السبت، 22 مارس 2014

الصورة الفنية في شعر الخنســــاء

الصورة الفنية في شعر الخنســــاء



سؤال واستفهام " قذى بعينيك أم بالعين العوار أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار "
قيل أنه لقلة الدموع، والظاهر لكثرة الدموع لأن العين إذا أصابها عور أو وقع بها قذى فإنها تهمل بالدمع . ثم تشبيه " كأن عيني لذكراه إذا خطرت فيض يسل على الخد مدرارٌ " بالسيل الفائض ولم تقل مطرا أو ماء لأنهما قد يكونا غزيرين وقد لايكونا. بينما السيل من أقوى وأكثف أنواع المياه جريا ونزولا ، ولذلك ربنا سبحانه وتعالى وصف العذاب بقوله " وأرسلنا عليهم سيل العرم " بينما في المطر والماء، قال " هو الذي انزل من السماء ماءً ليطهركم به " . ولم تكتفي بالسيل بل هو فائض لكثرة سيلانه وجريانه وعدم انقطاعه . وهذا البكاء على خديها من أجل من تقول
تبكي لصخر وهي العبرى وقد ولهت ودونه من جديد الترب أستار
من أجل صخر فهي العبرى، أي بمثابة الأم الجزعة على ولدها، ومع ذلك تتهم نفسها بالقصور حيث تقول :
تبكي خناسٌ فما تنفك ما عمرت
لها عليه رنين وهي مفتار

تقول : إنها ستبكي على صخر ما عاشت وبقيت على قيد الحياة، ولكنها ما زالت مقصرة عن إيفائه حقه .
إنها العاطفة الصادقة التي تنبض بالحزن والأسى، وتتدفق بالوعة على فراق أعز الناس .
وفي موضع آخر تلتفت إلى نفسها بعد حديثها عن البكاء وطلبها من عينها أن تجود عليها بالبكاء مذكرة إياها بأن هذا الذي تبكينه ليس لأن الذي بيني وبينه هذه الصلة من القربى فقط، ولكنه فتى سيدا في قومه، رئيسا في عشيرته يتصف بالجرأة ، والجمال، والكرم، من أهل المجد صاحب نخوة ، وعزوة حتى وإن كان أصغر القوم سنا يكلفونه ما يعجزون عن القيام به، فهو يرى أن من أفضل مكاسبه أن يمدحه الناس، ويذكرونه بفعاله الحميدة وخصاله الفريدة، تقول :
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى
ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا
طويل النجاد رفيع العماد
ساد عشيرته أمردا
إذا القوم مدُّوا بأيديهم
إلى المجد مدَّ إليه يدا


وتمضي في نوحها وبكائها متعجبة من الزمان الذي يأخذ الرؤوس ويبقى الذيول، يأخذ الأعلام ويبقى المجاهيل، يأخذ الأكرمين ويبقى منهم دون الأكرمين وتعلل ذلك بفساد الناس وليس فساد الليل والنهار، تقول :
إن الزمان وما يفني له عجب
أبقى لنا ذنبا واستأصل الرأس

أبقى لنا كل مجهول وفجعنا
بالحالمين فهم هام وأرماس
إن الجديدين في طول اختلافهما
لا يفسدان ولكن يفسد الناس

إن الجديدين في طول اختلافهما لا يفسدان ولكن يفسد الناس
وأما موسيقى شعرها فلا شك أنه احتوى على الكثير من التناغم والجمال ، فنجد الجرس الموسيقي في الأبيات ذات الإيقاع العذب السلس، واختيار الألفاظ السهلة واستعمال صيغ المبالغة للدلالة على الكثرة سواء في وصف صخر أو المعاناة للشاعرة تقول في وصف صخر :
وإن صخراً لمقدام إذا ركب
وإن صخراً إذا جاعوا لعقّار


وتقول في وصف حزنها :
أما لعينيك لا تهجع
تبكي لو أن البكا ينفع

كما أنها سعت إلى استخدام محسنات موسيقية أخرى للتعبير عن صورٍ نفسية ومعاناة حقيقية .
فعلى سبيل المثال لا الحصر نجدها تأتي بالأبيات المصرعة لإضفاء قيمة موسيقية ، ونغمة تتناسب مع المعنى ، والشعور النفسي تقول :
يا عين جودي بدمع منك مهراق
إذا هدى الناس أو هموا بإطراق


وقولها :
يا عين جودي بدمع منك مسكوب
كلؤلؤ جال في الأسماط مثقوب


كما أنها أتت بأبيات مدورة، والتدوير من الظواهر المرتبطة بالأوزان تقول :
إنني قد علمت وجدك بالحمد
وأخلاقك العُنـاة سماحـا
فـارسٌ يضرب الكتيبة بالسيف
إذا أردف العويل الصياحا

ومن الفنون البلاغية استخدمت الخنساء الاستعارة وهي : نقل العبارة عن موضع استعمالها من أصلها اللغوي إلى غيره لغرض التعبير عن قوة التصوير والتخيل والإبداع وإيصال ما يرومُ الشاعر إيصاله إلى المتلقي " كتاب الصناعتين : 275 "
فقد استعانت الخنساء بهذا اللون البلاغي للتعبير عما يجيش في نفسها، وحاولت تلوين نصها بهذا اللون البلاغي، تقول :
بكت عيني وحق لها العويل
وهاض جناحي الحدث الجليل

تشبه نفسها بالطائر الذي لا قدرة له على الطيران من فجيعتها .
كما أنها تستخدم التشبيه لإيصال المعنى إلى المتلقي والتأثير في نفسه تقول :
وإن صخراً لتأتم الهداة به
كأنه علمٌ في رأسه نارُ

ففي هذا البيت تشبه أخاها بالجبل الذي توقد على قمته نار، ثم أصبح هذا البيت مضرب مثلٌ سائر كما أنه استخدمت التضاد والطباق وغيره من صنوف البلاغة، تقول :
وإن كان صخر الجود أصبح ثاوياً
فقد كان في الدنيا يضر وينفع

وقولها :
أيها الموت لو تجافيت عن صخر
لألفيته نقيا عفيف
عاش خمسين حجة ينكر المنكر
فينا ويبذل المعروفا
ففي هذه الأبيات يظهر لون التضاد ( يضر وينفع، المنكر والمعروف ) .
ومن الطباق قولها :
فتى السني كهل الحلم لا مسترع
ولا جامد حق اليدين جديب

كما أنها استخدمت التفسير والتعليل لتشكل بهما رؤريتها وموقفها، تقول :
كل امرئ بأثافي الدهر مرجوم
وكل بيت طويل السمك مهدوم
لا سوقةً منهم يبقى ولا ملكٌ
ممن تملكه الأحرار والروم

فالبيت الثاني جاء تفصيلا وتعليلا للحقيقة التي تضمنها البيت الأول ، وجاء البيت الثالث تعليلاً لما سبق، فكل إنسان يموت وكل بيت يتهدم ولا يبقى سوقةٌ ولا ملكٌ فارس أو رومي، فالحوادث لا يبقى لها أحدٌ والباقي هو الله .وهكذا حاولت الخنساء تلوين شعرها بألوان بلاغية محاولة إيصال المعنى إلى المتلقي، والتفنن في القوافي والتلاعب بالألفاظ للتأثير في نفس السامع ، ونقل المشاعر إلى الآخرين بصورٍ متعددة كما أنها حاولت إظهار شعرها بصورة جميلة وبشكل رائع، يجعل قارئه يتفاعل مع معانيه ويسبح في خيالاته ويعيش المأساة وكأنه صاحبها .
وإني لا أجد تشبيهاً لشعر الخنساء إلا بدم الغزال الذي يخرج من عرقه ودمه بعد إجهاده وإتعابه يقول المتنبي :
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق