الخميس، 27 مارس 2014

قراءة في قصيدة "ذنوب الموت" للشاعر تميم البرغوثي


قراءة في قصيدة "ذنوب الموت" للشاعر تميم البرغوثي


المقدّمة 
   قصيدة ذنوب الموت أو كما ترد حسب مطلعها دون عنوان كما القصيدة الجاهلية "قفي ساعة " من القصائد التي نالت حظاً من النشر الإعلاميّ، في الآونة الأخيرة، ونال قائلها د.تميم البرغوثي الشاعر الشاب حظوة واهتماماً إعلامياً أيضاً، رغم أن هذه القصيدة ذات طابع كلاسيكي إلا أن قوة الكلمات والمشاعر حققت لها صدى عند الجمهور العربي -الذي أضحى مفتوناً بموجات الشعر الحداثيّ- فهي تمس جرحاً غائراً في وجدانه، ولعلها إلى حد ما تعكس فكرة "نظرية المؤامرة" التي يؤمن بها كثير من العرب.
أثارت هذه القصيدة اهتمامي لدراستها ونقدها لبعض أبياتها المؤثرة، ولم أستطع حقاً أن أستند إلى أيّ مصدر أو مرجع سوى شبكة "الإنترنت" لشحّ الدراسات حول الشاعر أوفلنقل إنه لم تكتب حوله دراسات بعد، وحول قصائده أيضاً.



نص القصيدة
قفي ساعةً يفديكِ قَوْلي وقائِلُهْ
ولا تَخْذِلي مَنْ باتَ والدهرُ خاذِلُهْ
الا وانجديني إنني قلّ منجدي
بدمع كريم ما يخيب زائله
إذا ما عصاني كل شيءٍ أطاعني
ولم يجرِ في مجرى الزمان يباخله
بإحدى الرزايا أو الرزايا جميعها
كذلك يدعو غائب الحزن ماثله
إذا عجز الإنسان حتى عن البكى
فقد بات محسوداً على الموت نائله
وإنك بين اثنين فاختر ولا تكن
كمن أوقعته في الهلاك حبائله
فمن أمل يفنى ليسلم ربه
ومن أمل يبقى ليهلك آمله
فكن قاتل الآمال أو كن قتيلها
تسوى الردى يا صاحبي وبدائله
أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي
رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ
وإنَّ لَهُ كَفَّاً إذا ما أَرَاحَها
عَلَى جَبَلٍ ما قَامَ بالكَفِّ كَاهِلُهْ
يُقَلِّبُني رأساً على عَقِبٍ بها
كما أَمْسَكَتْ سَاقَ الوَلِيدِ قَوَابِلُهْ
وَيَحْمِلُني كالصَّقْرِ يَحْمِلُ صَيْدَهُ
وَيَعْلُو به فَوْقَ السَّحابِ يُطَاوِلُهْ
فإنْ فَرَّ مِنْ مِخْلابِهِ طاحَ هَالِكاً
وإن ظَلَّ في مِخْلابِهِ فَهْوَ آكِلُهْ
...
عَزَائي مِنَ الظُّلاَّمِ إنْ مِتُّ قَبْلَهُمْ
عُمُومُ المنايا مَا لها مَنْ تُجَامِلُهْ
إذا أَقْصَدَ الموتُ القَتِيلَ فإنَّهُ
كَذَلِكَ مَا يَنْجُو مِنَ الموْتِ قاتِلُهْ
فَنَحْنُ ذُنُوبُ الموتِ وَهْيَ كَثِيرَةٌ
وَهُمْ حَسَنَاتُ الموْتِ حِينَ تُسَائِلُهْ
يَقُومُ بها يَوْمَ الحِسابِ مُدَافِعاً
يَرُدُّ بها ذَمَّامَهُ وَيُجَادِلُهْ
وَلكنَّ قَتْلَىً في بلادي كريمةً
سَتُبْقِيهِ مَفْقُودَ الجَوابِ يحاوِلُهْ
...
ترى الطفلَ مِنْ تحت الجدارِ منادياً
أبي لا تَخَفْ والموتُ يَهْطُلُ وابِلُهْ
وَوَالِدُهُ رُعْبَاً يُشِيرُ بَكَفِّهِ
وَتَعْجَزُ عَنْ رَدِّ الرَّصَاصِ أَنَامِلُهْ
أَرَى اْبْنَ جَمَالٍ لم يُفِدْهُ جَمَالُهُ
وَمْنْذُ مَتَي تَحْمِي القَتِيلَ شَمَائِلُهْ
عَلَى نَشْرَةِ الأخْبارِ في كلِّ لَيْلَةٍ
نَرَى مَوْتَنَا تَعْلُو وَتَهْوِي مَعَاوِلُهْ
أَرَى الموْتَ لا يَرْضَى سِوانا فَرِيْسَة ً
كَأَنَّا لَعَمْرِي أَهْلُهُ وَقَبَائِلُهْ
لَنَا يَنْسجُ الأَكْفَانَ في كُلِّ لَيْلَةٍ
لِخَمْسِينَ عَامَاً مَا تَكِلُّ مَغَازِلُهْ
...
وَقَتْلَى عَلَى شَطِّ العِرَاقِ كَأَنَّهُمْ
نُقُوشُ بِسَاطٍ دَقَّقَ الرَّسْمَ غَازِلُهْ
يُصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ يُوطَأُ بَعْدَها
وَيَحْرِفُ عُنْهُ عَيْنَهُ مُتَنَاوِلُهْ
إِذَا ما أَضَعْنَا شَامَها وَعِراقَها
فَتِلْكَ مِنَ البَيْتِ الحَرَامِ مَدَاخِلُهْ
أَرَى الدَّهْرَ لا يَرْضَى بِنَا حُلَفَاءَه
وَلَسْنَا مُطِيقِيهِ عَدُوَّاً نُصَاوِلُهْ
فَهَلْ ثَمَّ مِنْ جِيلٍ سَيُقْبِلُ أَوْ مَضَى
يُبَادِلُنَا أَعْمَارَنا وَنُبَادِلُهْ








































يفتتح البرغوثي قصيدته باستهلالة جاهلية، يحدث فيها محبوبته كما عادة الجاهليين في مخاطبة الرفيق أوالآخر المتخيل، يخاطبها يطلب منها الوقوف، يخاطبها برجاء (يفديك قولي وقائله) ويرجوها بأن لا تخذله، فقد خذله الدهر، وينتقل بين الضمائر بخفة وببراعة ضمن ما يسمى في علم البلاغة بالالتفات، يطلب منها بالدموع ويستنجد نصرته، فالدموع تجود ولا تبخل كما هو الدهر شحيح عليه بخيل .
ينتقل إلى الحكمة، ومعانٍ جديدة يضعها في قالب الحكمة (إذا عجز اللسان .. ) يضمن الشاعر رؤيته للحياة -كما هي حدّيَّة الجاهليين- بين خيارين فإما أن تقتل الأمل الذي فيك ، و إما يقتلك ...
أَنَا عَالِمٌ بالحُزْنِ مُنْذُ طُفُولَتي      رفيقي فما أُخْطِيهِ حينَ أُقَابِلُهْ
افتتاحية جديدة ينتقل بها الشاعر من خطاب الحكمة إلى الحديث الشخصي الذي يعكس رؤيته الشخصية ومرآته الذاتية في الحياة، فهو عالِم بالحزن منذ طفولته، وهنا ربما يشير إلى أصله فهو فلسطينيّ فهو يتحدث بلسان شعبه جميعاً، والموت والحزن له في فلسطين مُقام طويل، وكأنّ هذه المعرفة تحولت لرفقة ومعرفة عميقة، و يمزج الشاعر بين مفهومي الموت والحزن وكأنه يستخدمهما للمعنى ذاته، والدلالة ذاتها .
ينقل صورة للحزن ، فيشخصه، وكأن كفه أقوى من الجبل صلابة وعتوا وثقلاً ، ربما لم يكن موفقاً بهذا التشبيه، فهو يدرج على ألسنتنا بأن فلاناً حزن حزناً يهد الجبال ، فليس تصويراً مبتكراً، إلا أن الصورة التالية أكثر فنيّة و إبداعاً: فهو يرى نفسه أسير الحزن الذي يمسكه كما يمسك الصقر صيده فإن قدر عليه فهو هالك، وإن طاح منه فهو هالك أيضاً، علّه استطاع أن يكرر الثنائيات بصورة أوضح وأكثر إقناعاً وتأثيراً، ولكن إن كان الجاهليون يتحدثون عن وحدة البيت ويرون بأن المعنى أو الصورة من الأليق بها أن تتم ببيت واحد فنحن نرى أن هذه الصورة امتدت لثلاث أبيات ، و هو مما أضعف تأثيرها مما لو كانت مركزة في بيت واحد.
المقطع الثاني :
استئناف متناغم للفكرة، عزائي من الظلام ، تجري مجرى الحكمة، بأن مما يهون عليه ويعزّيه بأنه إن سبق الموت إليه وهو ( المظلوم ) فإن الموت لا يجامل أحداً ولن يفر من قبضته  الظالم أبداً، يكرر المعنى بقالب آخر، بأنه إذا قصد الموت مقتولاً فإن الموت لن يدع القاتل أيضاً، و يحسن تلخيص هذه الفكرة بمشهد جديد أكثر براعةً: هؤلاء القتلى البريئون هم ذنوب الموت إذ اغتالهم دون ذنب منهم، و القاتلون الظالمون هم حسنات اقترفها الموت إذ أراح منهم المظلومين المقهورين، ويوم الحساب -بالطبع ليس يوم الحساب كما في الإسلام-، بل هو ذلك اليوم الذي تنظر فيه الأمة إلى ماضيها و قتلاها، و صنيع الدهر بها، وكأنها حينها تستدعي الموت وتسائله عن أفعاله بأبنائها، وهو يدافع ويردّ أقوالهم وهناك ذمّام له وآخر مجادل، و هو يصطنع الأعذار والإجابات، وفي ختام قوي يصرح الشاعر بأن الموت لن يملك جواباً أودفاعاً حين يُذّكر بالقتلى الكرام الذين قضى عليهم، ووتيرة المشهد ترتفع إلى أن تصل في هذا البيت الذروة قمة الأسى والحزن الذي يريد أن يوصله الشاعر ، فحتى الموت لن يكون قادراً على تبرير هذه الآلام والنهايات التي حكم بها على هؤلاء الناس الطيبين الكرام البسطاء الذين لم يقاتلوا ولم يريدوا الحرب يوماً ( كما سيوضح تالياً في حديثه عن الطفل الدرة).
المقطع الثالث :
ويواصل تأكيد المعنى الذي أراده من قبل، ولكن هذه المرة من خلال مثال حيّ، اهتر له العالم بأسره، إنها صورة الشهيد الفلسطينيّ الطفل محمد الدرة .. يصوره ووالده وينتقل لحشد صور كثيرة للموت بعد أن سبق ووصفه بالإنسان المدافع عن نفسه وسلوكه أمام الذمّامين والمحاسبين، يصفه هنا بوابل المطر، والمطر منه ما يكون عذاباً وعقاباً، و يصفه بالبناء الذي يُبنى وتعلو وتهبط معاول بنائه في بلداننا العربية، ويصوره بالحيوان المفترس، الذي لا يرضى سوى العرب فريسة له، وهو نسّاج الأكفان لا تهدأ مغازله عن نسجها لنا ...
يتحدث الشاعر بضمير الـ "نا " العائد على الجماعة، و لم يجلّها الشاعر، وقد قصد بها الأمة العربية، و لربما أضمرها ولم يصرح بها ليخفف وطء الكلمة على النفوس، فقوله صراحة "للعرب ينسج الأكفان " قد تكون أكثر إيلاماً ..
و لكني أتعجب من قوله " خمسين عاماً " ، فللموت في ديارنا عمر أطول من الخمسين...! وأتعجب من جمعه بين شطري :"أرى الموت لا يرى سوانا فريسة" وشطر " كأنا لعمري أهله وقبائله"  فالحيوان يختار فريسته من خارج فصيلته وأهله، فكيف يختم بـ: كأنا لعمري أهله وقبائله ...!
المقطع الرابع :
صرّح هنا بذكر العراق، بلداً رزح تحت الاحتلال، وكثر به  الموت والقتل، يصف القتلى بأنهم مختلفون متنوعون مثل النقوش الدقيقة على ثنايا بساط يصلى عليه ثم يوطأ، وكأنه يكرم ويهان، كما هم أهل العراق كانوا في عزة ومنعة ثم ذلوا و هان أمرهم – أعاد الله عزهم وعزة الأمة- .
إذا ما أضعنا شامها ...
نجد أن الشاعر هنا قد صرح بوجه نظر سياسية مباشرة، بأن الشامَ و منها فلسطينُ والعراقَ، مداخل للبيت الحرام في إشارة إلى انهيار الأمة الإسلامية إذا أُسلمت الشام والعراق ، وبأن الحجاز صنوهما وشريكتهما في الموت، ولكنه لا يمهد لهذه الرؤية ولا يبررها ببيت سابق أولاحق، كما هو سائر طرحه في هذه القصيدة.
الدهر لا يرضى بنا حلفاءه ... لماذا ؟ لا يبرر الشاعر ...
ربما لم يحسن ختام القصيدة، فهو يقول : مادمنا لسنا حلفاء الدهر، ولا أعداءه، فلابد من مقايضة للأعمار بين الأجيال السابقة واللاحقة ، ولكنني أتساءل كيف لجيل انقضى أن يبادل عمره بعمرهم ؟!

ملامح نقدية في قصيدة "ذنوب الموت":
من أهم ما يشدّنا في قراءة القصيدة : وحدتها العضويّة المتماسكة ، فكل مقطع يطرح فكرة جديدة تمهد لما بعدها وتؤكد ما قبلها، فقد استهلّ الشاعرُ قصيدته بالحديث عن الحزن والموت، ووصفه بالعديد من الأوصاف ثم انتقل للحديث عن شهيد فلسطين، ثم عن العراق، ثم أعقبها بالحكمة التي نجد أن كل ما قبلها من الأبيات ممهدٌ لها، لذلك نجد أن النص متآلف النسيج، يطرح فكرة واحدة بصور عديدة وأساليب متنوعة.
ثنائية الشكل والمضمون :
نجد أن القصيدة زاخرة بالتشبيهات والصور المتراوحة بين الجدة والإبداع تارةً والتقليد والتكرار تارةً أخرى، وهي على ذلك قادرة على إيصال معانٍ مبتكرة مؤثرة في مضمونها، و إذا أخذنا معيار "ابن سلّام" في طبقاته إذ يصنف الشعر ضمن معياري اللفظ والمعنى جودةً ورداءةً، يمكنني الحكم على القصيدة بأنها مما جاد لفظه وجاد معناه.

هناك 3 تعليقات: