السبت، 29 مارس 2014

التشبيه في القرآن (26): وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ

التشبيه في القرآن (26): وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ

بسم الله، والحمد لله، والسلام على المستمعين ورحمة الله، ومرحباً بهم إلى حلقة اليوم.

لعل المستمعين الكرام اليوم ينتظرون تشبيهاً قرآنياً يصور حالةً من حالات الناس، كما اعتدنا ذلك في سابق الحلقات.

لكن تشبيه اليوم يصور حالةً من حالات المخلوقات الأخرى التي هي مسخرة للناس، بل خلقت لهم وهي تعمل في دأبٍ دائمٍ لأجلهم.

هل تدرون ما هي هذه المخلوقات؟.

إنها الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم كلها؛ بل والأرض وما فيها من ماءٍ وشجرٍ وحيوانٍ وما عليها من ريحٍ وسحابٍ وهواءٍ.

ألم يقل لنا الله: (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً) [لقمان:20].

وقال: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمْ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثية:12، 13].

أما لو انتقلنا إلى سورة النحل فسنجد ذلك بتفصيلٍ أوسع؛ يقول الله:

(هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [النحل:10-12].

ثم بعد أن تحدث عما ذرأ في الأرض من الألوان، وعن البحر والفلك التي تمخره، قال:

(وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [النحل:15].

أليس في هذا ما يؤكد أن الله هو الخالق القدير، وهو بالحب والعبادة جدير، ولهذا يقول:

(أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) [النحل:17-18].

لقد استطردنا في سرد بعض المخلوقات المسخرة لنا بفضل الله، وإنها لآياتٌ من آياته تدعونا لعبادته، وهذا هو ما يذكرنا به في الآية التي أشرنا إليها في البداية والتي تحتوي على تشبيهٍ جميلٍ فيه لنا آية.

يقول الله في سورة يس:

(وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس:37-39].

قبل أن نصل إلى التشبيه في الختام لا بد أن نقف أمام هذه الآيات العظام؛ فالليل آية من الآيات التي تجعل الناس يسكنون ويهدأون وينالون فيه من سبات النوم ما يجدد الخلايا ويعيد النشاط للمنهكين، فإذا هم يعملون؛ فالنهار المنير ينسلخ من الليل بعد أن كان ملابساً له أو مولجاً فيه؛ فإذا الليل قد انفرد وأصبح الناس في ظلام؛ لكن ذلك لا يدوم حتى يعود الصباح مراكباً على الليل ظاهراً مضيئاً؛ بينما الليل قد تحول إلى موقعٍ من الأرض آخر، لينشر السكون على الساكنين، وهكذا فالليل والنهار متعاقبان، وفي اختلافهما آيةٌ للإنسان، والله هو المدبر لكل شأن (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا) [الأعراف:54].

وعلى هذا فالليل والنهار آيتان منفردتان، والشمس والقمر آيتان أخريان، (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40]، ولهذا جاء بعد انسلاخ النهار من الليل قوله: (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38].

فهذا الكوكب الضخم الملتهب المضيء بشكلٍ دائبٍ يجري في ملكوت الله بشكلٍ مستمر، ويؤدي عمله بإتقانٍ لا يفتر، ولكنه رغم هذا العمر الطويل الذي لا يحصيه إلا الله، وهذا الجري السريع الذي يمسكه الله، رغم هذا كله فإن الشمس تجري ليومٍ تستقر فيه، وتنتهي مهمتها وعملها الذي تؤديه؛ فإذا هي تقف وتنطفئ وتكور، وتجمع الشمس والقمر، وحينها يقول الإنسان أين المفر، كلا لا وزر، إلى ربك يومئذٍ المستقر.

فما الذي يوقف هذا الكوكب الملتهب؟! ومن الذي يجعله يستقر؟! إنه الله المقدر لكل شيءٍ والمدبر، (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) [يس:38]، فهو العزيز الغلاب، وهو العليم بأسرار كل شيءٍ وهو سريع الحساب، ولهذا فإنه يقول بعد ذلك: (وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ) [يس:39].

إنه جرمٌ ضخمٌ تابعٌ للشمس بل تابعٌ للأرض وله صلةٌ بهما، ولهما فيه وله فيهما أثرٌ، ولهذا تراه مقدر المنازل؛ ففي كل لحظةٍ ويومٍ له منزلٌ ينزل فيه، بتقدير الله الذي يجريه، وله في كل منزلةٍ شكلٌ ومقدارٌ يختلف عن شكله ومنظره في المنزلة الأولى؛ فهو يتحول في بداية الشهر من هلالٍ له نحولٌ إلى الاكتمال، ثم ينحدر في الأيام التي تلي منتصف الشهر فيتحول من قمرٍ مكتملٍ إلى هلالٍ صغيرٍ ناحلٍ، كل هذا بتقدير الله الذي هو بكل شيءٍ عليمٌ؛ ولكي يوضح لنا الله شكل القمر عند التحول السقيم؛ يقول:

(حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [يس:39]؛ نعم، لقد نمى وتطور في منازله حتى اتسق، ثم انحدر في منازل النحول.

وبعد أيها الأعزاء؛ فإن موعد السؤال قد جاء؛ فاسمعوه بإصغاء؛

ستجدون في الجزء السادس والعشرين من القرآن آية واضحة البيان تؤكد أن الله خلق الإنسان وهو يعلم بما في نفسه أخفى وكتم، وبما يجري في عروقه من غذاءٍ ودم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق