقال :
[ أمنوا بالله ورسوله ] أي صدقوا بأن الله واحد وأن محمدا عبده ورسوله
[ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ] أي وتصدقوا من الأموال التي جعلكم الله خلفاء في التصرف فيها ، فهي في الحقيقة لله لا لكم ، قال فى التسهيل : يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله لأنه خلقها ، ولكنه متعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها ، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء ، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه (( وقيل المعنى : مما جعلكم خلفاء عمن كان قبلكم ، فيما كان بأيديهم ، فانتقل لكم بالإرث وسيخلفكم فيه من بعدكم ، والأول اظهر )) ، والمقصود التحريض على الإنفاق والتزهيد في الدنيا ، ولهذا قال بعده :
[ فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير ] أي فالذين جمعوا بين الإيمان الصادق ، والإنفاق في سبيل الله ، ابتغاء وجهه الكريم ، لهم أجر عظيم وهو الجنة ، قال أبو السعود : وفي الآية من المبالغات ما لا يخفى ، حيث جعل الجملة إسمية [ فالذين آمنوا ] وأعيد ذكر الإيمان والإنفاق [ آمنوا وأنفقوا ] وكرر الإسناد [ لهم ] وفخم الأجر بالتنكير ووصفه بالكبير [ لهم أجر كبير ]
[ وما لكم لا تؤمنون بالله ] استفهام للإنكار والتوبيخ أي أي عذر لكم في ترك الإيمان بالله ؟
[ والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم ] أي والحال أن الرسول (ص)يدعوكم للإيمان بربكم وخالقكم ، بالبراهين القاطعة ، والحجج الدامغة
________________________________________
[ وقد أخذ ميثاقكم ] أي وقد أخذ الله ميثاقكم – وهو العهد المؤكد – بما ركز فى العقول ، من الأدلة الدالة على وجود الله ، بنصب الأدلة ، والتمكين من النظر وقال الخازن : أخذ ميثاقكم حين أخرجكم من ظهر آدم ، وأعلمكم بأن الله ربكم لا إله لكم سواه ، وقيل : أخذ ميثاقكم حيث ركب فيكم العقول ، ونصب لكم الأدلة والبراهين والحجج ، التي تدعو إلى متابعة الرسول
[ إن كنتم مؤمنين ] شرط حذف جوابه أي إن كنتم مؤمنين في وقت من الأوقات ، فالآن أحرى الأوقات ، لقيام الحجج والبراهين عليكم .. ثم ذكر تعالى بعض الأدلة الدالة على وجوب الإيمان ، فقال سبحانه :
[ هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ] أي هو تعالى الذين ينزل على محمد (القرآن العظيم ) ، المعجز فى بيانه ، الواضح في أحكامه ، قال القرطبى : يريد بالآيات البينات القرآن ، وقيل : المعجزات أي لزمكم الإيمان بمحمد (ص) لما معه من المعجزات ، والقرآن أكبرها وأعظمها
[ ليخرجكم من الظلمات إلى النور ] أي ليخرجكم من ظلمات الكفر ، إلى نور الهداية والإيمان
[ وإن الله بكم لرءوف رحيم ] أي مبالغ في الرأفة والرحمة بكم ، حيث أنزل الكتب ، وأرسل الرسل لهدايتكم ، ولم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقلية
[ وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السموات والأرض ] ؟ أي أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله ، وفيما يقربكم من ربكم ؟ وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم ، وهي صائرة إلى الله تعالى ؟ قال الإمام الفخر : المعنى إنكم ستموتون فتورثون ، فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله !! وهذا من أبلغ الحث على الإنفاق في سبيل الله
[ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ] أي لا يستوي في الفضل من أنفق ماله ، وقال الأعداء مع رسول آلله ، قبل فتح مكة ، مع من أنفق ماله وقاتل بعد فتح مكة ، قال المفسرون : وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم ، لأن حاجة الإسلام إلى الجهاد ، والإنفاق ، كانت أشد ، ثم أعز الله الإسلام ، بعد الفتح وكثر ناصريه ، ودخل الناس في دين الله أفواجا
[ أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ] أي أعظم أجرا ، وأرفع منزلة ، من الذين أنفقوا من بعد فتح مكة ، وقاتلوا لإعلاء كلمة الله ، قال الكلبى : نزلت في ” أبي بكر ” لأنه أول من أسلم ، وأول من أنفق ماله في سبيل الله ، ودب عن رسول الله (ص)
[ وكلا وعد الله الحسنى ] أي وكلا ممن أمن وأنفق قبل الفتح ، ومن أمن وأنفق بعد الفتح ، وعده الله الجنة مع تفاوت الدرجات
[ والله بما تعملون خبير ] أي عالم بأعمالكم ، مطلع على خفاياكم ونواياكم ، ومجازيكم عليها ، وفي الآية وعد ووعيد
[ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ] أي من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله ابتغاء رضوانه
[ فيضاعفه له ] أي يعطيه أجره على إنفاقه مضاعفا
[ وله أجر كريم ] أي وله مع المضاعفة ثواب عظيم كريم ، وهو الجنة ، قال ابن كثير : أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة ، ولما نزلت هذه الآية قال ” أبو الدحداح الأنصاري ” يا رسول الله : وإن الله ليريد منا القرض ؟ قال : نعم يا ابا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي – أي بستاني – وله فيه ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه هى وعيالها ، فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربى عز وجل ، فقالت : ربح بيعك يا أبا الدحداح ونقلت منه متاعها وصبيانها .. ثم أخبر تعالى عن المؤمنين الأبرار ، وما يتقدمهم من الأنوار وهم على الصراط فقال :
________________________________________
[ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ] أي أذكر يوم ترى أنوار المؤمنين والمؤمنات ، تتلألأ من أمامهم ومن جميع جهاتهم ليستضيئوا بها على الصراط ، وتكون وجوههم مضيئة ، كإضاءة القمر في سواد الليل
[ بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار ] أي ويقال لهم : أبشروا اليوم بجنات الخلد والنعيم ، التي تجري من تحت قصورها أنهار الجنة
[ خالدين فيها ] أي ماكثين فيها أبدا
[ ذلك هو الفوز العظيم ] أي الفوز الذي لا فوز بعده ، لأنه سبب السعادة الأبدية ، روي أن نور كل أحد على قدر إيمانه ، وأنهم متفاوتون في النور ، فمنهم من يضيء نوره ما قرب من قدميه ، ومنهم من يطفأ نوره مرة ويظهر مرة قال الزمخشري : وإنما قال : [ بين أيديهم وبأيمانهم ] لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين ، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم . ولما شرح حال المؤمنين يوم القيامة ، أتبع ذلك بشرح حال المنافقين ، فقال سبحانه :
[ يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ] أي انتظرونا لنستضيء من نوركم ، قال المفسرون : إن الله تعالى يعطي المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم ، يمشون ، به على الصراط ، ويترك الكافرين والمنافقين بلا نور ، فيستضيء المنافقون بنور المؤمنين ، فبينما هم يمشون ، إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة ، فبقوا في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم ، فيقولون للمؤمنين : انتظرونا لنستضيء بنوركم
[ قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ] أي فيقول لهم المؤمنون سخرية واستهزاء بهم : ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا هذه الأنوار هناك !! قال أبو حيان : وقد علموا أن لا نور وراءهم ، وإنما هو إقناط لهم
[ فضرب بينهم بسور له باب ] أي فضرب بين المؤمنين والمنافقين بحاجز له باب ، يحجز بين أهل الجنة وأهل النار
[ باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ] أي في باطن السور الذي هو جهة المؤمنين الرحمة وهي الجنة ، وفي ظاهره وهو جهة الكافرين العذاب وهو النار ، قال ابن كثير : هو سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فاذا استكملوا دخولهم أغلق الباب ، وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب
[ ينادونهم ألم نكن معكم ] أي ينادي المنافقون المؤمنين : ألم نكن معكم في الدنيا ، نصلي كما تصلون ، ونصوم كما تصومون ، ونحضر الجمعة والجماعات ، ونقاتل معكم في الغزوات ؟
[ قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم ] أي قال لهم المؤمنون : نعم كنتم معنا في الظاهر ، ولكنكم أهلكتم أنفسكم بالنفاق
[ وتربصتم ] أي انتظرتم بالمؤمنين الدوانر
[ وارتبتم ] أي شككتم في أمر الدين
[ وغرتكم الأماني ] أي خدعتكم الأماني الفارغة بسعة رحمة الله
[ حتى جاء أمر الله ] أي حتى جاءكم الموت
[ وغركم بالله الغرور ] أي وخدعكم الشيطان الماكر بقوله : أن الله عفو كريم لا يعذبكم ، قال قتادة : ما زالوا على خدعة من الشيطان ، حتى قذفهم الله في نار جهنم قال المفسرون : الغرور بفتح الغين : الشيطان ، لأنه يغر ويخدع الإنسان ، قال تعالى : [ فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا ]
[ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا ] أي ففي هذا اليوم العصيب ، لا يقبل منكم بدل ولا عوض ، يا معشر المنافقين ، ولا من الكافرين الجاحدين بالله وآياته ، وفي الحديث : (إن الله تعالى يقول للكافر : أرأيتك لو كان لك أضعاف الدنيا أكنت تفتدي بجميع ذلك من عذاب النار ؟! قيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تبارك وتعالى : قد سألتك ما هو أيسر من ذلك وأنت في ظهر أبيك آدم ، أن لا تشرك بي ، فأبيت إلا الشرك )
________________________________________
[ مأواكم النار ] أي مقامكم ومنزلكم نار جهنم
[ هي مولاكم ] أي هي عونكم وسندكم وناصركم ، لا ناصر لكم غيرها ، وهو تهكم بهم وسخرية لاذعة
[ وبئس المصير ] أي وبئس المرجع والمنقلب نار جهنم . قال بعض العلماء : ” السعيد من لا يغتر بالطمع ، ولا يركن إلى الخدع ، ومن أطال الأمل نسى العمل ، وغفل عن الأجل ” . ***
قال الله تعالى : [ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله .. ] إلى قوله [ والله ذو الفضل العظيم ] .من آية (16) إلى آية (29) نهاية السورة الكريمة .
المناسبة :
لما ذكر تعالى اغترار المنافقين والكافرين بالحياة الدنيا ، نبه المؤمنين ألا يكونوا مثلهم ، أو مثل أهل الكتاب بالاغترار بدار الفناء ، ثم ضرب مثلا للحياة الدنيا وبهرجها الخادع الكاذب ، وختم السورة الكريمة ببيان فضيلة التقوى والعمل الصالح ، وأرشد المؤمنين إلى مضاعفة الأجر والنور باتباعهم هدي الرسول (ص).
اللغة :
[ يأن ] يحن يقال : أنى يأنى مثل رمى يرمي أي حان ، قال الشاعر : ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا ؟
[ تخشع ] تذل وتلين
[ الأمد ] الأجل أو الزمان
[ يهيج ] هاج الزرع إذا جف ويبس ، بعد خضرته ونضارته
[ حطاما ] فتاتا يتلاشى بالرياح
[ قفينا ] ألحقنا وأتبعنا
[ كفلين ] مثنى كفل وهو النصيب .
سبب النزول :
لما قدم المؤمنون المدينة ، أصابوا من لين العيش ورفاهيته ، ففتروا عن بعض ما كانوا عليه ، فعوتبوا ونزلت هذه الآية [ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ] قال ابن مسعود : (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية ، إلا أربع سنوات ).
التفسير :
[ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله ] أي أما حان للمؤمنين أن ترق قلوبهم ، وتلين لمواعظ الله ؟
[ وما نزل من الحق ] أي وترق لما نزل من آيات القرآن المبين ؟
[ ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل ] أي ولا يكونوا كاليهود والنصارى ، الذين أعطاهم الله التوراة والإنجيل
[ فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ] أي فطال عليهم الزمن الذي بينهم وبين أنبيائهم ، حتى صلبت قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، قال ابن عباس : [ قست قلوبهم ] مالوا إلى الدنيا ، وأعرضوا عن مواعظ القرآن ، وقال أبو حيان : أي صلبت بحيث لا تنفعل للخير والطاعة والغرض أن الله يحذر المؤمنين أن يكونوا مع القرآن كاليهود والنصارى ، حين قست قلوبهم لما طال عليهم الزمان
[ وكثير منهم فاسقون ] أي وكثير من أهل الكتاب خارجون عن طاعة الله ، راقضون لتعاليم دينهم ، من فرط قسوة القلب ، قال ابن كثير : نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى ، لما تطاول عليهم الزمن بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، ونبذوه وراء ظهورهم ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد
[ اعلموا أن الله يحي الأرض بعد موتها ] أي اعلموا يا معشر المؤمنين أن الله يحي الأرض القاحلة المجدبة بالمطر ، ويخرج منها النبات بعد يبسها ، وهو تمثيل لإحياء القلوب القاسية ، بالذكر وتلاوة القرآن ، كما تحيا الأرض المجدبة بالغيث الهتان ، قال ابن عباس : يلين القلوب بعد قسوتها ، فيجعلها مخبتة منيبة ، وكذلك يحي القلوب الميتة بالعلم والحكمة قال في البحر : ويظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ، ولتأثير ذكر الله فيها ، فكما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة ، كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة ، يظهر فيها أثر الخشوع والطاعات
[ قد بينا لكم الآيات ] أي وضحنا لكم الحجج والبراهين ، الدالة على كمال قدرتنا ووحدانيتنا
________________________________________
[ لعلكم تعقلون ] أي لكي تعقلوا وتتدبروا ما أنزل الله في القرآن
[ إن المصدقين والمصدقات وأقرضوا الله قرضا حسنا ] أي الذين تصدقوا بأموالهم على الفقراء ابتغاء وجه الله ، والذين أنفقوا في سبيل الله ، وفى وجوه البر والإحسان ، طيبة بها نفوسهم
[ يضاعف لهم ولهم أجر كريم ] أي يضاعف لهم ثوابهم ، بأن تكتب الحسنة بعشر أمثالها ، ولهم فوق ذلك ثواب حسن جزيل وهو الجنة ، قال المفسرون : أصل [ المصدقين ] المتصدقين أدغمت التاء في الصاد فصارت المصدقين ، ومعنى القرض الحسن : هو التصدق عن طيب النفس ، وخلوص النية للفقير ، فكان الإنسان بإحسانه إلى الفقير ، قد أقرض الله قرضا يستحق عليه الوفاء في دار الجزاء
[ والذين آمنوا بالله ورسله ] أي صدقوا بوحدانية الله ووجوده ، وآمنوا برسله إيمانا راسخا كاملا ، لا يخالجه شك ولا ارتياب
[ أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم ] أي أولئك الموصوفون بالإيمان بالله ورسله ، هم الذين جمعوا أعلى المراتب ، فحازوا درجة الصديقية والشهادة في سبيل الله ، قال مجاهد : كل من آمن بالله ورسله فهو صديق وشهيد
[ لهم أجرهم ونورهم ] أي لهم في الآخرة الثواب الجزيل ، والنور الذي يسعى ببن أيديهم وبأيمانهم
[ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم ] أي والذين جحدوا بوحدانية الله وكذبوا بآياته ، أولئك هم المخلدون في دار الجحيم ، قال البيضاوي : فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار ، من حيث إن الصيغة تشعر بالاختصاص [ أولئك أصحاب الجحيم ] والصحبة تدل على الملازمة .. ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ، ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا ، وكمال حال الآخرة ، فقال سبحانه :
[ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ] أي اعلموا يا معشر السامعين ، أن هذه الحياة الدنيا ما هي إلا لعب ، يتعب الناس فيها أنفسهم ، كإتعاب الصبيان أنفسهم باللعب
[ ولهو ] أي وشغل للإنسان يشغله عن الآخرة وطاعة الله
[ وزينة ] أي وزينة يتزين بها الجهلاء ، كالملابس السنة ، والمراكب البهية ، والمنازل الرفيعة
[ وتفاخز بينكم ] أي ومباهاة وافتخار بالأحساب والأنساب ، والمال والولد ، كما قال القائل : أرى أهل القصور إذا أميتوا بنوا فوق المقابر بالصخور أبوا إلا مباهاة وفخرا على الفقراء حتى في القبور
[ وتكاثر في الأموال والأولاد ] أي مباهاة بكثرة الأموال والأولاد ، قال ابن عباس : يجمع المال من سخط الله ، ويتباهى به على أولياء الله ، ويصرقه في مساخط الله ، فهو ظلمات بعضها فوق بعض
[ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ] أي كمثل مطر غزير أصاب أرضا ، فأعجب الزراع نباته الناشىء عنه
[ ثم يهيج فتراه مصفرا ] أي ثم ييبس بعد خضرته ونضرته ، فتراه مصفر اللون بعد أن كان زاهيا ناضرا
[ ثم يكون حطاما ] أي ثم يتحطم ويتكسر بعد يبسه وجفاقه ، فيصبح هشيما تذروه الرياح ، كذلك حال الدنيا ، قال القرطبي : والمراد بالكفار هنا الزراع ، لأنهم يغطون البذر ، ومعنى الآية أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه ، لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، وإذا أعجب الزراع فهو في غاية الحسن
[ وفي الأخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان ] أي والجزاء في الآخرة ، إما عذاب شديد للفجار ، وإما مغفرة من الله ورضوان للأبرار
________________________________________
[ وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ] أي وليست الحياة الدنيا في حقارتها وسرعة انقضائها ، إلا متاع زائل ، ينخدع بها الغافل ، ويغتر بها الجاهل ، قال سعيد بن جبير : الدنيا متاع الغرور ، إن ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة .. ولما حقر الدنيا وصغر أمرها ، وعظم الآخرة وفخم شأنها ، حث على المسارعة إلى نيل مرضاة الله ، التي هي سبب للسعادة الأبدية في دار الخلود والجزاء ، فقال سبحانه :
[ سابقوا إلى مغفرة من ربكم ] أي تسابقوا أيها الناس وسارعوا بالأعمال الصالحة ، التي توجب المغفرة لكم من ربكم ، قال أبو حيان : وجاء التعبير بلفظ [ سابقوا ] كأنهم في ميدان سباق يجرون إلى غاية ، مسابقين إليها ، والمعنى : سابقوا إلى سبب مغفرة وهو الإيمان ، وعمل الطاعات
[ وجنة عرضها كعرض السماء والأرض ] أي وسارعوا إلى جنة واسعة فسيحة ، عرضها كعرض السموات السبع مع الأرض مجتمعة ، قال السدي : إن الله تعالى شبه عرض الجنة بعرض السموات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طولها أزيد من عرضها ، فذكر العرض تنبيها على أن طولها أضعاف ذلك وقال البيضاوي : إذا كان العرض كذلك فما ظنك بالطول (( تفسير البيضاوي والآية تمثيل للسعة ، وإلا فإن أقل أهل الجنة ، من له قدر الدنيا وعشرة أمثالها ، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في كتاب الإيمان )).
[ أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ] أي هيأها الله وأعدها للمؤمنين المصدقين بالله ورسله ، قال المفسرون : وفي الآية دلالة على أن الجنة مخلوقة وموجودة ، لأن ما لم يخلق بعد ، لا يوصف بأنه أعد وهيئ
[ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ] أي ذلك الموعود به من المغفرة والجنة ، هو عطاء الله الواسع ، يتفضل به على من يشاء من عباده ، من غير إيجاب
[ والله ذو الفضل العظيم ] أي ذو العطاء الواسع ، والإحسان الجليل
[ ما أصاب من مصيبة في الأرض ] أي ما يحدث في الأرض مصيبة من المصائب ، كقحط ، وزلزلة ، وعاهة في الزروع ، ونقص في الثمار
[ ولا في أنفسكم ] أي من الأمراض ، والأوصاب ، والفقر ، وذهاب الأولاد
[ إلا في كتاب من قبل أن نبرأها ] أي إلا وهي مكتوبة في اللوح المحفوظ ، من قبل أن نخلقها ونوجدها ، قال في التسهيل : المعنى أن الأمور كلها مقدرة في الأزل ، مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون ، وفي الحديث : (إن الله كتب مقادير الأشياء ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء)
[ إن ذلك على الله يسير ] أي إن إثبات ذلك على كثرته ، سهل هين على الله عز وجل ، وإن كان عسيرا على العباد .. ثم بين تعالى لنا الحكمة في اعلامنا عن كون هذه الأشياء ، واقعة بالقضاء والقدر ، فقال سبحانه :
[ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ] أي أثبت وكتب ذلك ، كي لا تحزنوا على ما فاتكم من نعيم الدنيا
________________________________________
[ ولا تفرحوا بما آتاكم ] أي ولكي لا تبطروا بما أعطاكم الله ، من زهرة الدنيا ونعيمها ، قال المفسرون : والمراد بالحزن الحزن الذي يوجب القنوط ، وبالفرح الفرح الذي يورث الأشر والبطر ، ولهذا قال ابن عباس : (ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا)ومعنى الآية : لا تحزنوا حزنا يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ، ولا تفرحوا فرحا شديدا يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا ، ولهذا قال بعض العارفين ” من عرف سر الله في القدر ، هانت عليه المصائب ” وقال عمر رضي الله عنه : (ما أصابتني مصيبة إلا وجدت فيها ثلاث نعم : الأولى : أنها لم تكن في ديني ، الثانية : أنها لم تكن أعظم مما كانت ، الثالثة : أن الله يعطي عليها الثواب العظيم والأجر الكبير) وقرأ [ وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ] أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ]
[ والله لا يحب كل مختال فخور ] أي لا يحب كل متكبر ، معجب بما أعطاه الله من حظوظ الدنيا ، فخور به على الناس .. ثم بين تعالى أوصاف هؤلاء المذمومين فقال :
[ الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ] أي يبخلون بالإنفاق في سبيل الله ، ولا يكفيهم ذلك حتى يأمروا الناس بالبخل ، ويرغبوهم في الإمساك
[ ومن يتول ] أي ومن يعرض عن الإنفاق
[ فإن الله هو الغنى الحميد ] أي فإن الله مستغن عنه وعن إنفاقه ، محمود في ذاته وصفاته ، لا يضره الإعراض عن شكره ، ولا تنفعه طاعة الطائعين ، وفيه وعيد وتهديد
[ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ] اللام موطئة لقسم محذوف ، أي والله لقد بعثنا رسلنا ، بالحجج القواطع ، والمعجزات البينات
[ وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ] أي وأنزلنا معهم الكتب السماوية ، التي فيها سعادة البشرية ، وأنزلنا القانون الذي يحكم به بين الناس ، وفسر بعضهم الميزان بأنه (العدل ) ، وقال ابن زيد : هو ما يوزن به ويتعامل
[ ليقوم الناس بالقسط ] أي ليقوم الناس بالحق والعدل فى معاملاتهم
[ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ] أي وخلقنا وأوجدنا الحديد ، فيه بأس شديد ، لأن الآت الحرب تتخذ منه ، كالدروع ، والرماح ، والتروس ، والدبابات ، وغير ذلك
[ ومنافع للناس ] أي وفيه منافع كثيرة للناس ، كسكك الحراثة ، والسكين ، والفأس وغير ذلك ، وما من صناعة إلا والحديد آلة فيها ، حتى البناء والعمران ، قال أبو حيان : وعبر تعالى عن إيجاده (بالإنزال ) كما قال : [ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ] لأن الأوامر وجميع القضايا والأحكام ، لما كانت تلقى من السماء ، جعل الكل نزولأ منها ، وأراد بالحديد جنسه من المعادن التي خلقها الله في الأرض ، قاله الجمهور :
[ وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب ] عطف على محذوف مقدر ، أي وأنزلنا الحديد ليقاتل به المؤمنون أعداءهم ، ويجاهدوا لإعلاء كلمة الله ، وليعلم الله من ينصر دينه ورسله ، باستعمال السيوف والرماح ، وسائر الأسلحة ، مؤمنا بالغيب ، قال ابن عباس : ينصرونه ولا يبصرونه ، ثم قال تعالى :
________________________________________
[ إن الله قوى عزيز ] أي قادر على الانتقام من أعدائه بنفسه ، عزيز أي غالب لا يغالب ، فهو غنى بقدرته وعزته عن كل أحد ، قال البيضاوي : أي قوى على إهلاك من أراد إهلاكه ، عزيز لا يفتقر إلى نصرة أحد ، وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ، ويستوجبوا الثواب وقال ابن كثير : معنى الآية أنه جعل الحديد ، رادعا لمن أبى الحق وعانده ، بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام رسول الله (ص)بمكة ثلاث عشرة سنة ، توحى إليه السور ، ويقارعهم بالحجة والبرهان ، فلما قامت الحجة على من خالف أمر الله ، شرع آلله الهجرة ، وأمر المؤمنين بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب ، ولهذا قال عليه السلام : (بعثت بالسيف بين يدي الساعة ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم )ثم قال تعالى : [ إن الله قوي عزيز ] أي هو قوي عزيز ، ينصر من شاء من غير احتياج منه إلى الناس ، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضهم ببعض
[ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب ] لما ذكر بعثة الرسل ، ذكر هنا شيخ الأنبياء نوحا عليه السلام ، وأبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، وبين أنه جعل في نسلهما (النبوة) و(الكتب السماوية) والمعنى : والله لقد أرسلنا نوحا وإبراهيم ، وجعلنا النبوة في نسلهما ، كما أنزلنا الكتب الأربعة ، وهي (التورآة والزبور والإنجيل والقرآن ) على ذريتهما ، وإنما خص نوحا وإبراهيم بالذكر ، تشريفا لهما ، وتخليدا لمآثرهما الحميدة
[ فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ] أي فمن ذرية نوح وإبراهيم أناس مهتدون ، وكثير منهم عصاة خارجون عن الطاعة ، وعن الطريق المستقيم
[ ثم قفينا على آثارهم برسلنا ] أي ثم أتبعنا بعدهم رسلنا الكرام ، أرسلناهم رسولا بعد رسول ، (موسى ، والياس ، وداود ، وسليمان ، ويونس ) وغيرهم
[ وقفينا بعيسى ابن مريم ] أي وألحقنا عيسى وأتبعناه بعد أولئك الرسل ، لأنه كان آخر الأنبياء من بنى إسرائيل
[ وآتيناه الإنجيل ] أي وأنزلنا عليه الإنجيل ، الذي فيه البشارة بمحمد (ص)
[ وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ] أي وجعلنا في قلوب أتباعه (الحواريين ) الشففة واللين ، قال في التسهيل : هذا ثناء من الله عليهم بمحبة بعضهم في بعض ، كما وصف تعالى أصحاب سيدنا محمد (ص) بأنهم [ رحماء بينهم ]
[ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ] أي ورهبانية ابتدعها القسس والرهبان ، وأحدثوها من تلقاء أنفسهم ، ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها ، قال أبو حيان : والرهبانية رفض النساء وشهوات الدنيا ، واتخاذ الصوامع ، ومعنى [ ابتدعوها ] أي أحدثوهأ من عند أنفسهم
[ إلا ابتغاء رضوان الله ] أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله ، والاستثناء منقطع ، والمعنى : ما كتبنا عليهم الرهبانية ، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم ، ابتغاء رضوان الله
[ فما رعوها حق رعايتها ] أي فما قاموا بها حق القيام ، ولا حافظوا عليها كما ينبغي ، قال ابن كثير : وهذا ذم لهم من وجهين : أحدهما : الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله والثاني : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة تقربهم إلى الله عز وجل ، وفي الحديث : (لكل أمة رهبانية ، ورهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله )
[ فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ] أي فأعطينا الصالحين من أتباع عيسى الذين ثبتوا على العهد ، وآمنوا بمحمد (ص) ثوابهم مضاعفا
[ وكثير منهم فاسقون ] أي وكثير من النصارى ، خارجون عن حدود الطاعة ، منتهكون لمحارم الله ، كقوله تعالى : [ إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله ]
________________________________________
[ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله ] أي يا من صدقتم بألله ورسوله ، اتقوا ربكم ، وخافوا عقابه ، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه ، ودوموا واثبتوا على الإيمان
[ يؤتكم كفلين من رحمته ] اي يعطكم ضعفين من رحمته
[ ويجعل لكم نورا تمشون به ] أي ويجعل لكم في الآخرة نورا تمشون به على الصراط ، كما يجعل لكم في الدنيا نورا ، تفرقون به بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وهو نور الإيمان ، وفي الحديث (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الإيمان )
[ ويغفر لكم ] أي ويغفر لكم ما أسلفتم من المعاصي
[ والله غفور رحيم ] أي عظيم المغفرة واسع الرحمة
[ لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله ] أي إنما بالغنا في هذا البيان ، ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بهم ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة فيهم ، فلا فى قوله : [ لئلا ] زائدة ، والمعنى : ليعلم ، ومن أجل أن يعلم ، قال المفسرون : إن أهل الكتاب كانوا يقولون : الوحي والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلأ لنا ، والله خضنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العالمين ، فرد الله عليهم بهذه الآية الكريمة
[ وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ] أي وأن أمر النبوة والهداية والإيمان ، بيد الرحمن ، يعطيه لمن يشاء من خلقه
[ والله ذو الفضل العظيم ] أي والله واسع الفضل والإحسان .
البلاغة :
تضمنت السورة الكريمة وجوها من البيان والبديع نوجزها فيما يلى :
1 – الطباق بين [ يحيي وبميت ] وبين [ الأول والآخر ] وبين [ الظاهر والباطن ] .
2 -المقابلة بين [ يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها ] وبين [ وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ] .
3 – رد العجز على الصدر [ يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ] وهو وما سبقه من المحسنات البديعية .
4 – حذف الإيجاز [ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ] حذف فيه جملة [ ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل ] وذلك لدلالة الكلام عليه ويسمى هذا (الحذف بالإيجاز) .
5 – الاستعارة اللطيفة [ ليخرجكم من الظلمات إلى النور ] أي ليخرجكم من ظلمات الشرك ، إلى نور الإيمان ، فاستعار لفظ [ الظلمات ] للكفر والضلالة ولفظ [ النور ] للإيمان والهداية ، ففي الآية استعارة تمثيلية .
6 – الاستعارة التمثيلية [ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ] مثل لمن ينفق ماله ابتغاء وجه الله ، مخلصا في عمله ، بمن يقرض ربه قرضا واجب الوفاء بطريق الاستعارة التمثيلية ، وهي من لطائف أنواع الاستعارة .
7 – الأسلوب التهكمي [ مأواكم النار هي مولاكم ] أي لا ولي لكم ولا ناصر ينجيكم إلا (نار جهنم ) وهو تهكم بهم لاذع .
8 – المقابلة اللطيفة بين قوله : [ باطنه فيه الرحمة ] وقوله : [ وظاهره من قبله العذاب ] فقابل بين (الباطن) و(الظا هر) ، وبين (الرحمة) و(العذاب) .
9 – التشبيه التمثيلي [ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا .. ] لأن وجه الشبه منتزع من متعدد.
10 – الجناس الناقص [ أرسلنا رسلنا ] لتغير الشكل وبعض الحروف .
11 – السجع المرصع كأنه الدر المنظوم [ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ] وقوله تعالى : [ فضرب بينهم بسور له باب ، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ] وهو كثير فى القرآن الكريم ، وهو من المحسنات البديعية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق