الأحد، 23 مارس 2014

دراسات فنية في سورة القران

انـنا لا نعتزم اءن نكرر الحديث عن اءهمية (الكشف ) الفني الذي يسهم به المتلقي في عملية التذوق للنصوص , حيث سبق اءن كررنا ذلك باءن جمالية النص يتضخم حجما, من خلال اسهامك الذوقي في اسـتـخلاص الدلالة . و لا اءدل على ذلك من اءنك تقف الان متاءملا, تقلب وجوها متنوعة من النظر, مـحـاولا اءن تـستخلص هذه الدلالة اءو تلك , حيث تعود حينا الى اءقوال المفسرين فتجدها متفاوتة حـيـث يذكر بعضها اءن الاية نزلت في المشركين الذين اقترحوا على النبي (ص ) تسيير الجبال ...
الـخ , و تجد اءن بعضها يشير الى اءنها نزلت في صلح الحديبية حينما رفض المشركون التوقيع على عبارتي (بسم اللّه الرحمن الرحيم ) و (محمد رسول اللّه ).
و فـي ميدان التذوق الفني , تجد اءيضا تفاوتا بين وجهات النظر حيث يستخلص بعض المفسرين اءن الجواب المحذوف هو ما ذكرناه من اءن قرآنا لو سيرت به الجبال ... الخ ,(لما آمن به المشركون ), و البعض يستخلص جوابا هو (لكان هو هذا القرآن الذي نزل على محمد (ص )).
ان اءمثلة هذا التفاوت اءو التاءرجح بين وجهات النظر ينطوي على قيمة فنية كبيرة تثري دون اءدنى شك من تجارب المتلقي لنصوص القرآن الكريم .
و لعلك تصل الى استنتاجات اءخرى حينما تواصل قراءة الاية الكريمة , حيث عقب النص على الصور الـثـلاث قائلا (بل للّه الامر جميعا, اءفلم يياءس الذين آمنوا اءن لو يشاءاللّه لهدى الناس جميعا.), فـلو دققت النظر في هاتين العبارتين المشيرتين الى اءن الامرجميعا للّه تعالى , و الى اءن اللّه تعالى لـو يـشاء لجعل الناس مهتدين , لامكنك اءن تصل الى استنتاج يقرب من (اليقين ), من اءن المقصود من الـصور الثلاث هو اءن المنحرفين مهما قدم لهم من دليل اعجازى فانهم سوف لن يؤمنوا, بدليل قوله تـعـالـى بـاءن اللّه تعالى لو شاءلجعلهم مؤمنين من اءول الامر, الا اءن التجربة اءو الاختبار العبادي يفرض على الناس اءن يمارسوا مسؤولياتهم في الحياة .
لـكـن يـمـكـنك اءن تصل الى استنتاج يتجاوز ما تقدم , الى مطلق الادراك العبادي , اذاتاءملت العبارة المذكورة (لو شاءاللّه لهدى .) و عبارة (للّه الامر جميعا), بحيث تستخلص باءن كل شي ء هو عائد الـى اللّه تـعـالـى , و اءن قضية الهداية عائدة الى متطلبات الحكمة العبادية , و اءن الحكمة لو تطلبت نـزول القرآن مصحوبا مع تسير الجبال اءو تقطيع الارض تكليم الموتى , لتحقق ذلك , و لكن بما اءن الامـر للّه جـمـيـعا, و بما اءن الاختيار العبادي لايتوافق مع جعل الناس جميعا مهتدين , حينئذ فان الحكمة العبادية قد اقتضت ممارسة المسؤولية بنحوها الذي تخبره البشرية .
اذن : اءمـكـنـك اءن تتبين اءهمية هذه الصور الفنية , بخاصة اذا وصلتها بالاجزاء الاخرى من الاية الـكـريمة , مما يكشف ذلك مضافا الى عنصرها الايماني عن تماسك البناءالعضوي بين اءجزاء النص القرآني الكريم .

سورة ابراهيم

قـال تعالى : (مثل الذين كفروا بربهم اءعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شي ء ذلك هو الضلال البعيد) ((104)) فـي الاية الكريمة (تشبيه مفصل ) قد استغرق جميع الاية , ماعدا العبارة الاخيرة (ذلك هو الضلال الـبعيد). و اءظنك على معرفة تامة باءن الفارق بين التشبيه المفصل والتشبيه المجمل هو اءن الاول مـنـهـما يتاءلف من ظاهرتين بسيطتين , مثل قوله تعالى عن الكفار (ان هم كالانعام ) حيث شبه الكفار بـالانـعام , دون اءن يفصل الحديث عن ذلك , بيناتجد اءن التشبيه الذي نحن في صدد الحديث عنه قد اشـتمل على تفصيل لاعمال الكفارحيث شبه اءعمالهم بالرماد, و حيث ذكر باءن الرماد (اشتدت به الريح ), و حيث ذكر باءن الريح المشار اليها (في يوم عاصف ).
و هذا فيما يتصل ب(المشبه به ).
و اءما (المشبه ) , فان الغالب فيه اءن يكون مجملا. الا اءنك تجد في مواقع متفرقة من القرآن الكريم (تـفـصيلا) لبعض نماذجه , و منها : النموذج الذي نحدثك عنه . فاءنت ترى اءن النص قد ذكر اءولا هوية (المشبه ), و هي (الذين كفروا بربهم ), ثم ذكر سمتهم و هي عبارة (اءعمالهم ), ثم ذكر بعد ذلك باءن هؤلاء الكفار (لا يقدرون مما كسبوا على شي ء).
اذن : نـحـن اءمـام تشبيه يتسم بالتفصيل في طرفيه (المشبه ) و (المشبه به ), مضافالذلك نجد اءن النص قد استخدم طريقة خاصة في تفصيله للمشبه , اءي اءعمال الكافر, فهو لم يجمع هذه المفردات الثلاث (الكفار, اءعمالهم , عدم قدرتهم على ما كسبوه ), لم يجمعهافي طرف المشبه , بل جعل عبارة (لا يـقدرون مما كسبوا على شي ء) جعلها تعقيبا على المشبه به , اءي اءن النص بعد اءن شبه اءعمال الكفار بالرماد, علق قائلا باءنهم (لا يقدرون مماكسبوا على شي ء).
و هذا النمط من صياغة الصورة له جماليته الفائقة في هذا الميدان , مما يتعين عليناطرحه بشي ء من التفصيل .
النص يتحدث كما لحظت عن اءعمال الكفار, من حيث كونها اءعمالا لا ينتفع بهاالكفار في اليوم الاخر, حيث تتحدد مصائرهم الابـديـة تبعا لما قدموه من الاعمال . و لكى يعمق النص ويوضح عدم انتفاع الكفار باءعمالهم , تقدم لنا الـنـص بنموذج تشبيهي هوالرماد الذي اشتدت به الريح في يوم عاصف , كذلك الكافر لا يقدر على الانتفاع مماعمله .
و الـسـؤال هو : تحديد العلاقة بين كل من الرماد و عمل الكافر. و لا شك اءن النص حينما يستخدم مـثـلا اءو نـمـوذجـا تـشبيها بهذا النحو الذي لحظناه , حينئذ ينبغي اءن نتيق ن تماما باءن النموذج المذكور يظل على صلة وثيقة بعمل الكافر. فما هي ملامح هذه العلاقة اءو الصلة ؟ الـرمـاد هو المادة المتبقية بعد الاحتراق . و مجرد كونه مادة محترقة يفقد هويته الاصلية . لكن بما اءن هـذه الـمـادة مـن الممكن اءن ينتفع الاخرون بها في موارد خاصة ,حينئذ فان تلاشيها من خلال بعثرة الهواء لها مثلا يفقدها هذا الانتفاع البسيط. و حتى في هذا النطاق اءي بـعـثرة الهواء العادي له من الممكن اءن تبقى للرماد بقية . لذلك فان تعرضه للريح الشديدة يجعل امـكانية الاحتفاظ له ببقية ما اءمرا له صعوبته . و لكن من الممكن اءيضا اءن تكون الريح الشديدة التي تعرض لها الرماد عابرة غير مستمرة , و عندئذ من المحتمل اءن تسلم بقية منه بشكل من الاشكال , و لـذلـك اذا كانت الريح مستمرة الهبوب ,كما لو حدث ذلك فى يوم عاصف عرف باستمرارية العصف فيه , حينئذ فان استمرارية العصف تتكفل بازالة الرماد اءساسا و ببعثرته بنحو لا تبقى له بقية اءبدا.
اذن : جاء هذا التشبيه لعمل الكافر بالرماد اءولا, و بكونه قد اشتدت الريح به ثانيا,وبكونه في يوم عاصف ثالثا : هذا التشبيه جاء يحمل مسوغاته الفنية الضخمة عبرتفصيلاته التي اءشرنا اليها, و الا كـان مـن الممكن اءن يكتفي التشبيه بمجرد المادة الرمادية دون هذه التفصيلات . لكن بما اءن النص يـسـتهدف توضيح الحقيقة القائلة باءن عمل الكافرلا ينتفع صاحبه به باءي وجه من وجوه الانتفاع , حينئذ فان التفصيلات المشار اليهاجاءت تحمل مسوغاتها و دلالاتها الفنية الممتعة , كما لحظت .
هـذا كـله في صعيد المفردات التي انتظمت المشبه به , اءي عبارة : كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف .
و اءمـا تعليق النص على هذه الصورة بقوله تعالى (لا يقدرون مما كسبوا على شي ء),ثم تعقيبه الذي خـتم به الاية الكريمة , و نعني به قوله تعالى ((ذلك هو الضلال البعيد))فينطوي كل واحد منهما على سمة فنية تعمق من الدلالة التي اءشرنا اليها.
انك لتجد اءنه من الممكن اءن يقول النص مثلا : ان مثل الذين كفروا بربهم من حيث كونهم لا يقدرون مما كسبوا على شي ء من اءعمالهم مثل رماد... الخ , و لكنه قد احتفظبعبارة ((لا يقدرون مما كسبوا على شي ء)) ليعقب به على صورة الرماد الذي اشتدت الريح به ... الخ . ترى ما هو السر الفني في ذلك ؟ فـي تـصـورنـا, اءن هـذا التعقيب قد اقترن بمهمة عضوية بالغة الاهمية هي اءن النص بمااءنه قد اسـتـهـدف قضيتين , احداهما : بطلان عمل الكافر و الاخرى عدم الانتفاع به مطلقا,حينئذ جاءت الـفـقـرة الاولى (مجملة ) لا تشير الى اءكثر من القول الى اءن عمل الكافر على نحو الاجمال هو:
كرماد... الخ .
لكن عندما تكفل التشبيه بهذا التفصيل للرماد, و بكونه قد اشتدت الريح ببعثرته ,ويكون حدوث ذلك فـي يـوم عـاصـف , حينئذ جاءت المسوغات للتعقيب عليه بعبارة (لايقدرون مما كسبوا على شي ء) واضحة .
فـالكافر من الممكن اءن يخيل اليه اءنه سوف ينتفع بما كسبه من الاعمال باءحدالوجوه , و لكي يردم مـثل هذا التخيل المخطى ء, حينئذ فان التعقيب على ذلك باءنه لا يقدرمما كسب على شي ء, كفيل باءن يـجعل الكفار يائسين تماما من الانتفاع بعملهم . من هنا,تجد اءن النص لم يكتف بهذا التعقيب , بل ختمه بـعـبـارة تـتناسب تماما مع بعد التخيلات التي تصدر عن الكفار في توهمهم بامكانية الانتفاع بعملهم بوجه من الوجوه . هذه العبارة هي قوله تعالى (ذلك هو الضلال البعيد).
اذن : اءمكنك اءن تتبين جانبا من الاسرار الفنية لهذا النمط من التشبيه المفصل ,والطرائف الفنية التي واكبت صياغته , بالنحو الذي تقدم الحديث عنه .
قال تعالى : (اءلم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة اءصلها ثابت وفرعها في السماء # تـؤتـي اءكـلـهـا كل حين باذن ربها و يضرب اللّه الامثال للناس لعلهم يتذكرون # و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الارض مالها من قرار) ((105)) الـصـورة الـفـنية التي نحدثك عنها الان , و هي واحدة من الصور القرآنية المدهشة التي استوقفت الـبـاحـثـيـن , بما تنطوي عليه من الاسرار الجمالية الممتعة , و بما تثيره من دلالات و استحياءات متنوعة , و بما تحفل به من طرافة و عمق و جدة .
ان اءول مـا يـسـتوقفك منها هو كونها قد استندت الى ظاهرة (المثل ), و هو ظاهرة قرآنية طالما يـستخدمها القرآن الكريم بمثابة (اءداة فنية ) في توضيح الحقائق . و لعلك تعرف تماما باءن (المثل ) هـو اءداة (تـشـبـيـه ) ذات طـابع (توكيدى ), فقوله تعالى في الصورة المتقدمة (مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ) كان من الممكن اءن لا تتصدرها عبارة (مثل ),كما لو كانت على هذا النحو (الكلمة الـخـبـيـثـة كالشجرة الخبيثة ) فتكون تشبيها ماءلوفا, الااءن النص خلع طابع (التوكيد) على هذا الجانب , فصدرها بعبارة (مثل ) لتكون اءشدتوضيحاوجلاء في الاذهان .
لـيـس هـذا فحسب , بل ان ك لتجد اءن النص القرآني الكريم قدم عبارة توضيحة شارحة هي قوله تـعـالى (اءلم تر كيف ضرب اللّه مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة ) فيكون النص القرآني الكريم قد قـدم بهذا الشرح مزيدا من الوضوح الذي يستهدف تحقيقه لدى المتلقي . انه يخاطب المتلقي قائلا بما معناه : اليك هذا المثل الذي ساءقدمه , لتبين دلالته بعمق : ((ان الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ...الخ .
و الان , اذا تـجـاوزنا هذا الجانب و اتجهنا الى المثل نفسه وجدناه ينطوي على اءسرارمتنوعة من الجمال . انه اءولا يتحدث عن الكلمة , و يقوم بعملية (تقابل ) اءو (تضاد) بين نمطين من الكلمة . ثانيا:
اءمـا (الـكـلـمة ) التي يتحدث عنها فتقترن بطابع صوري هو (الرمز),اءي اءن النص و هو يعتمد عنصر التشبيه في توضيح الحقائق قد اعتمد عنصرا صوريا آخرفي هذا التوضيح و هو الرمز.
و هـذا الـنـمط من الاستخدام الفني له جماليته الفائقة دون اءدنى شك . انك ترى اءن النص يريد اءن يـوضـح فـاعـلـية و اءهمية (الكلمة ), و لذلك اتجه الى عنصر (التشبيه )ليوضح تلكم الفاعلية و الاهمية . و لكن الملاحظ هو اءن نفس الظاهرة التي يستهدف توضيحها بواسطة (التشبيه ) و هي (الكلمة ) تظل ذاتها عنصرا صوريا يستخدم اءداة لتوضيح الحقائق اءلا و هو الرمز.
فـعـبـارة (الـنـور) اءو (الظلمات ) مثلا هما (رمز) يستخدم لتوضيح الحقائق , حيث يشيرهذان الرمزان الى الايمان و الكفر مثلا, و كذلك عبارة (الكلمة ), فهي (رمز) يشير الى دلالات متنوعة , الا اءن الـذى نلاحظه هنا هو اءن هذا الرمز (الكلمة ) قد اءصبح مادة لاداة اءخرى هي (التشبيه ), حـيـث شـبه (الكلمة ) ب (الشجرة ), في حين اءن الكلمة ذاتها, هي عنصرصوري يستخدم لتوضيح الحقائق . و هنا اءصبح هذا العنصر مادة لاداة اءخرى هي التشبيه ,بحيث تم استخدامه وسيلة وغاية فى آن واحد, و هذا هو موضع السر الفني الذي نعتزم دراسته في حديثنا و اياك .
و الان : اذا اءدركـنـا هـذا الـجـانـب مـن الاستخدام الفني لكل من الرمز و التشبيه :(الكلمة ) و (الشجرة ), نبداء حينئذ بالوقوف عند هاتين الصورتين .
ان الـمـتـلـقـي لـيتساءل قائلا : ما هو المقصود من عبارة (كلمة طيبة ), و هي العبارة التي شبهها ب (الـشجرة الطيبة ) ؟ اذا كان المقصود من (الكلمة ) هي مجرد الكلام الطيب الذي يعني اءن يتحدث الانـسـان فـي لـقائه مع الاخرين , بلغة اءخلاقية ذات لين و محبة ,حينئذنكون اءمام صورة مباشرة حـقيقية , و ليس اءمام صورة رمزية . الا اءن الملاحظ هواءننا نواجه هنا (رمزا) جعل كثيرا من المعنيين بشؤون التفسير, يتفاوتون في تحديد الدلالة المقصورة من عبارة (كلمة طيبة ), مما يجعلها كما كررنا صورة رمزية و ليست حقيقية .ولذلك , نتساءل : ما هو المقصود من هذا الامر؟ بعض النصوص المفسرة تقول باءن المقصود فيها كلمة التوحيد. و يشير بعضها الى اءن المقصود منها هو مطلق الكلام المرتبط بمفهوم (الطاعة ) للّه تعالى .
اءمـا تـشـبيه الكلمة الطى بة ب(الشجرة الطيبة ) فيجرنا الى ملاحظة فنية اءخرى هي اءنه اذاكان الـتشبيه يستخدم لتوضيح الحقائق , حينئذ نتوقع اءن يكون هذا العنصر مجرد (اءداة )للتوضيح . الا اءن الـملاحظ اءن هذه الاداة ذاتها, اءصبحت (غاية ) في الان ذاته بحيث تحولت بدورها الى عنصر صوري هو (الرمز) اءيضا.
فكما اءن عبارة (كلمة طيبة ) و هي الطرف الاول من التشبيه قـد اءصـبحت صورة في حد ذاتها بحيث تحتاج الى طرفين , كذلك اءصبح الطرف الاخر من التشبيه (و هـوالـشـجـرة الـطـيـبـة ), اءصـبح صورة في حد ذاتها بحيث تحتاج الى طرفين , طرف هو الـشـجـرة الـتي ترمز الى شي ء, و طرف هو الشي ء الذي يرمز اليه . فكما اءن عبارة (النور) التي تـرمـزالـى (الايـمـان ) تـتـضـمـن طـرفـيـن هـما: الايمان و تشبيهه بالنور, كذلك فان عبارة (الشجرة )تتضمن طرفين هما : الشجرة ثم ما ترمز اليه من الدلالات .
اذن نـحـن الان اءمـام عـبـارتين اءو تركيبين يحملان مهمة فنية مزدوجة تعد من اءبرزالظواهر الاعـجازية في التعبير القرآني الكريم . هاتان العبارتان اءو التركيبان , كل واحدمنهما هو (اءداة ) و (غـايـة ) فـي آن واحـد, و لـكنهما فى مجموعها صورة واحدة قداستخدم اءولهما بمثابة اءداة , و استخدم الاخر بمثابة (غاية ), من حيث ان (الكلمة الطيبة ) وهي ((غاية )) شبهت بالشجرة الطيبة و هي اءداة .
لـكـن : لندع الان هذه التركيبة الاعجازية المدهشة , و نواصل حديثنا عن (الرموز)التي انطوت عليها هاتان العبارتان اءو الصورتان : الكلمة و الشجرة . اءما الكلمة فقدحدثناك عنها, و اءما الشجرة فـان الـنـصـوص التفسيرية تتفاوت اءيضا في تحديد المقصودمنها. هل اءن المقصود منها هو مطلق الشجرة ؟ اءو اءنها شجرة خاصة كالنخلة مثلا اءو شجرة من اءشجار الجنة ؟ اذا كان المقصود منها هـو هـذا النمط من الشجر الخاص , فحينئذ نكون اءمام عبارة مباشرة اءو حقيقية . لكن اذا انسقنا مع الـمفسرين , حينئذ نكون اءمام (رمز) اءيضا,حيث يشير اءهل البيت (ع ) الى اءن الشجرة هي رسول اللّه (ص ) و اءن عـليا(ع ) و فاطمة (س ) و ذريتهما والمؤمنين المحبين للرسول و اءهل بيته (ع ) يجسدون فروعها و عناصرهاوثمارها واءغصانها و اءوراقها.
طبيعيا, ان ما يميز النصوص القرآنية الكريمة هو اءنها في اءمثلة هذه الصور يـتـزرفـيـهـا كـل مـن الـتـعـبير المباشر و غير المباشر اءو التعبير الحقيقي و المجازي , اءو المطلق والخاص , اءو القاعدة و تطبيقاتها, بحيث يصح القول مثلا باءن المقصود من الشجرة هومطلق الشجرة , و في الان ذاته هو : الرسول (ص ) و اءهل البيت (ع ) و الموالون .
الـمـهـم اءن تـرشـح الـعبارة المذكورة باءمثلة هذه الدلالات المتنوعة , هو الذي يكسبهاطابع الفن الـمـعـجـز, و مـن ثم يجعلها ذات مهمة مزدوجة (من حيث التعبير الجمالي )بنحويمكن اءن نعدها عـبـارات مـباشرة تحمل معناها اللغوي و الحرفي و عبارات غيرمباشرة تحمل دلالاتها الرمزية بالنحو الذي اءوضحناه .
لـكننا بعد : لم نحدثك عن الاسرار الفنية لهاتين العبارتين (الكلمة الطيبة ) و (الشجرة الطيبة ) من حيث كونهما صورا تشبيهية و رمزية تشع بدلالات محددة يستهدفهاالنص القرآني الكريم .
عـنـدمـا تـدق ق النظر في هذين التشبيهين (كلمة طيبة كشجرة طيبة ) و (كلمة خبيثة كشجرة خـبـيـثـة ), تـجد اءنهما ينتسبان الى ما يمكن تسميته ب (الصورة التفصيلية ), حيث لايكتفي النص القرآني الكريم بايجاد العلاقة العابرة بين الكلمة الطيبة و الشجرة الطيبة اءوبين الكلمة الخبيثة و الشجرة الخبيثة , بل يفصل الكلام في اءوجه الشبه بين الاطراف التي تنتظم التشبيهين .
فالنسبة الى التشبيه الاول (كلمة طيبة كشجرة طيبة ) يتقدم النص القرآني الكريم بتفصيل الحديث عـن (المشبه به ), فيحدثك عن (اءصل ) الشجرة و (فرعها), و يحدثك عن موسم ثمرها, فيقول :
(اءصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي اءكلها كل حين باذن ربها).
و بالنسبة الى التشبيه الاخر, يحدثك عن اصلها, مشيرا الى اجتثائها من فوق الارض , و عدم وجود قرار لها. و هذا التفصيل الذي لحظته لم يكن بطبيعة الحال مجردعملية وصفية لغرض الامتاع , بل ينطوي دون اءدنى شك عـلـى اءسـرار فـنـيـة يتطلبهاالموقف الذي استدعى اءمثلة هذين التشبيهين . و السؤال هو ما هي الاسرار الفنية لهذاالتفصيل ؟ لقد شبه النص القرآني الكريم كما لحظت الايمان اءو التوحيد اءو الطاعة , شبه ذلك بالشجرة الطيبة , ثم ذكر اءن هذه الشجرة اءصلها ثابت و فـرعـها في السماء و اءنها تؤتي اءكلهاكل حين باذن ربها. و لعلك تقول : ان تشبيه الايمان بالشجرة الـطـيبة , من الممكن اءن يكتفى منه مثلا بذكر ثمرها و هو الثواب اءو المعطيات التي يحصل عليها الانـسـان نـتـيـجة ايمانه باللّه تعالى . و لكننا نجيبك على ذلك قائلين : ان الهدف الفكري للتشبيه لا ينحصرفي مجرد المعطى الدنيوى اءوالاخروى للايمان و على معطياته .
و لذلك جاءت التفصيلات التي لحظتها بالنسبة الى كون الشجرة ذات (اءصل ) في الارض و (فرع ) فـي الـسماء, و اءن اءكلها ينتفع به كل حين باذن اللّه تعالى . هذه التفصيلات لابد اءن تقترن بدلالات مـتـنوعة اذا اءخذنا بنظر الاعتبار اءن النص القرآني الكريم يتميز عن النصوص الادبية البشرية بكونه لا يصوغ عبارة فنية الا و تكون ذات دلالة مقصودة , و اءنه تعالى منزه عن الكلام الزائد على الحاجة . و حينئذ لابد من التساءل عما تتضمنه هذه التفصيلات من دلالة .
انـنـا لـو انسقنا مع التفسير العام لهذا التشبيه , اءي طببيعة الشجرة العادية التي تنبت في الارض و تضرب بجذورها في الارض , و تثبت تبعا لذلك في الارض , ثم تتعالى بفروعهاالى الفضاء اءو الى ما عبر عنه النص الكريم (السماء), حيث يجي ء هذا التعبيرمقابلاللارض و ليس السماء التي لا سبيل الى وصول الايتاء اليها.
اءقـول : لـو انـسقنا مع هذا التفسير, لوجدنا اءن لهذه التفصيلات جملة من المعطيات المترتبة على الايمان باللّه تعالى .
ان الـنص لو اكتفى مثلا بتشبيه الايمان بالشجرة المثمرة لكان العطاء الذي يحصل له عطاء محدودا فـي نـطـاق الاشباع للحاجات البيولوجية , و هو الشبع الذي يزيح التوترالعضلي للمعدة اءو الشبع الـمـتـرف الـذي يـزيد من امتاع الشخص في تناوله للفواكه مثلا.واءما حاجاته الاخرى , بخاصة الـحـاجـات الـنـفسية كالحاجة الى الحياة و الحاجة الى الامن و الحاجة الى التقدير الاجتماعي , و الحاجة الى الانتماء الاجتماعي , و الحاجة الى معرفة الحقائق , كل هذه الحاجات تظل غير مشبعة , و هو اءمر لا يحقق التوازن النفسي للشخص اذا كان الاشباع منحصرا في الحاجة الى الطعام .
لـذلـك فان اءهمية هذه التفصيلات التي لحظتها في التشبيه المتقدم , مثل كون الشجرة ذات (اءصل ) هو (ثابت ) في الارض , و ذات (فرع ) هو متصاعد الى السماء, و ذات (ثمر),هو يتاءتى في جميع الاوقـات اءو بـعضها, و كون ذلك جميعا باذن اللّه تعالى و ليس باذن غيره . هذه التفصيلات لابد اءن تـتـضـمن دلالات متنوعة ترتبط باشباع مختلف الحاجات الجسمية و النفسية و العقلية حتى يتاءتى للانسان اءن يحقق توازنه المطلوب في جميع الصعد.
و الان : لنحاول الوقوف عند بعض النظرات التي قدمها المعنيون بشؤون التفسير,مشفوعة بتذوقنا الفني لهذه التفصيلات .
النصوص المفسرة , اءشارت مثلا الى اءن ((الايمان )) قد شبه باءحد اءنواع الشجر و هوالنخلة , و شـبه (ثبات الايمان ) و شبه علمه اءو معرفته بالفروع التي تحصل من الشجرة فتتعالى الى فوق , و كـذلـك تتعالى و تتنامى معرفته و علمه , و شبه ما يحصل عليه من ثواب الايمان في الدنيا و الاخرة بـثـمر النخلة التي تؤتي اءكلها كل حين , حيث يمكن اءن نستخلص من الحين اءو الوقت باءن المؤمن سـوف يـحصل على اشباع حاجاته . اما في الاوقات جميعا, اءو في موسم الحصاد, اءو نستخلص من الحين اءو الوقت الدلالة الزمنية لكل من الحياة الدنيا و الاخرة , بحيث يفيد المؤمن من ايمانه دنيويا و اءخـرويـا. اءمـادنـيـويافلانه يستمتع بالثمار التي يحصل عليها في معيشته , و اءما اءخرويا فلانه يستمتع بمايحصل عليه من الثواب في حياته الاخروية .
اذن : لو انسقت مع اءمثلة هذا التفسير, لوجدت اءن العطاء المترتب على الايمان لاينحصر في مجرد الـحـصول على الثواب الاخروي اءو الاشباع الدنيوي , بل يتجاوزه الى اشباع الحاجات الاخرى :
جسيما و نفسيا و عقليا, دنيويا و اءخرويا. فالمعرفة اءو العلم يظل كما اءشرنا واحـدا مـن الـدوافع التي لا سبيل الى اغفالها بالنسبة الى تركيبة البشر,حيث اننا جميعا نتطلع الى معرفة الحقائق و استكناه اءسرارها, و هذا ما يتجسد مثلا في تشبيه (الفرع ) للشجرة حيث لحظنا باءن ارتفاع المعرفة يظل على صلة بارتفاع الشجرة .
و اذا تـجاوزنا هذه الحاجة (العقلية ) و اتجهنا الى الحاجات النفسية , للحظناباءن تشبيه الايمان (في نـبـاتـه ) بثبات الشجرة في الارض , يجسد واحدا من اءهم الحاجات النفسية اءلا و هي الحاجة الى الامـن , حيث يذكر المفسرون باءن هذا الثبات له صلة بماتوضحه الايات اللاحقة لهذا التشبيه , مثل قوله تعالى (يثبت اللّه الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الاخرة .) ((106)) فهذه الاية الكريمة تلقي بانارتها على الموقف , وتفسر لنا كيف اءن الايمان الثابت ينتفع به الشخص حيث يمكنه اللّه تـعـالـى فـي الدنيا بالنصراءو الفتح مثلا, و حيث يمكنه اللّه تعالى في الاخرة بحيث يثبت على الصراط مثلا اءو يثبت على اءيمانه عند مساءلة القبر... الخ .
اذن : هـذه الـحـاجـات الـنفسية , مضافا الى الحاجات العقلية التي اءشرنا اليها, فضلا عن الحاجات الـجسمية المرتبطة بالثمر... اءولئك جميعا تفسر لنا كيف اءن لهذه التفصيلات صلة باشباع الحاجات الـمـختلفة للانسان , جسميا و عقليا و نفسيا, دنيويا و اءخرويا, مماتكشف مثل هذه التفصيلات عن جانب من الاسرار الفنية التي تكمن في التشبيه المتقدم ,بالنحو الذي اءوضحناه .
قـال تـعالى : (و لا تحسبن اللّه غافلا عما يعمل الظالمون انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار # مهطعين مقنعي رؤسهم لا يرتد اليهم طرفهم و اءفئدتهم هواء) ((107)) نواجه في النص المتقدم مجموعة صور (رمزية ) و (تمثيلية ). هذه الصور صيغت في سياق الحديث عن اليوم الاخر و ما تواكبه من الاهوال , و ما تستتلي هذه الاهواء من الاستجابات وردود الفعل التي تصور عن المنحرفين .
انـها ترسم لنا ملامح اءولئك المنحرفين , ملامحهم الخارجية و الداخلية , ترسم رؤوسهم و ترسم عيونهم و ترسم قلوبهم .
و اليك ملامحهم المرسومة على هذا النحو :
الابـصار شاخصة , و لا ترتد اليهم . الرؤوس ممتدة الى فوق , و معها الاعناق الممتدة بطبيعة الحال .
اءما الافئدة فهي ((هواء)),... انها مجوفة .
هذه هي الملامح على نحو الاجمال . لكن : لنحدثك عنها على نحو التفصيل .
العيون شاخصة لا تتحرك و لا يغمض لها جفن . انها تتجه بالنظر الى فوق , و نظرهايظل ممتدا, لا يرتد الى اءصحابهم , لا يرجع اليهم .
و اءما رؤوسهم , فترتفع الى فوق , حتى اءن الرجل كما يقول المفسرون لا يرى مكان قدمه , نظرا لارتفاع الراءس بنحو ملفت .
و اءما اءفئدتهم فخالية , انها هواء متردد بين السماء و الارض , انها قد انخلعت من مواقعها لتصعد الى الغلاف , فلا تخرج و لا تعود.
هذه الملامح , كيف رسمها النص ؟ ما هي الصور التي اعتمدها في الرسم ؟ ما هوالتفسير الفني لها؟ هذا ما نحاول الاجابة عنه .
ولنقف بك عند الصورة الاولى ((انما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الابصار)). شخوص البصر يعني اتجاه النظر الى شي ء دون اءن تطرف العين . و هذا الملمح الخارجي يظل كماهو واضح مرتبطا بما هو ملمح داخلي , اءي : بالحالة النفسية التي يحياها الشاخص ببصره .و لابد اءن تكون الحالة المذكورة في اءشد توتراتها و تمزقاتها و انسحاقاتها, لان الموقف الذي يواجهه , بما يواكبه من الاهوال , يستلزم مثل هذه الملامح (شخوص البصر), حيث تش ل فاعلية الشخص و يفقد توازنه تماما, منعكسا ذلك على ملامحه الفزيقية المشاراليها.
و هذا فيما يتصل باحدى الحالات التي تغمر الموقف .
انه شخوص البصر بنحو عام .
بيد اءن النص كما تلاحظ قد فصل رسمه للملامح المذكورة مضيفا اليها ملامح حركية اءخرى , منها : كون هؤلاء المنحرفين (مـهـطـعين ), ثم كونهم (مقنعي رؤوسهم ),ثم كونهم (لا يرتد اليهم طرفهم ) ثم كونهم (اءفئدتهم هواء).
هذه السمات الاربع مضافا الى السمة الرئيسة : شخوص البصر حينما يركز عليهاالنص , فلانها ذات دلالة خاصة من حيث تنوع الاهوال التي يواجهها المنحرفون .
و لـو دققت النظر في السمة الاولى (مهطعين ), وجدت باءن هذه السمة تحتمل عدة دلالات , منها :
الاسـراع الـى الـشي ء, لكن مع اقترانه بالخوف , و منها : النظر الى الشي ءبخضوع , و منها : النظر الـشـاخـص . و اءنـت لو انسقت مع اءية دلالة من هذه الدلالات الثلاث اءمكنك اءن تلحظ جماليتها و اتـسـاقـها مع طبيعة الموقف . فالاسراع يعني اءن المنحرف ينقادمسرعا الى عرصة القيامة انتظارا لـمـحاسبته , و قد ورد مثل هذا المعنى بوضوح في سورة اءخرى جاء فيها قوله تعالى (مهطعين الى الداعي ...) ((108)) و اءمـا لـو انسقت مع الدلالة القائلة باءن الهطوع يعني النظر الى الشي ء بخضوع , فيتسق مع الموقف يعني النظر الى الشي ء بخضوع , فيتسق مع الموقف , كما هو واضح , حيث اءن الذل اءو الخضوع يظل سمة رئيسة تطبع المنحرفين . و اءما لو انسقت مع الدلالة القائلة باءن الهطوع يعني شخوص البصر, فاءمر ياءتلف مع السمة الرئيسة التي لحظتها في الاية السابقة ((ليوم تشخص فيه الابصار)). و لا شك اءن ترشح الصورة بهذه الامكانات الايحائية المتنوعة انما يهبها مزيدا من الجمالية و من الامتاع .
و نـتجه بك الى الصورة الثانية (مقنعي رؤوسهم ) فماذا نجد؟ ان سمة (مقنع ) هي :الرفع , اءي اءن الـمـنحرفين يرفعون رؤوسهم . و كما اءشرنا اءن بعض النصوص المفسرة تقول :ان رفع الراءس يـبـلـغ درجـة لا يرى الرجل من خلالها موقع قدمه . الا اءن السؤال هو اءن نتبين دلالة هذه السمة الـفـيزيقية , من حيث كونها انعكاسا للاعماق , فماذا تعني اذن ؟ هل تعني اءن رفع الرؤوس هو اءنها تـشـرئب باحثة عن المخلص و المنقذ مثلا ؟ اءم اءن طبيعة الموقف لاتسمح لها الا بالتململ بحيث تضطر الى اءن ترفع رؤوسها مثلا ؟ و نتقدم الى السمة الثالثة ((لا يرتد اليهم طرفهم )) هذه السمة تعني اءن المنحرفين لاترجع اليهم اءعـيـنـهم . لكن سبق اءن راءينا اءن قوله تعالى ((تشخص منه الابصار)), و قوله تعالى (مهطعين ) يعنيان تثبيت النظر, بحيث لا تطرف العين . فهل اءن قوله تعالى (لا يرتد اليهم طرفهم ) يحمل الدلالة ذاتها؟ ان مـا يميز النصوص القرآنية الكريمة هو اءن استخدامها للعبارة يظل من الدقة بمكان كبير, بحيث لا مـكـان لـلـتـرادف اءو الـحشو فيها مما يحملنا على اءن نتبين دلالة خاصة بعبارة (لا يرتد اليهم طرفهم ).
و فـي تصورنا, اءن هذه العبارة تظل متممة للعبارة اءو الصورة السابقة (مقنعى رؤوسهم ), اءي اءن المنحرفين و هم يرفعون رؤوسهم بنحو ملفت انما يستمرون في عملية الرفع المذكورة , دون اءن يـسـمـح لـهـم الموقف بارجاع ابصارهم الى ذواتهم , اءي اءنهم يجسدون صفة استمرارية لحالتهم المذكورة تعبيرا عن استمرارية الصراع و التمزق والخوف ... الخ .
اخيرا, تواجهك صورة و تمثيلية , و هي قوله تعالى (و اءفئدتهم هواء). و لعلك لاحظت باءن الصور الاربـع الـمـتـقدمة (شخوص البصر) (الهطوع )(رفع الراءس )(عدم ارتدادالعيون ) انما صيغت (رموزا) اءو استعارات . بينا جاءت الصورة الاخيرة (تمثيلا). فما هوسر ذلك ؟ نحتمل فنيا باءن الصورة الاخيرة بما اءنها ذات طابع استقلالي متميز عن الصورالسابقة , حينئذ فان لـتـمـيـزها المذكور صلة بتميزها الصوري , بحيث جاءت (صورة تمثيلية ) و ليست (رمزية ) اءو (استعارية ).
و يـمـكنك ملاحظة ذلك بوضوح حينما تمعن نظرك في هذه الصورة (و اءفئدتهم هواء)لترى باءن الـفـؤاد هو عضو داخلى بعكس الاعين و الرؤوس . فاذا كانت الرؤوس و الاعين مظاهر خارجية تـعبر عما هو داخلي من الحالات و الاخطار... الخ , فان المناسب لها اءن تصاغ (رموزا) لتشير الى دلالة داخلية .
اءمـا (الـفـؤاد) بـصفته عضوا داخل البدن فلا يمكن اءن تنعكس عليه الحالات النفسية اءوالبدنية بـصورة (مرئية ) بالنسبة الى المشاهد, و لذلك لا مجال لصياغته صورة رمزية , بل لابد من صياغته وفـق صـور اءخرى , و منها (الصورة التمثيلية ), لان (التمثيل ) هو رصدالعلاقة بين شيئين , يظل اءحـدهـمـا تـجـسيدا و تمثيلا للاخر, فقوله تعالى (و اءفئدتهم هواء)انما هو رصد للعلاقة بين (الافئدة ) (الهواء), بحيث تظل عبارة (الهواء) بمثابة تجسيدوتمثيل و تعريف لعبارة (الافئدة ).
اذن : مـن حيث المسوغ الفني لصياغة هذه الصورة (تمثيليا), و صياغة الصورالسابقة (رمزيا) قد اتضحت اءمامك بجلاء مما يكشف عن جانب من الاسرار الفنية لصياغة الصور. الا اءن المهم الان هو اءن نـتـبـيـن دلالـة الـصورة (و اءفئدتهم هواء) و علاقتهاباءهوال يوم القيامة , و انعكاساتها على المنحرفين .
الـنصوص المفسرة تتفاوت في تحديد الدلالات التي ترشح بها هذه الصورة , بعضهايقول : يقصد من ذلك اءنها (مجوفة ) خالية من الاحساسات الطبيعية , نظرا للهول الذي تواجهه .
بعضها يقول : انها (خالية ) من الامل في الخلاص . بعضها يقول : انها قد ارتفعت الى حناجرهم من شدة الهول لا تخرج و لا تعود فتكون كالهواء المتردد هنا و هناك ... الخ .
و في تصورنا اءن الصورة التمثيلية المذكورة مرشحة لكل الدلالات التي اءشرنا اليها,مادامت محملة بـعـناصر ايحائية قد استهدفها النص , حيث نكرر باءن جمالية الصورة تتمثل في كونها تحفل بقابلية تفسيرية تتناسب مع الاختلافات التي تطبع المتلقين , حسب تفاوت خبراتهم في عملية التذوق الفني .
و الـمـهم بعد ذلك اءن تجي ء هذه الصورة متجانسة مع الصورة السابقة في تعبيرها عن الاهوال التي تواجه المنحرفين يوم القيامة .

سورة النحل

قـال تـعـالى : (قد مكر الذين من قبلهم فاتى اللّه بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم و اءتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ) ((109)) .
هـذه الايـة تتحدث عن المنحرفين , عن المشركين , عن المكذبين باليوم الاخر. و اذادققت النظر فيها لحظت اءنها ترسم صورة حسية مستقاة من بيئة صناعية , هي العمارة اءوالبنيان .
و لا شـك اءنـك تلاحظ باءن تهديم هذه العمارة اءو البنيان انما يتم من قبل اللّه تعالى حيث قال النص (فـاءتـى اللّه بـنيانهم من القواعد). و نحن اذ نلفت نظرك الى هذه الملاحظة ,انما نستهدف من ذلك تـحديد وجهة نظرنا الفنية اءو التفسيرية قبالة ما ستراه من التفاوت بين وجهات النظر التفسيرية , التي تتردد في الذهاب الى اءن صورة البنيان المتهدم هل هي صورة (واقعية ) اءم (تركيبية ) اءي مجازية , حسب المصطلح البلاغي الموروث حيث يترتب على هذا الفارق بينهما, اءن تكون اما حيال تعبير (صوري ) اءو حيال تعبير (اخباري اءو تقريري )؟ و مـع كوننا اءمام صورة واقعية حينئذ لا نجد مسوغا لتناول الصورة مادمنا نحصرحديثنا في صعيد الصورة التركيبية اءو المجازية فحسب . و لكي يتضح لك الموقف بجلاءيحسن بنا اءن نعرض اءولا للسياق الذى وردت الصورة المذكورة فيه .
السياق الذي وردت الصورة فيه هو اءن اللّه تعالى يتحدث عن سلوك المنحرفين المعاصرين لرسالة الاسـلام , حـيث ذكرهم النص بالماضين الذين سلكوا سلوكا مماثلا في الانحراف , و كيف اءن اللّه تـعالى قد اءتى بنيان الماضين من القواعد, فخر عليهم السقف من فوقهم , و اءتاهم العذاب من حيث لا يشعرون .
بـعـض النصوص المفسرة , يشير الى اءن المقصود من البنيان الذي هدمه اللّه تعالى , هوما بناه بخت نـصـر, اءو ما بناه نمرود من الصرح الذي خيل اليه اءنه يستطيع بواسطته اءن يصعد الى السماء و يـحـارب اءهلها. و بهذا يكون البنيان المشار اليه (حقيقة ) واقعية , و ليس صورة مجازية . بالمقابل , هناك من النصوص المفسرة ما يشير الى (مجازية ) هذه الصورة ,اءي : رمزيتها اءو استعاريتها.
اءما نحن فنميل الى ما سبق اءن حدثناك عنه , من اءن النصوص القرآنية الكريمة , تتميز في كثير منها بـكونها ذات بعد (ايحائي ) يرشح بدلالات متنوعة , بحيث يمكن القول باءن المتلقي قد يستخلص من الايـة الـمـتـقـدمـة باءن المقصود منها هو الاستعارة , و قديستخلص منها باءن المقصود هو واقعة حقيقية , و قد يستخلص كليهما, اءي : اءنه من الممكن اءن تكون هذه الصورة (استعارة ), و لكنها في الان ذاتـه تنطبق على واقع حدث بالنسبة الى نمرود و غيره , فتكون هذه الصورة حينئذ مباشرة و غير مباشرة في آن واحد.
و الان : اذا كان الامر كذلك , يحسن بنا اءن نعرض لك جمالية الصورة غير المباشرة ,اءي : الصورة الاستعارية اءو الرمزية و ما تنطوي عليه من الدلالات المستهدفة في النص .
الصورة كما هي واضحة اءمامك تـتضمن جانبين هما : تهديم البنيان من قواعده (فاءتى اللّه بنيانهم من القواعد), و وقوع السقف على بنيانه (فخر علهيم السقف من فوقهم ).
لـكـن قبل اءن نحدثك عن الدلالة الرمزية اءو الاستعارية لهذين الجانبين , ينبغي اءن نلفت نظرك الى اءن النص قد عقب على هذا التهديم للبنيان و السقف قائلا : (و اءتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ثم يوم القيامة يخزيهم ) و هذا يعنى بما لا غموض فيه بـاءن عـمـلـيـة تـهديم البناء انما هي جزاء دنيوي ,بقرينة ما ذكره النص من اءن اللّه تعالى يخزي الـمـنـحـرفـيـن يوم القيامة , مضافا لانزاله العذاب عليهم في الدنيا. و هذا مما يقوي الاحتمال باءن المقصود من البنيان المتهدم باءن يخزيهم اللّه تعالى اءخرويا.
يضاف الى ذلك اءن هذا التفصيل لعملية التهديم بخاصة فيما يتصل بوقوع (السقف )يقوي الاحتمال ان لم يجعل اليقين هو المؤكد بـواقـعـيـة هـذه الـصـورة , لان النص لو كان في صدد مجرد الاشارة الى اءن اللّه سوف ينتقم من المنحرفين , لكان بمقدور النص اءن يكتفى من ذلك باءن يقول : باءن اللّه قد اءتى على بنيان المنحرفين , و لـمـا كـانت هناك حاجة الى اءن يذكر وقوع (السقف ) عليهم , حيث اءنك ترى اءن ذكر السقف مع البنيان مؤشر الى كون عملية التهديم هي : عملية حقيقة و ليست رمزية لشى ء آخر.
لـكن من الممكن اءن يثار سؤال آخر هو اءن تهديم قواعد البناء كاف بدوره باءن يكون سببا في انزال العذاب عليهم و استئصالهم , و حينئذ لماذا اءضاف النص القرآني الى ذلك وقوع السقف ؟ النصوص المفسرة قدمت اجابة على السؤال المتقدم , الا اءننا نستهدف مما كررنا ذلك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق