الأحد، 23 مارس 2014

الخصائص الفنية في شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه

الخصائص الفنية في شعر حسان بن ثابت
رضي الله عنه
توطئة:
لا يعدم المرء منا حجة للإعتقاد بأن العصر الإسلامى الذى كُرم فيه الإنسان وانتظم فيه العمران يعد من أخصب العصور التى غيرت مجرى الحياة فلقد زالت فيه وطائد الكفر وانجذمت أواصر الضلال وهلك فيه أصحاب المهج الخبيثة والمطامع الإنسان رخيصة الذين ساموا البشرية بخسف ومرغوا الإنسانية فى حمأة الهوان، عصر سار فيه الأوفياء الأبرار، والأولياء الأخيار فى شتى أصقاع الأرض وفى كل نواحي الكون المترامي الأطراف يدعون لكتاب فصيح المفردة بليغ التركيب أنزله الله عزوجل عن علم، وفصلّه عن إدراك، ولدين بالغ الأثر، قوى الإيحاء، يصون النفس عن الرزائل وخوارم المروءة، وينهاها عن الهوى الطاغى والإثم الجموح، حتى صار الإسلام كلمة تجترها الألسنة بقدسية وتتداولها القرائح بإجلال، وأصبح للعرب كرامة لا تمتهن وحمىً لا يستباح، بعد أن كانوا أقصر يداً، وأضيق باعاً، وأجبن قلباً ، من أن تجسر قبائلهم المبعثرة من غير رابط على محاربة كسرى وإن وهنت قواه أو هرقل وقد وهت عراه، ولعل هذا الدين الذي استرقى الدهماء وطغام الناس فى البدء يختلف عن بقية الأديان، فلم يصلب عوده وتنتشر بنوده بالسيف وحده، بل على القول الفصيح الذي يتنزه عن شوائب  مطبوع على جزالة الألفاظ وفخامة الأساليب،rاللبس ويخلو من أكدار الشبهات، فنبيه  وكتابه هو عُنوان البيان، وآية البراعة، وحماته هم مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، وفرسان الطراد الذين ذبوا عن حمى الدين وذادوا عنه بالمهج العظام، والتضحيات الجسام، وباللفظ المنتقي المطبوع على غرار الفصاحة. ومن ضمن فرسان الكلمة الذين لا يشق لهم غبار، شاعر فشا ذكره على الألسنة، وقرع صيته الأسماع، شاعر أطنب في تحقير المشركين، وأمعنّ في الزراية عليهم، بقصائده الشامخات التي جعلت من أصروا على غيهم، طواغيت قريش الذين عميت عليهم وجوه الرشد، واستبهمت عليهم معالم الهداية، يميدون من الغضب، ويتفجرون من الغيظ.
الفصل الأول:حياة حسان بن ثابت رضي الله عنه:
نسبه ونشأته:
حسان بن ثابت رضي الله عنه يعد من أجلّ الشعراء أثراً، وأعظمهم مكانة في الإسلام، وترجع أهميته لأنه نافح عن دين الله تعالى، وحثا التراب على رأس كل من كفر وتطاول على نبيه صلى الله عليه وسلم، "ومما اتّفقت عليه مصادر الأدب القديم أنّ الرسول صلي الله عليه وسلم أحبّ حسّان، وقربّه منه، واستمع لشعره بالمسجد النبّويّ، وبشّره عليه بجنة الخلد، وأخبره بأن شعره ملائكيُّ معه في إبداعه وإنشاده الرّوح الأمين جبريل عليه السلام".
وشاعرنا حسان الذي يجلو أبكار المعاني ويبتدعها، يعود إلي بيت رفيع الدعائم، ومنزل معلوم المفاخر عند الخزرج والعرب قاطبة، فوالده ثابت بن المنذر بن عدي من بني مالك ابن النجار، من سادة قومه وأشرافهم، وبنو النجار تلك القبيلة الكبيرة التي كانت تقيم في المدينة مع الأوس، هم أخوال النبي الخاتم صلوات ربي وسلامه عليه، لأن أم جده عبدالمطلب كانت منهم، و أم حسان التي كان بعض المناكفين له يدعونه بها، هي ((الفريعة)) بنت خالد بن حبيش خزرجية مثل أبيه، وقد أدركت الإسلام، ودخلت فيه وحسن إسلامها. ولد أبا الوليد وهذه كنيته، كما كان يُكنى بأبي عبد الرحمن، وأبا الحُسام نحو ستين عاماً قبل الإسلام، ونشأ وترعرع في ((يثرب)) تلك المدينة التي اصطفاها النبي صلى الله عليه وسلم على سائر المدن وخصاها برحلته التي غيرت مجرى الكون، "وكانت المدينة في العصر الجاهلي مجتمعاً صغيراً تسوده الحروب الدامية التي تقوم بين الأوس والخزرج، وبينهم وبين اليهود الذين كانوا قد استوطنوا المدينة. وكان جده المنذر محباً للسلم، ولما اختلفت الأوس والخزرج بعد يوم سُمَيْحة في أمر القتلى والديات، أهدر المنذر ديات قومه الخزرج واحتمل ديات القتلى من الأوس من ماله الخاص حرصاً على السلم". واستمر ذلك البيت على تلك المآثر في الإسلام أيضاً، "فأبوه ثابت بن المنذر كان حكماً بين الأوس والخزرج في يوم سمير، وشهد أخوه أوس العقبة مع السبعين من الأنصار، كما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عثمان رضي الله عنه، وكان أحد شهداء يوم أحد". كما كانت أسرته راسخة القدم في البيان، عريقة في قرض الشعر ونظمه، قال فيها المبرد: " وأعرق قوم كانوا في الشعر آل حسان، فإنهم كانوا يعتدون ستة في نسق، كلهم شاعر، وهم: سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام". وتحكي لنا الكتب التي استوعبت أصول الأدب، وحوت أطرافه، أنّ عبدالرحمن ابن الجارية سيرين، تلك المرأة القبطية التي وهبها النبي صلى الله عليه وسلم لشاعره حسان، وهي كما نعلم شقيقة أم المؤمنين ((ماريا القبطية)) لسعه زنبور" فجاء أبوه يبكي، فقال له حسان: ما لك؟ فقال: لسعني طائر كأنه ملتف في بردي حبرة، فقال له حسان: لقد قلت والله الشعر". كما كان خاله مسلمة بن مخلد من صاغة الشعر، وراضة القوافي، وأخته خولة لها شعر رقيق الحواشي، مليح الديباجة، وكانت ابنته ليلى كذلك، فقد قيل أن حسان قد جفا الرقاد، وأكتحل السهاد ذات ليلة، فعّن له الشعر فقال:
"وقافية قد عجت بليل رزينة تلقيت من جو السماء نزولها
ثم أجبل حسان وسكت، وكانت ابنته معه فقالت له: كأنك اجبلت. قال حسان: أجل. قالت:أفأجيز عنك؟ قال حسان: وعندك ذلك؟ قالت:نعم. قال: فأفعلي. فقالت:
 
يراها الذي لا ينطق الشعر عنده ويعجز عن أمثالها أن يقولها
فحمى حسان عندها وقال:
متاريك أذناب الحقوق إذا التوت أخذنا الفروع واجتنينا أصولها
فقالت:
مقاويل بالمعروف حرس عن الخنا كرام معاط ٍ للعشيرة سولها
قثال حسان: لا قلت شعراً وأنت حية
فقالت: أو أؤمنك؟ قال: وتفعلين؟ قالت: نعم لا قلت شعراً وأنت حي". فأسرة حسان موصولة النسب بالشعر يثوارثونه كابر عن كابر.
لقد سخر حسان قريحته الشعرية التي تدفقت عليه منذ أنّ كان في معية الصبا، وطراءة السن، للذّب عن قومه الخزرج في عراكهم الذي لا تنقطع وتيرته مع الأوس، يحصي مناقبهم، ويعدد مفاخرهم، ويسجّل مآثرهم، ولقد دخل في عراك شعري محموم مع الشاعرين الأوسيين: قيس بن الخطيم وأبي قيس بن الأسلت. ومن بعض أشعاره التي تجسد تلك الفترة، أبيات يهجو فيها أبي قيس بن الأسلت هجاءاً مقذعاً، ويطحنه فيها طحن الرحى، يقول فيها:
ألا أبلغْ أبا قيسٍ رسولاً، إذا ألقَى لها سعاً تبِينُ
نسيتَ الجسرَ يومَ أبي عقيلٍ وَعندَكَ منْ وَقائِعِنا يَقِينُ
فلسْتُ لحاصنٍ إنْ لم تزُرْكمْ خلالَ الدورِ مشعلة ٌ طحونُ
يدينُ لها العزيزُ إذا رآها، ويهربُ من مخافتها القطينُ
تَشِيبُ الناهدُ العذراءُ فيها، ويسقطُ منْ مخافتها الجنينُ
عيْنَيكَ القوَاضِبُ حينَ تُعْلى بها الأبطالُ والهامُ السكونُ
تجودُ بأنْفُسِ الأبْطالِ سُجْحاً، وأنتَ بنفسكَ الخبُّ الضننُ
ولاوقْرٌ بسمعِكَ حِينَ تُدْعى ضحى ً إذ لا تُجِيبُ ولا تعِينُ
" ولقد أُوتي حسان من سعة الرزق، ونضرة الشباب، وشرف النسب، ومكانة الأسرة، والموهبة الشاعرة، والبيان الساحر، ما أتاح له أن يلهو ويبذخ، ويصبو ويطرب، فيعابث القيان، ويعاقر الخمر طوال نصف قرن، هو الزمن الذي انقضى من عمره المديد في الجاهلية، وهو على دين قومه. وبهذا الرغد في العيش، والانغماس في اللذات، وايثار الترف على الشظف رقّ شعره، وصفا أسلوبه، وعذب لفظه، وغدا من أعلام الشعر في يثرب. غير أن الأعلام تضيق بهم حواضرهم، ويحملهم الطموح إلي حواضر أرحب، ومراتع أخصب". أخذ حسان يضرب في مغاور الأرض، ويقطع صحاريها الموحشة، وقفارها المجدبة، التي تقطنها الضواري، قاصداً رجلاً امتلك ناصية الشعر، رجل متدفق القريحة، شديد العارضة، خلعت عليه قبائل العرب أوسمة التبجيل، وأوصلوه إلي ذروة الكمال، عساه يقلب رأيه الحصيف في أشعاره التي ينظمها، ويبصره بمواطن الخطل والصواب فيها، فوجد النابغة صاحب السمت الرزين والمنطق المتئد في سوق عكاظ وقد ضربت له قبة حمراء من أدم بسوق عكاظ وقد تحلقت حوله جموع الشعراء تعرض عليه أشعارها، "فأول من أنشده الأعشى ميمون بن قيس أبوبصير، ثم أنشده حسان بن ثابت الأنصارى:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى                وأسيافنا يقطرن من نجدة دماً.
ولدنا نابنى العنقاء وابنى محرّق                         فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابناً.
فقال له النابغة: أنت شاعر، ولكنك ما صنعت شيئاً، أقللت جفانك وأسيافك، وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك. لأنه قال: ولدنا بنى العنقاء وابنى محرق، فترك الفخر بآبائه، وفخر بمن ولد نساؤه. ويروى أن النابغة قال له: أقللت أسيافك ولمّعت جفانك يريد قوله: "لنا الجفنات الغر" والغرة لمعة بياض فى الجفنة، فكأن النابغة عاب هذه الجفان وذهب إلى أنه لو قال: لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن".
ويقال بأن تماضر الخنساء صاحبة القصائد الجياد و التي يتدفق شعرها رقة وسلاسة حضرت إلى مجلس النابغة أيضاً حائلة اللون، كاسفة البال، ترثى أخاها صخراً الذى أضمرته الأرض وطوته الغبراء، فأنشدت قصيدتها:"قذى بعنيك أم بالعين عوار"، حتى وصلت إلى قولها:
وإن صخراً لتأتم الهداةُ به                       كأنه علم فى رأسه نار.
وإن صخراً لكافينا وسيدنا               وإن صخراً إذا نشتو لنحّار.
فقال النابغة بعد أن استمع لقصيدتها التي تستدر العيون وتذيب شغاف الأفئدة: لولا أنّ أبا بصير أنشدنى قبلك لقلت إنك أشعر الناس، فلم يروق ذلك لحسان رضى الله عنه فقال: أنا أشعر منك ومنها.فقال النابغة:حيث تقول؟قال:حيث أقول:"لنا الجفنات يلمعن بالضحى...." فيقر له النابغة بالشاعرية ثم يصدر حكمه الذي أصاب شاكلة الصواب.
بعد هذا الحكم الذي أصدره النابغة الذبياني الشاعر الفحل، والناقد الخبير الذي تخلو أحكامه من خزازة أو اعتساف، سار شعر حسان في الآفاق، وأمست أشعاره تسمع في كل صقع وواد، ومضى كالطائر المرح الذي يغرد في كل روضة، ويهبط على كل غدير، يمدح سراة القوم وأعيان الفضل في كل قبيلة ترودها ناقته التي تقطع فدافد الأرض في خفة ويسر، لتطوي خلفها التلال التالعة، والجبال الفارعة ، في بطحاء مكة، وأغوار تهامة، وصحراء نجد، ثم أشرئبت نفسه إلي مدح الملوك، فطفق يتنقل بين حيرة المناذرة، وجلق الغساسنة، طلباً للشهرة وذيوع الصيت، ولتوثيق العرى بينه وبين ملوك نصبت على مفارفقهم التيجان، وقهروا الأبطال والشجعان، ودانت لهم الدنيا، يستكين إليهم الضعيف، وينأى عن مجابهتم القوي، ولقد نقل أبو الفرج الأصفهاني بأكثر من رواية اتصال حسان الذي كان في غُلواءُ الشباب ونضارته، بالملك الغساني الذي كان تشرئب لرؤيته العيون، وتشخص لطلعته الأبصار، واتصال حسان بن ثابت رضي الله عنه بالغساسنة في بادي الأمر تمّ عن طريق عمرو بن حارث الغساني، أو جبلة بن الأيهم الغساني، وتخبرنا أمهات الكتب الجامعة لشتيت الفوائد أنّ حسان حينما دلف إلي مجلس الملك المطرز بأقبية الديباج المخوص بالذهب، وجد بمعييته النابغة الذبياني، وعلقمة الفحل، يقول حسان:" فجلست بين يديه وعن يمينه رجل له ضفيرتان وعن يساره رجل لا أعرفه فقال أتعرف هذين فقلت أما هذا فأعرفه وهو النابغة وأما هذا فلا أعرفه
قال فهو علقمة بن عبدة فإن شئت أن تسكت سكت، قلت فذاك، قال فأنشده النابغة
كِلينِي لهمٍّ يا أميمة ناصبِ وليلٍ أقاسيه بطيءِ الكواكِبِ
قال: فذهب نصفي
ثم قال لعلقمة أنشد، فأنشد
طَحا بك قلبٌ في الحسان طروبُ بُعيدَ الشبابِ عَصْرَ حانَ مَشيبُ
فذهب نصفي الآخر فقال لي أنت أعلم الآن إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت وإن شئت أن تسكت سكت فتشددت ثم قلت لا بل أنشد، قال: هات، فأنشدته:
لله دَرُّ عِصَابةٍ نادمْتُها يوماً بجِلِّقَ في الزَّمان الأوّلِ
أولادُ جَفْنَةَ عند قبر أبيهمُ قبرِ ابن مارِيَة الكريمِ المُفْضِلِ
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البرِيصَ عليْهِم كأساً تُصفَّقُ بالرحيق السلسلِ
يُغشَوْنَ حتّى ما تَهِرُّ كلابُهُمْ لا يسألون عن السوَّاد المُقْبل
بيضُ الوجوهِ كريمةٌ أحسابُهُمْ شُمُّ الأنوفِ من الطِّرازِ الأولّ
فقال لي أدنه أدنه لعمري ما أنت بدونهما. ثم أمر لي بثلاثمائة دينار وعشرة أقمصة لها جيب واحد وقال هذا لك عندنا في كل عام" . واستمر الغساسنة في وصل حسان بالجوائز السنية حتى بعد أن دخل الإسلام، وصار شاعره الذي يذود عنه بلسان صلد يفلق الحجر، ومن يدقق النظر في الصلة ا########دة التي جمعت شاعرنا المفلق الخنذيذ بالغساسنة يصل إلي يقين راسخ لا يخامره شك، أو تتخله ريبة، بأن حسان كان صادقاً في تلك القصائد الجياد التي تسحر العقول، وتخلب الألباب، فلقد كال لهم المدح، وقرظهم بأزين وصف، وأتقن رصف، وأفصح لسان، ولعل صلة القرابة التي تربطه بهم هي التي جعلته يستفرغ الوسع في الإحاطة بشمائلهم ومناقبهم، لأنهم عترته وعصبته الذين لا يبلغهم مكاثر، ولا يطاولهم مفاخر. ولقد تركت العيون النابعة، والثمار اليانعة، والمروج الخضراء، أثرها في نفس حسان، وشعره الذي أمسى يتدفق عذوبةً وسلاسة، "ففي غوطة دمشق، وعلى ضفاف بردى والبريص، رفل حسان في دوح وارف، وكنف موطّأ، ورشف الرحيق السلسل، فصقلت طبيعة الفيحاء موهبته الأصلية، وخلعت عليه من جمالها واعتدالها، وصفائها وبهائها، ما صفّى شعره، وارتقى بخياله، ولوّن صوره، ووقّع موسيقاه، ورقّق طبعه، فأبدع في الغزل والخمر إبداعه في المدح والفخر، ووهب من الغساسنة من الفن الخالد فوق ما وهبوه من المال البائد".
أما مدح حسان للمناذرة، فرغم ما قيل من وفود حسان على الحيرة، وعن المال الوفير الذي رفده منهم، وعن المكانة العظيمة التي نالها عند ملوكهم الذين كانت لهم جلالة تغشى العيون، وقداسة تملأ الصدور، إلاّ أن ديوان الشاعر نفسه على طوله وكثرة مدائحه التي كأنها وشي مرقوم، وروض مرهوم، لم تثبت وفوداً أو رفوداً، فليس في ديوانه الذي حققه -البربوقي- أي أشعار أزجى فيها قلائد الشكر لأبي قابوس النعمان بن المنذر، الذي قلب ظهر المجن للنابغة الذبياني، أو أهدى محاسن الذكر لغيره من ملوك الحيرة، الأمر الذي يقود إلي ظنون بضياع بعض أشعار حسان رضي الله عنه. أو أن تكون تلك الأخبار المتناثرة في المصنفات القديمة محض افتراء من الرواة. أو أن يكون حسان قد وفد على الحيرة، ونشر مآثر أبي قابوس النعمان في المحافل، وسيّر ذكر محامده في الأفاق، إلا أن مدائحه تلك جار عليها الزمان، وطواها تعاقب الحدثان.
مناقب حسان وصفاته:
نجد أنّ المؤرخون لم ينقلوا لنا الصفات الخِلقية لأبي عبد الرحمن، بل أكتفوا ببعض القسمات التي نقلها لنا صاحب الأغاني في كتابه المنثور المسائل والمتشعب الأغراض، موضحاً أن حسان رضي الله عنه كان "يخصب شاربه وعنفقته بالحناء، ولا يخصب سائر لحيته، فقال له ابنه عبد الرحمن: يا أبت لم تفعل هذا؟ قال: لأكون أسد والغ في دم".
كما ذكر أنّ لحسان ناصية قد سدلها بين عينيه. أما شمائله فقد ذكر المؤرخون أن حسان "كان قوي الشخصية، واثقاً بنفسه وموهبته، معتداً بقومه، متعصباً لليمن عامة، وللأنصار خاصة، تواقاً للزعامة، صاحب عجرفة وعنجهية، سريع الغضب والرضى، شديد التذمر، مغالياً في حبّ ما يحب، وبغض ما يبغض، مقيماً على العهد، وفياً للغساسنة حتى بعد أن ارتدوا، حسن النية، نقي الطوية، فيه من الإباء والأنفة ما زهّده في جاهليته، وما كفّه في إسلامه، فلم يمدح في الجاهلية ليتكسب، ولم يطالب بعدما أسلم بعطاء".
فرية جبنه:
هناك بدعة ضاربة في أطناب التاريخ، ابتدعها رجال مكتظة أنفسهم بالجرائر، مثقلة أفئدتهم بالكبائر، أوغاد يتربصون بالإسلام الدوائر، ويرمون ذهاب ريحه، وضياع مجده، بدعة مضغتها أفواه من سبقونا واجترتها أقلام المحدثين في سماجة، دون تدبر أو تمحيص، تلك الأقلام التي لا تتورع عن تصديق الترهات وتأييدها، ولا تتحرج عن التشبث بأفنانين الكذب والافتراء، بدعة تصف شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سخر قريحته الجياشة للذّب عن بيضة الدين، وعن نبيه الخاتم، بالجبن والخوف، وأمعنّت في رميه بصفات يندى لها الجبين، ولعل المسوغ لذلك البهتان الذي لا يمت للواقع بصلة أو يصل إليه بسبب "أن حساناً لم يشهد المعارك، بل كان يتسقط أخبار المسلمين في الحروب ويتسمع تفصيلاتها، ثم ينظم في ذلك شعراً". ونسيت أو تناست أن أبا عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه كان قد حبا نحو الستين حينما وطئت راحلة المصطفى عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم رمال المدينة، وحينما كحلّ حسان رضي الله عنه عينيه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم كان قد انهار جرف شبابه وذوى عوده، ووهن عظمه، كما أن هناك حقيقة تنقض افتراءات من تجرأ على سيدنا حسان، وتجعلهم يقبعون بين ثنايا أنفسهم التواقة لتلفيق التهم ذائبين من الخجل والحياء، فتقاعس حسان عن الطعن والضراب لم يكن سببه جبنٌ مؤثل في فؤاد حسان، أو مرده تشبثه بالحياة، وكراهية الموت، لا أيها السادة لم يكن الرجل الذي خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم حاثاً إياه أنّ"يشد الغطاريف على بني عبد مناف وأقسم عليه الصلاة والسلام بأن شعره أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس الظلام". بالخوار الرعديد، لم يكن ابن الفريعة ########اً يهاب ساحات الوغى وموارد الطعان، بل كان أكحله قد قُطع كما ذكر أبي فرج الأصفهاني، فقد جاء في كتابه المصقول الحواشي:" قال الزبير: وحدثني عمي عن الواقدي قال: كان أكحل حسان قد قُطع، فلم يكن يضرب بيده". إن العلة التي لازمت حسان رضي الله عنه هي السبب في مجافاته للضرب والطعان، والتحام الأقران بالأقران، وكيف يتسنى لمن تصدى لأعداء الله ورسوله حمل السيف والتلويح به وإغماده في نحور العدي وهو من يتصون عن مؤاكلة الملوك خشية أن تحرجه يده الشلاء، وهو صاحب العزة التي يكره أن تضام. يقول حسان دالاً على تبرمه وضيقه بتلك العلة التي منعته من مواتاة الهيجا والوقائع:
أضرّ بجسمي مرُّ الدهور وخان قراع يدي الأكحل
وقد كنت أشهد عين الحروب ويحمرُّ في كفيّ المنْصل
كما ينبغي علينا أن ندرك أن من شيم الرعديد الذي يفرق من أبيه أنه حتى يظل آمناً من كل سوء، وناًبيا عن كل فتنة، لا يروض شعره في السخرية من أصحاب الساعد المجدول، والعضد المفتول، حتى لا تلحقه بوائقهم، وتناله شرورهم، وهذا ما لم يفعله أبي الوليد طوال حياته، فقد ظّل لفترات طوال من حياته مغموراً بعداوات الرجال، لشره لسانه في الهجاء، ولجرأته الأدبية، الأمر الذي يشير إلي أنه من ذوي الشدة والبأس، والجرأة والإقدام، ومما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر، أنا حساناً لو كان يحيد عن ظله جزعاً، لاستهزئ منه أعدائه ولساموه الخسف والهوان في أشعارهم.
حسان بن ثابت في معية الرسول صلى الله عليه وسلم:
بعد أن صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بما أمره به الله ، وأنذر عشيرته الأقربين، فضلاً عن الخلق كافة، بعبادة الله عز وجل ونبذ عبادة الأصنام التي في عبادتها كل كدر وعيب، ولكن صناديد قريش وعتاتهم لم يروق لهم ذلك، وناصبوا رسول العزة العداء، وأنزلوا به وبأصحابه صنوف الأذى حتى ضاقت عليهم بطحاء مكة رغم اتساعها، الأمر الذي جعلهم يشدون الرحال إلي الحبشة فراراً بدينهم، ثم إلي المدينة التي هشت لمقدم النبي الخاتم، وضربت الدفوف لاستقباله، وتحامى القوم في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم، وتنافسوا في الحفاوة به، وبعد أن شرع النبي صلى الله عليه وسلم في بسط القوانين ووضع الشرائع التي تكفل العيش الهانئ، والاستقرار الخليق بالبقاء والنماء وعمارة الأرض، آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وكان من ضمن طوائف الأنصار، بنو النجار أخوال النبي صلى الله عليه وسلم كما أسلفنا، وكان من أشهر رجالهم، حسان بن ثابت، وأخوه أوس الذي آخى النبي عليه الصلاة والسلام بينه وبين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ورغم أنّ أمهات الكتب لم تخبرنا عن السنة التي دخل فيها حسان الإسلام، إلاّ أنها وضّحت بمنطق لا يخالطه غموض أنّ حسانّ بن ثابت منذ أن أعلن إسلامه وضع"موهبته الفذة تحت إمرة النبي صلى الله عليه وسلم، فتقبله النبي صلى الله عليه وسلم بقبول حسن، وأعلى من شأنه، وأطرى شعره،فاطمأن قلب حسان، وطاب بما أصاب، وخلع أوزار الجاهلية، وادّرع درع البرّ والتقوى، وأخلص للدعوة الجديدة، وشحذ لسانه للدفاع عنها، فكان المقدّم في كل محفل، والمنافح في كل معترك".
وحسان شاعرنا الفحل الغطريف لم يكن يدخر وسعاً في الذود عن حمى الإسلام، ولم يكن حسان وحده في الساحة، بل انبرى معه شعراء يقولون الشعر من غير كدّ ذهن أو تسهير جفن، أو تشحيذ خاطر، فكون حسان "مع صاحبيه كعب بن مالك، وعبدالله بن رواحة رابطة المدينة الشعرية التي كانت تنافح عن الإسلام وعن الرسول صلى الله عليه وسلم، وترد الهجوم الشعري المشرك الذي كان يقوده شعراء الكفر في مكة. وقد استحق حسّان وصاحباه لقب((شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم))".
وقد أيقن الرسول صلى الله عليه وسلم الدور الكبير الذي يلعبه هؤلاء الشعراء في مجابهة قوى الكفر والضلال فعول عليهم، وثمّن جهودهم، كما "عرف عليه الصلاة والسلام مكانة حسان وشعره ودوره في الرد على المشركين حين خاطب الأنصار بقوله: ما يمنع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم؟ فقال حسان بن ثابت: أنا لها، وأخذ بطرف لسانه، وقال: والله ما يسرني به مِقوَل بين بصرى وصنعاء، ولو شئت لفريت به المزاد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كيفتهجوهم وأنا منهم؟ فقال: إني أسلُّك منهم كما تُسَلّ الشعرة من العجين. فقال النبي عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم: فأذهب إلي أبي بكر، فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم وأهجهم وجبريل معك. ويكفي حسان فخراً ومكانة أن جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعره معضداً بالوحي وبجبريل، وبروح القدس بياناً لمكانته ودفاعه عن الدعوة الإسلامية".
ولقد اتخذ حسان في هجائه لعترة النبي صلى الله عليه وسلم وقرابته أسلوباً حكيماً، فقد كان" يجعل فيه المهجو من خشارة قريش لا يرتفع له رأس إلي الؤابات من هاشم، كهجائه لأبي سفيان بن الحرث بن عبدالمطلب، فإنه في هجوه إياه يهجو بن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فما استقام له أن يمعن في ذم والده الحرث، فاقتصر على أنه يجعله عبداً بين إخوته والد النبي صلى الله عليه وسلم وأعمامه، ثم عطف على أبي سفيان من جهة أمه وأم أبيه فهشمهما، وجعل أبا سفيان من بني هاشم كقدح الراكب من الرحل، فأخرجه من الدوحة الهاشمية التي ينتمي إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:
هو الصن ذو الأفنان لا الواحد الوغد
ومثل هذا الهجاء مؤلم مُمض يوغر الصدور، ويثير الضغائن، ويهتك الحرمات والأنساب. قيل لما بلغ أبا سفيان أصاب منه مقتلاً، فقال: هذا شعر لم يغب عنه أبي قُحافة، فهو يعلم أنّ تلك الأمور لا يعرفها إلا علامة بالأنساب كأبي بكر رضي الله عنه".
والشيء الذي لا يخامرنا فيه شك أن الهجاء لم يكن غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لصد تلك السهام التي كانت تترى للنيل من رسوله عليه الصلاة والسلام، ولكسر شوكة جبابرة قريش الذين يكن لهم هاجس يؤرق مضجعهم سوي القضاء على الدين الذي ظهر علاؤه، وشهر سناؤه.وبهر ضياؤه جوانب الأرض، وخوافق السماء.
ونجد أن شاعرية حسان الهادرة وقدرته التي لا تضاهى في إخماد كل الأصوات التي تنعق بمعاداة الإسلام واضحة جليه في أشعاره، فلقد أغنى رصفائه مؤونة الرد على كل متردية ونطيحة تناصب الإسلام العداء. فنجده يرد على شعر بن الزبعري في بدر قائلاً:
ذهبتْ بابنِ الزبعرى وقعةٌ كانَ منا الفضلُ لوْ كانَ عدلْ
ولقدْ نلتمْ ونلنا منكمُ وكذاكَ الحربُ أحياناً دُولْ
إذ شددْنا شدَّةً صادِقَةً فأجأناكمْ إلى سفحِ الجبلْ
إذْ تولُّونَ على أعقابكمْ هرباً في الشعبِ أشباهَ الرسلْ
ونجده يرثي بأشعار تستدر وكف العيون قتلى بئر المعونة، فقد طلب ملاعب الأسنة عامر بن مالك من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث قوماً من الأنصار، فبعث إليه جماعة وأمرّ عليهم المنذر بن عمرو الساعدي، فاغتالهم عامر بن الطفيل الذي عاضده نفر من بني سليم فأفنوهم، فقال حسان:
على قتلي معونة فاستهلي بدمع العين سحاً غير نزر
على خيل الرسول غداة لاقوا مناياهم ولاقتهم بقدر
أصابهم الفناء بعقد قوم تخون عقد حبلهم بغدر
فيا لهفي لمنذر إذ تولى وأعنق في منيته بصبر
وحادثة أخرى يميد فيها حسان من الغضب، ويتفجر من الغيظ، حينما أقدمت عشيرة الحارث بن عوف المرى على قتل رجل من الأنصار كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرسله للدعوة للإسلام بعد أن أدخله الحارث في جواره:
ياحار من يغدر بذمة جاره منكم فإن محمداً لا يغدرُ
إن تغدروا فالغدر من عاداتكم واللؤم ينبت في أصول السخبرِ
وأمانة النهدي حيث لقيتها مثل الزجاجة كسرها لا يجبرُ
وقد بكى حسان بدمع مدرار، وقصائد تجعل الجملود يهش بالبكاء، أسد الإسلام، وسيد الشهداء، سيدنا حمزة بن عبدالمطلب في عدة قصائد، يقول في إحداها:
"أبيض في الذروة مِنْ هَاشِمٍ لَمْ يَمُرّ دُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ
مال شهيداً بين أسيافكم شلت يدا وحشي من قاتل
أي امرىء غادر في ألة مطرورة مارنة العامل
أظلمت الأرض لفقدانه واسود نور القمر الناصل
صلى عليه الله في جنة عالية مكرمة الداخل
كنا نرى حمزة حرزاً لنا في كل أمر نابنا نازل
وكان في الإسلام ذا تدرأ يكفيك فقد القاعد الخاذل
"لقد جاهد حسان بلسانه طوال العشرة أعوام الأخيرة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان له في كل موقف من مواقف المسلمين قصائد جياد، ولذلك يعد شعره مصدراً من مصادر التاريخ الإسلامي لتلك السنوات، فقد جاهد بلسانه في يوم بدر، ويوم أحد، ورثى حمزة رضي الله عنه كما رأينا، ورثى خبيب بن عدي وأصحابه حينما غرت بهم هذيل، وهجاها هجاءً مُراً، كما رثى شهداء مؤتة:زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة رضي الله عنهم"؟ يقول حسان:
رأيت خيار المؤمنين تواردوا شعُوبَ وَخَلفًا بَعْدَهُمْ يَتَأخّرُ
فلا يُبْعِدَن اللّهُ قتْلَى تَتَابَعُوا بِمؤْتةِ مِنْهُمْ ذُو الْجَنَاحَيْنِ جَعْفَرُ
وَزَيْدٌ وَعَبْدُ اللّهِ حِينَ تَتَابَعُوا جَمِيعًا وَأَسْبابُ الْمَنِيّةِ تَخْطِرُ
غَدَاةَ مَضَوْا بِالْمُؤْمِنِينَ يَقُودُهُمْ إلَى الْمَوْتِ مَيْمُونُ النّقِيبَةِ أَزْهَرُ
أَغَرّ كَضَوْءِ الْبَدْرِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ أَبِيّ إذَا سِيمَ الظّلَامَةِ مِجْسَرُ
كما نجد أن شعره صا مؤيداً لما يتفوه به الرسول صلى الله عليه وسلم من قول، ولعل أصدق ما يستدل به لصحة هذا القول، الغضب الذي اجتاح النبي صلى الله عليه وسلم عندما تعرض أقوام لوديده وأعزّ أصدقائه الذي لم يتلجلج عندما عرض عليه أمر دعوته، وصدّق خبر رقيه للسماء حينما كذّبه جماعة مما لزموا غرسه، ورافقه في رحلته وكان ثاني اثنين هذ هما في الغار، فصعد النبي صلى الله عليه وسلم منبره، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، قال فيما معناه: أيها الناس ليس أحد منكم أمنّ عليّ في ذات يده ونفسه من أبي بكر، كلكم قال لي كذبت، وقال لي أبوبكر صدقت؛ فلو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً". ثم التفت عليه الصلاة والسلام إلي صاحب اللسان الذي يقلبه في كفيه كي شاء، حسان رضي الله عنه الذي قال عن لسانه أنه إذا وضعه على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه، فقال: هاتِ ما قلت فيّ وفي أبي بكر، فقال حسان: قلت يا رسول الله:
إذا تَذَكّرتَ شَجْواً مِنْ أَخٍ ثِقَةٍ فَاذْكُرْ أَخَاكَ أبا بَكرٍ بما فَعَلا
التَّاليَ الثّانيَ المَحْمُود شِيْمَتُهُ وأَوَّلُ النّاسِ طُرَّاً صَدَّقَ الرُّسُلا
والثّاني اثنَينِ في الغارِ المُنيفِ وَقَدْ طافَ العدوُّ به إذْ صَعَّدَ الجَبَلا
وكانَ حِبَّ رَسولِ اللَّهِ، قد عَلِموامِنَ البرِيَّةِ، لم يَعْدِلْ به رَجُلا
خَيرُ البَرِيَّةِ أتقاها وَأَرْأَفُها بَعْدَ النّبيّ، وأوْفاها بما حَمَلا
إن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقدر عطاء شعر حسان الدافق، ويدرك مآثره في الدفاع في الإسلام بقوافيه التي تلجم كل من تسول له نفسه التعرض لحماه، "لهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسّم له في الغنائم بعد عودته من الغزوات كأي محارب شارك فيها بسيفه، وكان صلى الله عليه وسلم دائم الثناء عليه حتى أنه تغاضى عن موقفه من عائشة في حديث الافك المشهور، كما تغاضى عن تعريضه بالمهاجرين ذات مرة، وحين ضربه صفوان بن المعطل بسيفه لهجائه اياه، عوضه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بإعطائه بستانا، ووهبه سيرين القبطية، أخت مارية أم ولد الرسول إبراهيم." فولدت له ابنه الشاعر المفوه عبدالرحمن.
وتشكك بعض المصادر في أن حسان الذي يضمخ الرسول صلى الله عليه وسلم بأشعار المدح والثناء، يخوض في عرض زوجته الحميراء التي ذهبت بنصف الدين، ربيبة الشرف والعفة، والشيء الذي يدعم هذا الشك أننا إذا بحثنا وتقصينا في أشعاره لم نجد ما يؤكد هذا التلفيق، " بل نجد أشعاراً يعلن فيها براءته من الوقوع في هذا الإثم ويعتذر عما خاض فيه مادحاً السيدة عائشة". نجده يقول:
حصان رزان ما تُزَنُّ برِيبَةٍ وتصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوَافِل
فإنْ كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتُمُ فلا رفعتُ سَوْطِي إليَّ أنَامِلِي
وكيف ووُدِّي من قديمٍ ونُصْرَتي لآِلِ رسولِ الله زَيْنِ المحَافل
واستمر حسان يقمع المتربصين بالإسلام، ويخمد جذوة نيرانهم المتأججة تجاه الدين الخاتم، حتى وافى الأجل المصطفى صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من الهجرة، فرثاه بأبيات تتقطر أسى ولوعة، يقول حسان المكلوم كما جاء في نهاية الأرب".
آليت حلفة برٍ غير ذي دخل مني ألية حقٍ غير إفناد
تالله ما حملت أنثى ولا وضعت مثل النبي نبي الرحمة الهادي
ولا مشى فوق ظهر الأرض من أحد أوفي بذمة جارٍ أو بميعاد
من الذي كان نوراً يستضاء به مبارك الأمر ذا حزم وإرشاد
وقال أيضاً:
ما بال عينك لا تنام كأنما كحلت مآقيها بكحل الأرمد
جزعاً على المهدي أصبح ثاوياً يا خير من وطئ الحصى لا تبعد
يا ويح أنصار النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد
جنبي يقيك الترب لهفي ليتني غيبت قبلك في بقيع الغرقد
يا بكر آمنة المبارك ذكره ولدته محصنةٌ بسعد الأسعد
نوراً أضاء على البرية كلها من يهد للنور المبارك يهتدي
أأقيم بعدك بالمدينة بينهم يا لهف نفسي ليتني لم أولد
و" تكاد تخمد جذوة شاعرية حسان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فلا نجد له شيئاً ذا بال، غير أبيات قالهن في مدح الزبير بن العوام، وقطع أخرى يبكي بها الخليفة عثمان بن عفان حين اعتدى عليه المعتدون، وانتهكوا بقتله حرمة الإسلام، فهو ينعي على أهل المدينة وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قعودهم عن نصرته وخذلانهم إياه".
وفاته:
عاش حسان عمراً طويلاً حافلاً بالعطاء لدوحة الإسلام الريانة الأفرع، قضاه عزيز النفس، جليل القدر، لا يعجم عوده امتهان، ولا يلم بعقوته هوان، ولقد ذكرت لنا أمهات الكتب العربية أنه قد عاش عشرون ومائة سنة، قضى ستين منها في الجاهلية وستين في الإسلام، "ولقد تضاربت الأقوال في سنة وفاته فقيل سنة أربعين، وقيل سنة خمسين، وقيل سنة أربع وخمسين من الهجرة". أبان ولاية معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، وقد كفّ بصره في أعقاب حياته.
أثاره:
خلفّ حسان رضي الله عنه، ديوان خاض فيه غمار كل موضوعات الشعر من مدح وهجاء وغزل ووصف ورثاء،ولكن الشيء الذي اتفق عليه النقاد أن حسان رضي الله عنه كان قوي العارضة في المدح والهجاء، وبعض قصائد حسان كُتبت بماء الذهب، مثل قصيدته التي مطلعها:
لعمرُ أبيك الخير يا شعثُ ما نبا على لساني في الخطوب ولا يدي".
وقد طبع ديوان حسان مرات عديدة، أشهرها طبعتان، الأولى بشرح البربوقي، والثانية بتحقيق سيد حنفي حسنين.
الفصل الثاني:الخصائص الفنية في شعر حسان بن ثابت:
قريحة جياشة:
إنّ الشاعر حينما تتدفق شاعريته وتنثال عليه المعاني سهواً ورهواً ويبدأ في نظم القريض إنما يريد أنّ يعبر عن شيء قد استبدّ في ذهنه وربض في دواخله، ولأن الشاعر يتخير تعبيره وينتقي ألفاظه، ويتنزه بها عن التعابير الممجوجة التي يتفوه بها ملايين البشر،يأتي تعبيره مغايراً لتلك التعبيرات التي يجود بها الشخص العادي، تعبير أكبر من أن يتسامى في ابتداعه شخص ناضب القريحة، صلد الذهن، تعبير يبهر العيون، ويسحر الأفئدة،كلام فني انسجمت قطعه وحسُن توزيعه، وألفاظ أتأدت حركاتها، واتزنت كلماتها، جُمل مُرصّفة تضفى على النفس ما يضفيه شدو القيان، وهزج المزامير، جُمل مترعة بالصور الشعرية الخلابة، فالألم الذي يصلي الضلوع، ويضرم الأنفاس، شائع منذ قديم الأزل، ومنغصات العيش، وغصص العمر، ومكدرات الحياة، طعنت بسيفها المصقول حتى من لم يصدع بكلمة بعد، أو يتفوه بحرف، ولكن البوح عن الداء والشقاء أمر لا يتسنى إلا للشعراء الذين يجلوا أبكار المعاني، ويروضوا القوافي الصعبة. وحسان بن ثابت رضي الله عنه من طليعة الشعراء الذين برعوا في ذلك، فنجده قد بزّ أقرانه، وبان شأؤه على رصفائه، فشعره وخاصة الذي حاكه في عنفوان الشباب يمتاز برقة اللفظ، وسحر النظم، وصدق العبارة، الأمر الذي يجعله يلامس شغاف الأفئدة، ويستقر في مهاد الذهن، ومن أهم الخصائص الفنية التي تميز بها شعر حسان الإسلامي الهادر، التدفق أو التدافع الذي ينبع من تأثره بالحدث الذي يحرك كوامن شاعريته، "فعاطفته الجياشة كانت تستجيب طوعاً، لإيمانه الصادق بالموقف، وقد كانت طبيعة الموقف، وسرعة الأحداث لا تمهلانه وقتاً لينقح شعره أو يهذبه أو يتفحصه". ولقد رأينا عن كثب أن معظم أشعار حسان كان يرتجلها ارتجالاً، لا يكد فيها ذهنه، ولا يشحذ خاطره، وهذا مؤشر على تفرده وتدفق قريحته الفياضة التي تقول الشعر ولا تسهر عليه جفناً، ولا تكد فيه طبعاً، كما يفعل عبيد الشعر الذين يتعهدون أشعارهم وينقحونها قبل إشاعتها على الناس، كما كان يفعل زهير بن أبي سلمى وابنه كعب والحطيئة.
مثالب شعر حسان:
ومن يتأمل أشعار حسان رضي الله عنه يجد شيء من الاضطراب يقطن فيها هذا الاضطراب سببه الانفعال الطاغي الناجم من الحدث الذي دفعه لقول الشعر قبل التأني والتريث حتى تخرج أبياته مصقولة الحواشي، ريا الأماليد، فأبياته التي جاء مخاضها قسراً، نرقب فيها حسان رضي الله عنه وقد استشاط غضباً وخرج من اهابه، لتعرض بعض السفلة لخير البرية عليه الصلاة والسلام، فقد كان جوف حسان يغتلي بسيل عرم من المشاعر لا يردها أو يحبسها، وهذا هو طابع شعره الإسلامي الذي خلى من الاسترسال في الوصف، وكثرة التشبيهات التي تضفي على الشعر هالة من الجمال، فحسان في شعره الإسلامي قلق مضطرب في سرد موضوعاته الأمر الذي يجعل أشعاره مفتقده للترتيب الموضوعي، ولا تترك أي نوطة في القلب، أو روعة في النفس، سوي الإكبار لتصديه للذّب عن بيضة الدين.
رأي النقاد في ركاكة شعر حسان الإسلامي:
ونجد أنّ الأصمعي قد علل ظاهرة تضعضع شعر حسان الإسلامي بأن الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل فيه الخير ضعف، ويتدل بشاعرنا المتصرف في فنون الشعر حسان، فيقول: هذا حسان بن ثابت فحل من فحول الجاهلية، فلما جاء الإسلام سقط شعره. وقال مرة أخرى: شعر حسان في الجاهلية من أجود الشعر، فقطع متنه في الإسلام لحال النبي صلى الله عليه وسلم". ونجد أن الأصمعي يعقد مقارنة بين شعر حسان في الجاهلية وبين شعره في الإسلام، مبرراً أن الشعر تواق للشر والإغراق في الدعوى والمبالغة في الوصف، فإذا سكبت عليه شيء من قيم خمد وذهب توهجه، والحقيقة أن شعر سيدنا حسان في نزقه وطيشه لم يكن على نمط واحد من الإبداع والجودة، بل كانت له قصائد حازت على الألفاظ الضخمة، والأساليب الفخمة، وسلاسة الأنغام التي تأخذ بمجامع القلوب، كما كانت له قصائد تتسم بالضعف والحشو والإسفاف، هذا شيء، الشيء الآخر أن "شعر حسان كثر الوضع فيه، وهذا هو السبب فيما يشيع في بعض الأشعار المنسوبة إليه من ركاكة وهلهلة، لا لأن شعره ضعف ولان كما زعم الأصمعي، ولكن لأنه دخله الكثير من الوضع والإنتحال". فكثير من النقاد ذهب إلي أن الكثير من الشعر الموضوع ارتبط اسمه باسم شاعر الرسول، فلقد تكالب العديد من رواة المغازي والسير حول مروج حسان الخضراء، وحدائقة المصقولة الحواشي ليزرعوا حولها الحصرم والزقوم، ولقد أقر الأصمعي فيما بعد بأن حسان تنسب له أشياء لا تصح عنه، ومن هذا الباب " أشعاره المملوءة غيظاً على قتلة عثمان، فإن كثيراً منها وضعه الأمويون ليظهروا للناس أن شاعر الرسول صللى الله عليه وسلم كان في صفهم وإلي جانبهم، وليغسلوا عنهم عار الأشعار التي نظمها حسان في هجاء أسرتهم حين كان أبوسفيان وغيره من رؤوسها يقودون الجيوش ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحاربون الرسالة الإسلامية". وهذا ما أكده بن سلام ونصّ عليه بقوله:" وةد حُمِل عليه-يعني شعر حسان- ما لم يحمل على أحد. لما تعاضهت قريش واستبّت وضعوا عليه أشعاراً هكثيرة لا تنفى". كما علل النقاد اللين الغالب في شعره بأن حسان رضي الله عنه من شعراء الحضر، والسمة الطاغية على شعراء الحضر هي رقة الشعور، وصفاء الطبع، وطلاوة الأسلوب، ولقد ازداد شعر حسان ليناً بتأثر حسان بأسلوب القرآن التصويري الذي جاء بدعاً في الأساليب والصّور، وحسان الذي خلى شعره من بلاغة الوصف، ومن الصور الخيالية الخلابة، والذي عكف على الارتجال ولاذ ببابه، عوضاً عن التنميق والتنخل ظهر تأثره بالقرآن واضحاً جلياً من خلال نبذه "للألفاظ الغريبة إلي الرقيقة السهلة، ولكن أنيّ لحسان أن يجاري القرآن في نصاعة بيانه وبلاغة تعبيره، فازداد شعره ليناً على لين، على أن له بعض قصائد في الهجو والفخر وذكر الوقائع تعد من أطيب الشعر وأجوده".
سمات شعر حسان في الجاهلية والإسلام:
وأهم السمات والدلائل التي اتصف بها أسلوب حسان في الإسلام هي تأثره بمعاني وقيم القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف.كما يلاحظ كثرة ورود الألفاظ الاسلامية في شعره. وأن حسان لم يكن يتعهد شعره بالتجويد والتنقيح. أما معانيه في الجاهليه فقد كانت تماثل شعر غيره من راضة القوافي في ذلك العصر، ونجده في جاهليته قد مدح الملوك بأشعار سارت في كل صقع وواد ونال من عطاياهم وروافدهم،كما نجده قد تشبب بالخرائد وسكب في عشقهن القصائد المترعة بالجمال، ولقد تغزل بشعثاء وعميره وغيرهن، أما في الفخر فلقد أطنب حسان في الافتخار بقومه وذكر مآثرهم ومناقبهم في أشعاره، وفي الهجاء فنجد قصائد المناقضات التي كانت بينه وبين شعراء الأوس الذين نكّل بهم وسامهم الخسف والهوان، وطحنهم طحن الرحى، ولم يأمنوا من حدة لسانه إلا بعد أن دخلوا جميعا في دين الله الخاتم أفواجا، وذهبت ضغائن الجاهلية إلي الأبد. ليصقل لسانه ويلهب به ظهور أعداء الدين.
خاتمة:
إن أهمية شعر حسان تكمن في قيمتها التاريخية في الجاهلية والإسلام، فلقد آرخ حسان للحروب الطاحنة، والحوادث الجسام التي وقعت في عهدين عاشهما، وسجّل بقريحته الجياشة أهم وقائعها، فقصائده الغر الجياد تضبط لنا مواطن اللبس فيها، وتصحح شوائب الخطأ، فحسان رضي الله عنه كان رائد الشعر السياسي في ذلك العهد الذي يصطلي بالصراعات، ويموج بالأحداث، وقد وظف شعره وإمكانياته البلاغية للزود عن دين عصفت به الأنواء، ونبي يتسابق القربى إلي حربه، ويتنافس الغرباء إلي سلبه ووأد دعوته، ونجده قد أسقط حجج الباغين، وأورى زناد الساخطين، وأشفى صدور قوم مؤمنين، بالإبداع في وصف القتال، ومرارة الهجاء، وإجادة الرثاء، فاستحق ثناء المسلمين والنقاد الذين وصفوه بأنه كان شاعر الأنصار في الجاهلية، وشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد النبوه، وشاعر اليمن كلها في الإسلام.تغمده الله برحمته وأنزل على قبره شآبيب مغفرته، وجمعنا به وبنبيه المصطفى في أعالي الجنان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق