الثلاثاء، 25 مارس 2014

بلاغة التشبيه في معلقة امرئ القيس


بلاغة التشبيه في معلقة امرئ القيس



يُعَدُّ امرؤ القيس من أوائل الشعراء الّذين أبدعوا في التشبيه من خلال شعرِهم، والتشبيه غرضه الدائب هو غرضُ الصورة بأفضل ما يمكن أن يتصوّره المستمع، وقديماً قالوا: " ما راءٍ كمَن سمع ". لأنّ الرؤية تحقّق الصورةَ المحسوسة والمنظورة، بينما السماع لا يحقّق تلك الرؤية؛ لأنّه ينقل المجرّد إلى المحسوس، والذهني إلى الحسّي.
وغرضنا في هذا البحث ليس التعويل على ما بحثه القدماء، في تشبيهات امرئ القيس ـ على روعتها ـ فقط، وإنّما البحث في تشكيلات التشبيه، وجماليّات الألفاظ الّتي قام بتركيبها أثناء بناء تشبيهه في حديثه عنه الديار، أو الأطلال، أو الفرس، أو الليل في معلّقته.
وقد ذكر ابن سلاّم بعضاً من مميّزات شعر امرئ القيس، وهو بصدد حديثه عن أشعر الناس، وقرّر أنّه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العربُ، واتّبعه فيها الشعراء، وهي: " استيقاف صحبِه، والبكاء في الديار، ورقّة النسيب، وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيض، وشبّه الخيلَ بالعقبان والعصي، وقيّد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى.
ويُعَدّ امرؤ القيس أحسن الشعراء في الجاهليّة تشبيهاً، وقد تميّز عن شعراء عصرِه بكثرة ما في شعرِه من تشبيهات متنوّعة، انتقل فيها بين المحسوس والمعقول، والمفرد والمتعدّد، مستعملاً الأداة، تاركاً لها، ومنتقلاً في أوجه الشبه بين الصورةِ والهيئة واللون والحركة.
والهدف من التشبيه عند علماء البيان هو الإيضاح والتقريب بين البعيدَين، حتّى تصيرَ بينهما مناسبة واشتراك ".
وقد عرض ابن سلاّم بعض الأبيات الّتي استشهد بها على حُسن التشبيه عند امرئ القيس، قال:
كأنّ قلـوبَ الطيرِ رطباً ويابسـاً... لدى وكرِها العنّاب والحشف البالي
وتقدير البيت كما جاء في شرح الديوان: " كأنّ قلوبَ الطيرِ رطبةً العنّاب، وكأنّها يابسةً الحشف البالي
فالضمير في ( وكرِها ) للعقاب، العنّاب: تمرٌ أحمر غضّ ذو ماء، والحشف: هو التمر إذا لم يظهر له نوى، البالي: القديم الفاسد.
وممَّن تناولوا هذا البيت بالحديث ابنُ رشيق، حيث جعل امرأ القيس فاتحاً للشعراء، في تشبيهه شيئين بشيئين، قال: " وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها، أو كأنّ وما شاكلها شيءٌ بشيء في بيت واحد، إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب:
كأن قلـوب الطير رطباً ويابسـاً لدى وكرها العناب والحشف البالي
فشبّه شيئين بشيئين في بيت واحد، واتّبعه الشعراء في ذلك
أمّا ابنُ سنان فقد مثّل بهذا البيت للتشبيه المختار، وبيّن غرضه، وغرام الشعراء به، فقال: " وهذا من التشبيه المقصود به إيضاح الشيء، لأنّ مشاهدةَ العنّاب والحشف البالي أكثر من مشاهدة قلوب الطير رطباً ويابسة "
ورُوي عن بشّار بن برد أنّه قال: " وما زلت منذ سمعت بيت امرئ القيس هذا أطلبُ أن يقع لي تشبيهان في بيت واحد، حتّى قلت:
كأنّ مُثـار النقـعِ فوق رؤوسنا وأسيافَنـا ليـلٌ تهاوى كواكبُـه
فشبّهتُ النقعَ بالليل، والسيوفَ بالكواكب، وهذا تشبيه للمبالغة والتفخيم "
والحقيقة أنّ المتأمّل لبيت امرئ القيس سيجدُ أنّه اعتمد على الطباق بين الرطوبة واليباس في قلوب الطير، ثمّ طابق بين العنّاب وهو التمر الطري والحشف البالي أي التمر الجاف، ونلاحظ أنّ الألفاظ الّتي ركّب امرؤ القيس منها البيت تنتمي إلى حقلٍ دلاليّ واحد هو الماء والجفاف، فأبرز المعنى من خلال التناسب المائي، فجاء البيت منسجماً بألفاظه، كأنّه الماء العذب، فلا نجد لفظاً ينبو عن موضعه، أو لا ينسجم في تكوين التشبيه، أضف إلى ذلك رؤية العنّاب والتمر الجاف أكثر تردّداً عند الناس من رؤية القلوب الجافّة أو الطريّة في أعشاش العقاب، وبذلك استطاع امرؤ القيس أن ينقلَنا من المجهول إلى المعلوم من خلال تشبيه بديع، استمدّ ألفاظه من البيئة المعلومة والمتداولة بين العرب لتوضيح وجلاء صورة العقاب.
ومن حيث تشبيهه التشبيه التخييلي أو الوهمي في قوله:
أيقتلنـي والمشرفـيّ مضاجعـي ومسنونـة زرقٌ كأنيـاب أغـوالِ
والمشاهَد فيه: التشبيه الوهمي، وهو غير المُدرَك بإحدى الحواس، ولكنّه بحيثُ لو اُدرِك لكان مُدرَكاً بها، فإنّ أنياب الغول ممّا لا يدركه الحسّ لعدم تحقّقها، مع أنّها لو اُدرِكت لم تُدرَك إلاّ بحسّ البصر
وإذا أردنا أن نبحث في بنية التشبيه البلاغي عند امرئ القيس، وتحليل المفردات ضمن الحقول الدلاليّة للصورة نجد:
الحقول الدلاليّة في تشبيه الأطلال:
يستمدّ امرؤ القيس ألفاظ التشبيه عندما يريد أن يتحدّث عن الأطلال من الأشياء المحسوسة بصريّاً، أو لمساً، فعندما أراد أن يصف لنا ديار المحبوبة، بعد أن تحوّلت إلى طلل قال:
تـرى بعرَ الآرامِ في عرصاتِها وقيعانِهـا كأنّــه حَبُّ فلفــلِ
ولتأكيد حقل البصر اللغوي نجد أنّ الشاعرَ افتتح البيتَ بالفعل ( ترى )، وهو فعل يلتصق بالنظر، ثمّ نجد الألفاظ الدالّة على حاسّة البصر: (الآرام – عرصات – قيعان – حَبّ – فلفل )، وربط بين هذه المدلولات من خلال تشكيل لغوي بلاغي هو التشبيه التمثيلي، وقد أجاد من خلال التناسب بين هذه الأشياء، فالصورةُ الأولى بصريّة، وهي المشبّه ( ترى بعر الآرام .... )، والصورة الثانية بصريّة، وهي ( حبّ فلفل )، وربط بينهما بـ ( كأنّ )، فالدار أقفرت من أهلِها، وصارت مألفاً للوحوش، فبعرُها فيها.
وتغدو علاقة البصر التشبيهيّة أكثرَ تواشجاً عندما يربطها بمشاعرِه، فصورة الرحيل تبكيه، وكأنّه أمام الحنظل، والحنظل له حرارةٌ تُدمِع العين، فشبّه ما جرى من دمعه لفقد أهل الدار بما يسيل من عين ناقف حنظل:
كأنّي غـداة البين يـومَ تحمّلوا لدى سمرات الحيّ ناقف حنظلِ
ولنلاحظ معاً المفردات البصريّة في تكوين التشبيه، وعذوبته وانسجامه بلاغيّاً
( البين – تحمّلوا – الحيّ – ناقف – حنظل )، فنحن نجد شبكةً من العلاقات الحسيّة بين الألفاظ البصريّة الّتي تقوم بخدمة توضيح التشبيه أو الصورة المُراد نقلُها.
وتتّضح جماليّات التشبيه في التشكيل اللغوي في أكثر من موضع ضمن معلّقة امرئ القيس، فحينما أراد أن يتغزّل أو يصف جمالَ محبوبته قال
مهفهفـةٌ بيضاءُ غيرُ مفاضةٍ ترائبهـا مصقولة كالسجنجـلِ
وفي دائرة الغزل نجد تشكيل التشبيه يقوم على إثبات ونفي للمفاضة، وهي ضخمة البطن، أي خميصة البطن ضامرته، وترائبها مصقولة، أي جاذبة للنظر، لجمالها واكتمالها، وهي ألفاظ بصريّة، ثمّ يأتي بالمشبّه به من خلال كلمة روميّة الأصل، وهي ( السجنجل ) أي المرآة، فتماسُك جسدها كتماسك المرآة.
والمدقّق المتمّعن في هذه الصورة سيكتشف أنّ مكمنَ جمالها في أنّ الشاعر استخدم المرآة لأنّ المرآة تشكّل للإنسان أقصى ما يمكن أن يرى ويشتهي من الجمال، أضف إلى ذلك أنّ المشبّه والمشبّه به يشتركان في التماسك والبريق والبياض والتلألؤ.
والجدير ذكرُه في أغلب التشبيهات عند امرئ القيس أنّه يفصّل في المشبّه، ثمّ يوجز في المشبّه به، فيحكم الصورة ويوضّحها، ففي الأبيات السابقة جاء المشبّه به موجزاً، مثل: ( ناقف حنظل )، ( السجنجل )، وهذا دليل على قدرة امرئ القيس على الإتيان بما يوازي ما يريد تصويره بسرعةٍ فائقة، وبإتقان.
__________________

رد مع اقتباس






وعندما ينتقل امرؤ القيس ليصف طول الليل، وما يعانيه من انتظار الصباح للبحث عن ثأره، ومملكته الضائعة، يزاوج في تشكيله للتشبيه بين الصورة السمعيّة والصورة البصريّة في قولِه:
وليلٍ كموج البحـرِ أرخى سدولـه علـيّ بأنـواع الهمـومِ ليبتلـي
فقلتُ لـه لمّـا تمطّـى بصلبـهِ وأردفَ أعجـازاً ونـاءَ بكلكــلِ
ألا أيّها الليـلُ الطويـلُ ألا انجـلِ بصبـحٍ، ومـا الإصباحُ منكَ بأمثلِ
ففي إطار الحالةِ النفسيّة ينقلُنا الشاعرُ عبرَ استعاراته، وتشبيهاته إلى صورٍ سمعيّة توضّح لنا ضيقَه بالحياة، وتبرّمه منها بما شكّله من لفظٍ يعبّرُ عن المشافهةِ والسماع ( فقلت )، والحركة بالأفعال ( تمطّى، أردف، وناء ).
وإن كان شبّه الليل بموج البحر في تراكمهِ، وشدّة ظلمته، وتتابعه فقد استعارَ لليلِ الستارةَ والسدول إمعاناً منه في التعبير عن الظلام الشديد الّذي لا ينتهي، فالليلُ يطولُ كالبعيرِ إذا نهض نهضَ بصدره، ثمّ يتحوّل ثقلُه إلى مؤخّرته، فلا يستطيع النهوض إلاّ بصعوبةٍ وبطء.
أمّا إذا انتقلنا إلى وصف الفرس عندَ امرئ القيس، فإنّنا نجد جماليّات التشبيه تبدو أكثرَ سطوعاً، وعمقاً، لذا آثرنا أن ندرسَه دراسةً بلاغيّةً مفصّلةً، وأن نطبّق عليها منهجاً تحليليّاً، نُظهِرُ من خلالِه بلاغةَ التشبيه في أبهى حللها، فقد قال امرؤ القيس يصف فرسَه:
وَقَد أَغتَـدي وَالطَيـرُ في وُكُناتها بِمُنجَـرِدٍ قَيـدِ الأَوابِـدِ هَيـكَلِ
مكَـرٍّ مِفَـرٍّ مُقْبِـلٍ مُدبِـرٍ مَعـاً كَجُلْمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
كُمَيتٍ يَزِلُّ اللبدُ عَن حالِ مَـتنِـهِ كَمـا زلَّـتِ الصَفـواءُ بِالمُتَنَزَّلِ
مِسَحٍ إذا ما السابِحاتُ على الوَنـى أَثَرْنَ غُبـاراً بِالكَـديدِ المُـرَكَّلِ
عَلى العَقـبِ جَيَّاش كَأَنَّ اهتِزامَـهُ إذا جاشَ فيه حَميُهُ غَليُ مِرجَـلِ
يُطيرُ الغُـلامَ الخِفَّ عَن صَهَواتِهِ ويُلـوي بأَثـوابِ العَنيـفِ المُثَقَّلِ
دَريرٍ كَخُـذروفِ الوَليـدِ أَمَـرَّهُ تَقَلُّـبُ كَفَّيــهِ بخَيـطِ مُـوَصَّلِ
لَـهُ أَيطَـلا ظَبيٍ وَساقـا نعامَـةٍ وَإِرخـاءُ سِرحانٍ وتَقريبُ تَتفُـلِ
__________________


 






- الدراسة البلاغيّة:
بداية علينا أن نلاحظ أنَّ دراسة معاني الأبيات في النصوص التراثيّة هي خطوة أساسية وأولى لفهم النصّ بلاغيّاً ثمّ علينا أن نراعي السياق النصّي الذي وردت فيه الأبيات، فهي جزء من معلّقة امرئ القيس المشهورة، وفي هذا الجزء يتحدّث الشاعر عن صورة كليّة واحدة هي صورة الفرس، وبذلك فمقولة الفرس هي المسيطرة على النصّ، وستقوم الدراسة البلاغيّة على خطوات هي:
1- البنية المعجميّة للنصّ نتوقّف فيها عند معاني المفردات التي ستخدمنا في فهم النصّ أوّلاً ثم في تحديد الحقول الدلاليّة للتشبيه التي استخدمها امرؤ القيس في مكوّنات الصورة لديه.
2- البنية المضمونيّة وهنا نتوقّف عند دلالات الأبيات ومعانيها لتكوين فهم للنصّ.
3- بلاغة الشاعر وجماليّته، وهنا نحلّل التشبيهات التي اعتمدها الشاعر في تقديم مقولته الرئيسة (الفروسيّة أو وصف الفرس) ودراسة جماليّات التشبيه النصيّة.
البنية المعجميّة:
ب1- الوكنات: مواقع الطير، واحدتها وَكُنة . منجرد: الماضي في السَّير، وقيل بل هو قليل الشعر.الأوابد: الوحوش.الهيكل: هو الفرس العظيم الجِرْم، والجمع هياكل.
ب2- الكرّ: العطف (الرجوع)، يُقال كرَّ فرسه على عدوِّه أي عطفه عليه.الجلمود: الحجر العظيم الصلب.حطَّه: ألقاه من علو.من عل: من فوق.
ب3- الحال: مقعد الفارس من ظهر الفرس.الصفواء، الحجر الصلب.
ب4- مسحّ: سحَّ يسحُّ بمعنى انصبّ ينصبّ والمراد أنّه يصبّ الجري والعدو صبّاً بعد صبّ.السابح: من الخيل الذي يمدُّ يديه في عدوه شُبِّه بالسابح في الماء.الونى: الفتور.
الكديد: الأرض الصلبة.المركَّل: من الركل وهو الدفع بالرجل والضرب بها.
ب5- الجيَّاش: نقول جاش البحر جيشاناً إذا هاجت أمواجه.الاهتزام: التكسُّر.الحمي: حرارة القيظ.المرجَل: القدر من حديد أو نحاس أو غيره.
ب6- الخفّ: الخفيف.يلوي: ألوى بالشيء رمى به.العنيف: ضدّ الرقيق.
ب7- الدرير: من درَّ، يدرُّ، يُقال درَّت الناقة اللبن، فدرَّ اللبن.الخذروف: خشبة يُشَدّ في وسطها خيطٌ فتدور، يلعب بها الأولاد. الوليد: الصبي.الإمرار: إحكام الفتل.
ب8- الأيطل: الخاصرة.الإرخاء: ضرب من عدو الذئب.السرحان: الذئب.التقريب: وضع الرجلين موضع اليدين في العدو.التتفل: ولد الثعلب.
نلاحظ سيطرة الألفاظ المستمدة من الحقل الدلالي الدالّ على البيئة الصحراويّة وتحديداً حقل الحيوان (الظبي، الذئب، تتفل) وهي جميعها مفردات حسيّة مشاهدة شكّلت المكوِّن الأساسي للمشبّه به.
2- البنية المضمونيّة:
ب1- يقول: وربّما باكرتُ الصيد قبل نهوض الطير من أوكارها على فرسٍ ماضٍ في السير قليل الشعر، يقيِّد الوحوش بسرعة لحاقه إيّاها، وهو عظيم الجرم.
ب2- هذا الفرس مكرّ إذا أُريد منه الكرّ، ومفرّ إذا أُريد منه الفرّ، ومقبل إذا أُريد منه إقباله، ومدبر إذا أريد منه إدباره، وقوله معاً: يعني أن الكرَّ والفرَّ والإقبال والإدبار مجتمعة في قوّته لا في فعله لأنَّ فيها تضاداً ثم شبّهه في سرعة مرِّه وصلابة خلقه بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عال إلى حضيض.
ب3- إنّه لاكتناز لحمه وانملاس صلبه يزلُّ لبده عن متنه كما أنَّ الحجر الصلب يزلّ المطر أو الإنسان عن نفسه.
ب4- إنّه يجيء يجري بعد جري إذا كلَّت الخيل السوابح وأثارت الغبار في الأرض الصلبة.
ب5- تغلي فيه حرارة نشاطه على ذبول خلقه وضمر بطنه وكأنَّ تكسَّر
صهيله في صدره غليان قدر.
ب6- إنَّ هذا الفرس يزلّ ويزلق الغلام الخفيف عن مقعده من ظهره، ويرمي بثياب الرجل العنيف الثقيل يريد أنّه ينزلق عن ظهره من لم يكن جيد الفروسيّة عالماً بها، ويرمي بأثواب الفارس الحاذق في الفروسيّة لشدّة عدوه وفرط مرحه في جريه.
ب7- إنّه قديم السير والعدو متابع لهما ثمّ شبّهه في سرعة مرِّه وشدِّة عدوه بالخذروف في دورانه إذا بُولغ في فتل خيطه، وكان الخيط موصولاً.
ب8- شبَّه خاصرتي هذا الفرس بخاصرتي الظبي في الضمر، وشبَّه ساقيه بساقي النعامة في الانتصاب والطول، وعدوه بإرخاء الذئب، وتقريبه بتقريب ولد الثعلب، فجمع أربعةَ تشبيهات في هذا البيت.
3- بلاغة التشبيه وجماليّاته في النصّ:
لعلّك تلاحظ أنَّ امرأ القيس في وصفه لفرسه ينـزع نزوعاً أسطوريّاً، فصورة الفرس هي صورة الفرس المثالي الذي يشكِّل النمط المشتهى من قبل الفارس، وبناءً على هذه الرؤية انطلق امرؤ القيس في وصف هذا الفرس وانطلاقه عليه، وقد اعتمد في تقديم هذه الصورة المثالية للفرس على التشبيه التمثيليّ وعلى التشبيه البليغ، ولعلّك تلاحظ بلاغة التشبيه التمثيليّ في تجسيد الحالة الكليّة للفرس بمقارنتها بصورة متعدّدة لا تتحصّل في الواقع، وإنّما في المخيّلة، في حين أفاد التشبيه البليغ الذي ورد في البيت الأخير تحديداً في استعارة صفات مُميِّزة لحيوانات أخرى لإلصاقها بالفرس في سبيل الوصول إلى وصف مثاليّ لأنموذج الفرس المشتهى. فالصورة الكليّة لهذا النصّ تقوم على وصف اغتداء الشاعر في وقت مبكر على صهوة فرس يتمتّع بصفات كثيرة، فهو ماض في السير، سريع، يلحق بالوحوش ولا تستطيع الفكاك منه، وهو هنا في البيت الأوّل يقدّم لنا ملخّصاً وصفيّاً للفرس ثمّ ينتقل إلى تفصيل الجزئيّات معتمداً على التشبيه التمثيليّ تارة والبليغ تارة أخرى.
وعلى ذلك سنلحظ التشبيه التمثيليّ الأوّل في البيت الثاني الذي يقدّم لنا شطره الأوّل مبالغة لطيفة في اجتماع صفات الكرّ والفرّ والإقبال والإدبار في قوّة ذلك الفرس لا في فعله، على ما يوحي به الظاهر لأنّه لا يُعقَل أن تُنفَّذ كلّ هذه الحركات معاً، لأنَّ فيها تضادّاً يُذهب الروعة في الصورة إذا حُكِم باجتماعها معاً في اللحظة ذاتها، فالمُراد أنّها مجتمعة في قوّته وهي الصورة الأولى من التشبيه وستأتي مجتمعة في الصورة الثانية، ليعزِّز تلك الدلالة (الشطر الثاني) فقد شبّه صورته تلك بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عال إلى حضيض، فالجامع هنا هو القوّة والسرعة، ثم ينتقل الشاعر إلى صفة أخرى يتمتّع بها هذا الفرس وهي صفة اكتناز اللحم وانملاس الصلب، فقد أورد هذه الصفات في الشطر الأوّل من البيت الثالث، ثم أورد صورة مماثلة لتأكيد تلك الصفة هي صورة الحجر الصلب الأملس الذي يزلّ المطر عنه، وبعد أن يعزِّز صفة افتراق هذا الفرس عن بقيّة جياد الخيل في التحمّل والقدرة على السير في الأرض الصلبة ينتقل في البيت الخامس إلى تشبيه آخر يصف حرارة نشاط ذاك الفرس، فهو على ذبول خلقه وضمور بطنه تغلي فيه حرارة النشاط، وكأنّ في صدره صوتٌ يشبه غليان القدر فوق النار
ومن هنا لا غرابة أن نجد في البيت السادس أنَّ التعامل مع هذا الفرس بحاجة إلى فارس من نوع خاصّ، ومؤكّد أنّه سيكون الشاعرَ امرأَ القيس، فوصف الفرس بهذه الصفات يدلّ على فارس خبير مميّز عن أقرانه، وبذلك يمكن أن نلمح افتخاراً ضمنيّاً للشاعر بفروسيّته وتفرّده عن غيره، لذلك جعل فرسه في منأى عن الغلام الخفّ، وحتّى عن الفارس العنيف ذي الخبرة، وهذا سيبرز صفةً أخرى لهذا الفرس ترد في البيت على صورة تشبيه تمثيليّ لتسويغ فروسيّة صاحب الفرس، فالصورة هنا هي تشبيه سرعة هذا الفرس بسرعة دوران الحصاة المثقوبة وفي داخلها خيط يلفّه الصبي ليلعب به، فالفرس هنا في حركته وديمومته يسرع كإسراع خذروف الصبي، ثم يختم الشاعر أبياته في البيت الثامن الذي وردت فيه أربعة تشبيهات بليغة لتعزيز سمة الفرس المشتهى التي يريدها، لذلك يستعير أهمّ وأجمل السمات التي تميِّز الحيوانات الأخرى وتناسب الفرس ليلصقها بالفرس، فقد شبّه خاصرتي هذا الفرس بخاصرتي الظبي في الضمر، وشبّه ساقيه بساقي النعامة في الانتصاب والطول وعدوه بإرخاء الذئب وتقريبه بتقريب ولد الثعلب فاستعار له الضمور من الظبي وهي سمة تميِّزه، والساقين من النعامة من ناحية الطول والانتصاب وهي أهمّ ما يميّزها وعدوه من الذئب وهذا أهمّ ما يميّزه، وتقريبه من ولد الثعلب، وهذه سمة مميِّزة له.

هناك تعليق واحد:

  1. أعانك الله ووفقك على هذه المعلومات القيمة الرائعة يا أخي العزيز

    ردحذف