السبت، 29 مارس 2014

التشبيه في القرآن (29): وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ

التشبيه في القرآن (29): وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ

بسم الله، والحمد لله، والسلام على المستمعين ورحمة الله،
اليوم ونحن على أواخر أيام الصيام، ونحن نرجو أن ننال رحمة ربنا العلام؛ لا بد أن نقف أمام أبواب كرم الله العظيم، وما أعده لعباده المتقين من جناتٍ ونعيم؛ ذلك أن الصيام إنما هدفه أن نصل إلى مقام المتقين؛ فلقد قال الله لنا في كتابه المبين:
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة:183].
فكيف نصل بالصيام إلى مقام المتقين؟.
سؤالٌ يعرف جوابه كل المؤمنين؛ ذك أن الصائم إذا اقتدر أن يكف نفسه عن الطعام، وهو من ضروريات الحياة؛ فإنه أقدر على كف نفسه عن الحرام طوال العام، بل وعلى مدى الأيام، وبذلك يكون من التقاة المخلصين، وهذا هو المقام الذي يؤهله ليكون من أصحاب جنات النعيم؛ فالجنة إنما أعدت للمتقين. ألم يقل الله: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:133]،
وقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) [الحجر:45]، وقال: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [القلم:34]؟.
وما دام الأمر كذلك؛ فلنشاهد ماذا أعده الله لهم في الجنات.
يقول الله في سورة الطور: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) [الطور:17-20].
إنه عطاءٌ جميلٌ، وكرمٌ جليلٌ، ومن الجمال فيه هو هذه الحور العين، وهذه الحور العين هو محور حلقة اليوم؛ حيث وردت في آياتٍ أخرى في تشبيهاتٍ تقرب لنا فهم جمالها، ومعرفة أوصافها التي تنفرد بها عن حور الدنيا، وتختلف عنها اختلافاً كبيرا.
فتعالوا معنا نستعرض الآيات، التي وردت فيها هذه التشبيهات لهؤلاء الحوريات.
يقول الله في سورة الصافات واصفاً ما أعده لعباده المخلصين: (أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ) [الصافات:41-47].
إنه عطاءٌ جميلٌ رائعٌ، وحالٌ مسرورٌ ممتعٌ، ولزيادة السرور والجمال، والأنس والاحتفال، يضيف الله ذو الجلال فيقول: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات:48-49].
ثم يقول: (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) [الصافات:50]، فهم في أنسٍ حافل، وفي حوارٍ متواصل، وفي لقاءٍ وتقابل، وهذا التساؤل ليس إلا تعبيراً عن السرور الكامل، والفوز برضاء الله وجناته.
لن نخوض الآن في شرح تشبيه الحوريات؛ حتى نستعرض بقية الآيات.
يقول الله في سورة الرحمن: (مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن:54-58].
ها هو الله يشبه هذه الحوريات بالياقوت والمرجان، ولن نخوض في شرح التشبيه هنا حتى نستكمل بقية الآيات لتكون الصورة ساطعة.
يقول الله في سورة الواقعة: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لاَ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الواقعة:15-21].
هذا هو حال السابقين المقربين، في جنات النعيم؛ فهم في نعيمٍ من المأكل والمشرب، متقابلين في حبورٍ وحب.
ثم إن السرور يكتمل بقوله تعالى: (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة:22-24].
والآن وقد اكتملت الآيات؛ التي فيها التشبيهات، لهذه القاصرات الطرف والحوريات؛ تعالوا نتأمل معنى التشبيه، والقصد الذي فيه، والمعنى الذي يعنيه.
لنبدأ من آيات سورة الصافات، فهو هناك يشبههن بقوله: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ * كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات:48-49].
فما المراد بهذا؟.
إن المراد أن عند العباد المخلصين مخلوقات جميلات، وقاصرات الطرف عفيفات، وحور مصونات؛ كأنهن بيضٌ مكنونٌ؛ أي: محفوظ.
إن الأنوثة فيهن وافرةٌ، ولكنها مكنونة غير متهورةٍ، والجمال فيهن نابضٌ متكاملٌ، ولكنه غير مبتذلٍ.
فهن عندهم للأنس والسرور، وللجمال المنظور الذي لا تمسه إلا العيون، فكل نظرةٍ فيها لذةٌ للناظرين. فللعيون لذةٌ، وللنظر متعةٌ؛ ثم لقد وصفت هذه الحور بقوله: (قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ)؛ إن هذا التعبير كنايةٌ عن أن نظراتهن لا تمتد إلى ما تعارف عليه الناس عند لقاء الأنثى، ولا تفكر فيما تعاهد عليه البشر في الدنيا؛ بل هن مكنوناتٌ مصوناتٌ كالبيض الذي يُحفظ ولا يُفَض، ولا للكسر يُعرَّض، بل هن في حسنٍ وجمالٍ بضٍّ، وهن أزواجٌ مطهرةٌ من أي لعبٍ وعبثٍ، بريئات من أي رفثٍ.
قد تستغربوا من هذه التحليلات الغير متوقعة، ولكن الحقيقة تأتي ساطعة في سورة الواقعة؛ تؤكد ما سبقها بصورةٍ رائعة؛ فيقول الله واصفاً ما أبدعه: (وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ) [الواقعة:22-23].
فهن حور الأجفان، واسعات الأعيان، ولكن أوصافهن كصفات اللؤلؤ المكنون؛ أي الذي هو محفوظٌ في صدفه ثم يثقب، ولم يقصد به الأغراض المتعارفة؛ بل هو مكنونٌ مصون، وهو للسرور في نفوس الناظرين، وللمتعة في العيون، وللصحبة الطاهرة من اللمس المباشر، بل للأنس والتحاور، واللذة التي لا تتجاوز النواظر، فالله يقول عن الجنة بشكلٍ ظاهرٍ: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ) [الزخرف:71]؛ فالعيون لها لذةٌ بكل جمالٍ وجميلٍ في الجنات ونعيمها، والأجساد مطهرةٌ عن شهوات الدنيا وعاداتها.
إن الأنفس لها ما تشتهي، وهي نفوس أناسٍ أتقياء، وهي لا تشتهي إلا الطهر والنقاء في الدنيا والأخرى، وليست مندفعةً إلى المتاع الأدنى؛ وكيف لا وقد تزكت من الشهوات السريعة، وسمت إلى اللذات الرفيعة.
ثم لكي لا نطيل المقال؛ تعالوا إلى تشبيه سورة الرحمن؛ فالله يقول عن هؤلاء القاصرات الطرف: (كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) [الرحمن:58].
فالتشبيه يريد أن يوضح لنا أنهن في بريقٍ ولمعان، وصفاءٍ نقيٍّ من الأدران، ومن المعروف أن الياقوت من الأحجار الكريمة وهو أصلب من الحجر؛ فإذا لمس تغير، وإذا تعرض للعبث تكدر، بل إذا ثقب تكسر؛ فهو فقط متعةٌ للعين والنظر.
أما المرجان فهو كذلك من عجائب البحار؛ ينمو في شعابٍ كالأشجار، ولكنه في صلابة الأحجار، وله ألوانٌ ممتعةٌ منوعةٌ كالأزهار، وفيه متعة الأبصار لا متعةٌ للأجساد والأوضار.
وهكذا فإن الجمال المنظور، يصبح صفةً لازمةً لهؤلاء الحور؛ أما وصفهن قاصرات الطرف فهو كنايةٌ تنفي أغراض التناسل، بل غرضهن الأنس في الاحتفال الحافل، وفي مهرجان اللقاء والتقابل، ومسرات التساؤل، نقول هذا معتمدين على عدة إشارات في الآيات.
أليس الجميع على سررٍ متقابلين؛ ثم إن الجنة للمؤمنات والمؤمنين؛ فكيف يمكن أن يكون الهدف هو المتعة للذكور من هذه الحور؟.
كلا؛ بل الهدف الأنس والمتعة للناظرين والناظرات، والإكرام لكل أهل الجنة من المؤمنين والمؤمنات.
إن لذات حياة الخلود في الجنات، أسمى من ملذات الدنيا والشهوات؛ التي تتلاشى في لحظات.
ثم لقد أعد الله الجنة للمتقين وللصائمين، المتعالين عن شهوات التراب المهين، والمتزكين مما يشين؛ فهم في عليين. لذاته للنفوس التقية، والعيون النقية، لا للأجساد الشرهة والبطون المتخمة.
ثم ولأنهم كانوا متزكين محسنين، وكانوا متقين صالحين؛ فإن الله يعقب وصف الحور العين في سورة الواقعة بقوله: (جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الواقعة:24]. وفي سورة الرحمن بقوله: (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلاَّ الْإِحْسَانُ) [الرحمن:60].
فالطهر والتقى؛ جزاؤه الطهر والنقاء؛ والإحسان جزاؤه الجمال الوافر والحسن الطاهر، النقي عن لذة الأبدان.
ثم ولتأكيد ما نقول؛ فالله يصف الجميع من المؤمنات والمؤمنين بقوله: (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ) [الصافات:27]. وبقوله: (وَالْمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ) [الرعد:23].
فهم في سرورٍ حافلٍ، ولقاءٍ متواصلٍ، وفرحٍ وتساؤلٍ، وكلهم في مقامٍ متقابلٍ؛ فكيف يمكن أن تمارس في هذا الجو وسائل التناسل؟! فليسوا في الجنة محتاجين لهذه الوسائل، وهم في خلودٍ غير زائل.
وأخيراً؛ فأبشروا أيها الصائمون بأن الله قد أعد لكم في الجنة ما تشتهيه الأنفس الطاهرة المراد، وما تلتذ به العين والفؤاد، وصانكم أيها الصائمون عن شهوات الأجياد، والله لا يكون عنده من اتقى وصام؛ كمن يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام.
وبعد أيها الأعزاء الكرام؛ فإن السؤال الآن، فاستمعوه باهتمام.
هناك في الجزء التاسع والعشرين من القرآن آيتان كريمتان، تعد الأبرار بملكٍ كبيرٍ في نعيمهم، وبشرابٍ طهورٍ من ربهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق