التأويل والمكان دراسة في شعر محمود درويش تتجلى تجربةُ الكتابةِ الشعريةِ عند محمود درويش"1942ـ 2008م" في فضاء الحداثة العربية كأنها قطبٌ مغناطيسيٌّ عنيفٌ في قوة جذبِه وأسرِه وبسطِ غوايته على مركز المعمورة الشعرية العربية وعلى أطرافها؛ عبر فتنة التأثير التعبيري الشفيف، وهيمنة مداليل القضية الفلسطينية المشعة في سياقاتها النضالية، والوطنية، والقومية، والإنسانية المقاومة لفعل الطغيان والعدوان؛ ومن خلال وهج طموحه المتوثب صوب غايةٍ منفتحةٍ على مالا يحدُّه حدٌّ أو شرطٌ في مطلق الشعر عربياً وعالمياً؛ يخالجُه وعيٌ ما يلبث أن يتلبسه فيتشربه حتى الثمالة بأنه"مدينة الشعراء" التي بحث عنها في زورق الأوديسة المكسور.من ثم يعلن تساؤله الطموح:"هل أصير مدينة الشعراء يوما؟"(([1] ليأتيه جواب بعض النقاد عن نبوءته التساؤلية في نهاية التجربة مباشراً وحاسماً:" إن تحولات أسلوب محمود درويش على وجه الخصوص تكاد تختزل بشكلٍ مكثفٍ تحولات الشعر العربي المعاصر كله؛ بحيث يصلح نموذجاً جلياً يمكن أن يجعله بالفعل مدينة الشعراء".([2]) وغاية القول في طموح الشاعر بتحوله إلى"مدينة الشعراء" هو حيازتُه للتجربة الشعرية العربية في قديمها وحديثها، وفي تشكلاتها المتنوعة والمختلفة والثرية، وفي تحافها مع الميراث الشعري الإنساني في تزمنه وتزامنه، وكأن الشاعر شاء أن يصير وعاء الشعر أو فضاءه الذي يُرحل إليه طلباً لفرادته ونفاسته، واستجابةً لغوايته وهيمنته؛ بما في ذلك كله من فتنة الجمال الشعري في تجلياته اللامحدودة. وعلى حد قول صلاح فضل فإن الشاعر"يريد أن يصبح مكاناً لجميع الشعراء، والمكان هو بيت التاريخ، والتاريخ صناعة اللغة التي هي أخطر مقتنيات الإنسان".([3]) هذه الفتنة المكانية التي مارست غوايتها على محمود درويش؛ بحيث صارت حلمه وغايته في الحياة الشعرية، هي التي مارست غوايتها على مشروع هذه الدراسة أيضا؛ حيث يتحدد هدفُها في محاولة قراءة تجربة محمود درويش من حافة المكان، أو بالأحرى قراءته قراءةً مكانيةً أو قراءة المكان في شعره من خلال نص التأويل الذي تنتهجه هذه الدراسة في علاقتها بالنص. على أن تأطير الدراسة يرتسم في ثلاثة أقسامٍ رئيسةٍ تتعاقب وتتكامل هي: التأويل، والمكان، ونص التأويل – قصيدة الجسر. هو ما تُفَصِّلُه الدراسة على النحو الآتي: 1:التأويل: 1ـ1: تحرير المصطلح: (ضبط التصور): لا غرو أن تُملي ضرورة تحرير المصطلح تأمله في الأفق التداولي له. ويبدو أن إجراء أية ممارسةٍ تأمليةٍ لوضعية مصطلح" التأويل" تفضي إلى استنتاجٍ بيِّنٍ مفادُه تعدد الرؤى وتباين مساحة المقاربات النقدية والدينية التي أنجزت اشتغالاً عليه يختلف في المرجعية والغاية. وإذا كان معلوماً في شأن هذه الدراسة، أنه ليس من مرادها هنا إنجاز تحقيق أصولي أو تقرٍّ عميق متسع في شأن مقاربة المصطلح ورصد شجرة نسبه في المتون اللغوية والمعرفية والدينية والأدبية والفلسفية، فإنه من الحتمي، في منطلق بناء الدراسة ذاتها، الوقوف على مقاربةٍ تحريريةٍ وجيزةٍ تروم بناء تصورٍ اصطلاحي عن "التأويل" عامة وعن "التأويل" الذي تنتهجه الدراسة في علاقتها بالتجربة المكانية في شعرية محمود درويش خاصة. اتكاءً على هذا التأسيس تتجلى المرجعية اللغوية عبر النص المعجمي مفيدةً في التوطئة للتصور الدلالي عن التأويل. فقد ورد في"القاموس المحيط" قوله:" أوَّله إليه: رجَعَه...وأوَّل الكلام تأويلاً، وتأوَّله: دبّره وقدّره وفسّره. والتأويل: عبارة الرؤيا"([4]). إن المفاد الدلالي لنص المعجم يتجلى في الأبعاد الآتية: أـ إن التأويل هو إرجاع إلى الأول، وكأنه فعلٌ يبحث في الجذور وعن الأصول المطمورة. ب ـ إن التأويل اشتغالٌ عقليٌ على الأمر المؤوَّل يبتغي الإحاطة به عبر فعل التدبر، وتقييمه من خلال المَعْيرة والوزن في التقدير؛ وكأنه سعيٌ لفتح مدار الاشتغال العقلي على مجاوزته الجزئي الظاهر في المساق إلى الكلي المتواري في السياق وحيثيات ملابساته. ج ـ إن التأويل طاقةٌ متوثبةٌ صوب ثقب الغياب واستشراف المستقبل من خلال قدرته على"عبارة الرؤيا"، أو"عبورها" على حد نص القرآن الكريم في شأن رؤيا الملك في مصر زمن يوسف الصديق:"أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون"([5]). على أن وعينا بعبور الرؤيا هنا يؤشِّر إلى أمرين دلاليين: 1ـ إن ارتباط عبور الرؤيا (تعبيرها/تفسيرها/تأويلها) بالإفتاء(افتوني) يفيد طلب الحكم في أمرٍ مشكلٍ أو خفيٍ عبر فعل الكشف والتجلية بإزالة كثافة الإلغاز أو المجاز أو الرمز في متن الرؤيا. 2ـ إن ارتباط عبور الرؤيا (تأويلها) بالإنباء عما هو واقع في الغيب، وسوف يقع في المستقبل، كما في شأن صاحبي يوسف الصديق في السجن:" نبئنا بتأويله إنَّا نراك من المحسنين"([6])، وقول يوسف عليه السلام في نص الآية الكريمة التي تعقب آية صاحبيه: " لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتُكما بتأويله قبل أن يأتيكما "([7])، هو إماطة السدف وكشف المحجوب في إطار قراءة المُعَبِّر/ المؤوِّل للمتن وللسياق الحاكم لمتن الرؤيا معاً في بعد عرفاني إشراقي يقنص المعرفة المستترة ويعري أبعادها؛ فكأن التعبير/التأويل قراءةٌ في الحال والمقال في آنٍ. د ـ إن نص المعجم جمع بين التأويل والتفسير على صعيد واحد.وهذا شأنٌ مدارُ الاختلافِ فيه بيَّنٌ على تفاوتٍ في مساحاته ورؤاه. على أن مغادرة الفضاء المعجمي الحرج إلى فسحة الاصطلاح العام تفضي إلى ضرورة تَبَصُّرِ الفروق التصورية في بناء الوعي الاصطلاحي بالتأويل من وقت إلى وقت، ومن متن معرفي إلى متن معرفي مغاير. وغاية القصد من هذه الإشارة الموطئة لحيز الاصطلاح التأويلي هو أهمية التنبه إلى البناءات التصورية التي تقيمها حقول المعرفة المختلفة تاريخياً ونوعياً لمصطلح التأويل. ومفاد هذا أن وعي المعرفة الدينية ـ وهي المتن الأهم استحواذاً في الأفق الثقافي العربي الإسلامي ـ بالتأويل يتغاير مع وعي المعرفة الفلسفية، والأدبية والتاريخية...، بل إنه يمكن الإيحاء بأنه يتغاير في المتن المعرفي الواحد كما هو واقع في تطور المعرفة الدينية بصفة عامة. ومن هنا يتأطر تصور"التأويل" في وعي السيوطي بوصفه نموذجا للمقاربة الدينية للنص، على هذا النحو:" التأويل ما استنبطه العلماء العاملون لمعاني الخطاب الماهرون في آلات العلوم"([8]). ثم أورد تعريف قومٍ آخرين للتأويل منهم البغوي على هذا النحو:"التأويل صرف الآية إلى معنى موافقٍ لما قبلها، وما بعدها تحتمله الآيةُ، غيرَ مخالفٍ للكتاب والسنة عن طريق الاستنباط"([9]). غير أن المائز الذي يُرجى الالتفات إليه في المتن الاصطلاحي الديني للتأويل هو إبراز الفرق بين: التأويل، والتفسير؛ حيث فرَّق العسكري بينهما على نحوٍ مؤداه أن التفسير هو" الإخبار عن آحاد الجمل، والتأويل الإخبار بمعنى الكلام، وقيل التفسير أفراد ما انتظمه ظاهر التنزيل والتأويل الإخبار بغرض المتكلم بكلام"([10]). وبه نفهم أن حدود التفسير تقتصر على الجزئي الظاهر في الألفاظ المشكلة، وفي ظاهر مجمل الخطاب، وقد يرتبط عند بعض المفسرين بالسماع والرواية الشفاهية، في حين أن التأويل بحثٌ عن مقصدية الخطاب يستند إلى الدراية والخبرة والغوص في مرامي الكلام والمتكلم مستفيدا من الاستقراء والاستنباط والافتراض والمقايسة. من هنا يفاد من العلاقة بينهما دخول التفسير الذي هو جزئي وظاهر ضمن إجراءات التأويل الذي هو كلي وعميق يحوز المساق والسياق معاً. على أنه من الأهمية بمكانٍ التأكيد على أن هذه الإشارة التي قنعت بها الدراسةُ هنا في شأن التفريق بين التأويل والتفسير وآمنت بمرادها الموحي بانفتاح التأويل على الأشمل والأغور في الإحاطة بالنص ومراداته، وبالمتكلم وغاياته، ليست القول الوحيد في شأن ماهية العلاقة بين التفسير والتأويل؛ إذ هناك من يرى توحد أو تقارب كل من: المعنى، والتفسير، والتأويل، وأن هذه الثلاثة ـ على حد قول ابن فارس ـ وإن"اختلفت فالمقاصد بها متقاربة"([11]). لكن الدراسة تحسب أن النزوع إلى التصور المائز بين التأويل والتفسير هو الجدير بالاتباع، وهو ما سيتم العمل به والاشتغال عليه؛ إذ إن"التأويل تفاعلٌ معرفيٌ بين بنيةٍ ذهنيةٍ وبنيةٍ نصيةٍ وبنيةٍ سياقيةٍ مؤطرةٍ لهما، وبنيةٍ من النصوص الغائبة والعلوم المرجعية؛ لذلك فإنه يحتوى التفسير باعتباره نظراً في الظاهر"([12]). من البين أن نغمة الإشارات التصورية السالفة إن لم تكن قد أبانت عن فحوى التأويل بقدر كافٍ فإنها ـ حتما ـ وطَّأت للتساؤل المباشر عنه: ماهو التأويل؟ وأي تأويلٍ تتكىء عليه الدراسة في مختبر اشتغالها على التجربة المكانية في شعر محمود درويش؟ إن هذا السفور في تجلي السؤال عن ماهية التأويل وهويته، هو الذي يلزم بوعي التمايز بين الديني والأدبي، أي بين تصور الاشتغال التأويلي على نصٍ مقدسٍ في متنٍ معرفيٍ له حدوده ومحاذره، وبين الاشتغال التأويلي على نصٍ أدبيٍ بخاصةٍ؛ حيث هو مدار المغامرة في علاقته بآليات التأويل ودراية المؤِّول. ومفاد هذا التمايز الرئيس هو إدراك أن تحرير المصطلح هنا لا يتلبس الإطلاق، وإنما يتشبث بالنسبي الخاص بحقل المعرفة المنتمي إليه النص المؤوَّل وحدود رؤى المؤوِّل ذاته في التقيد والانفتاح، أو القصد والإفراط. بناءً عليه يمكن أن تُقبل تصورات محمد بازي في مشروعه التأويلي العربي الإسلامي في إطار الثقافة الحاكمة للنص والمؤوِّل. وبه يمكن رصد تصوره للتأويل في أكثر من صياغةٍ على النحو الآتي: 1ـ قوله:" التأويل فيما نرى، كل فعل قرائي يروم بناء المعنى، استناداً إلى أدوات ومرجعيات وقواعد في العمل، والتزام مطلق بحدود البلاغة التأويلية، وهي خلاصة تجارب جماعية في تأطير الفهم وبلوغ الدلالة"([13]). 2ـ قوله:"مفهوم التأويل، كما نتصوره، فهو جهد ذهني ومهارة في تشييد المعنى، استناداً إلى آلات العلوم؛ جهد ومغامرة نحو معنى في طريقه إلى الانكشاف والتشكل، وذلك بصرف البنية، موضوع الفهم إلى معنى محتمل، أي إنجاز افتراضات واستقصاء أكثرها موافقةً لمساقها من الكلام، وأكثرها تناسبا مع القصديات الكبرى للخطاب القرآني، إنه اشتغال ذهني مرفق بالدليل الراجح والإحالة على مرجعيات قوية ومقبولة"([14]). 3ـ لقد قاد تمحيصُ التعريفات العديدة المؤلفَ إلى ضرورة الوعي بـ"التأسيس لزاوية نظر، ترى في أفعال التأويل مجموعة من العمليات الإدراكية والتمثيلية بإزاء نصٍ موضوعٍ في أفق بناء معانيه اعتماداً على خطوات متدرجة"([15]). إن ما تقدمه الدراسة في الحيز السالف، على هيئته السالفة ـ مع الاعتذار عن طول بعض مقتبساته ـ يكشف عن لدانة الدلالة الاصطلاحية وتمددها في سياق مرن يسمح بالإعادة والتكرار في مساحات تضيق وتتسع بغيةَ الإمساك بزاوية تصورية أو دلالية، أو إجرائية في محاولة المؤلف تحرير مصطلحه الذي يشكل جوهر مشروعه العلمي فيما أنجزه. غير أن وعي الدراسة بما قدمه محمد بازي يُلزم بالإشارة إلى الآتي: 1ـ إن تعدد التصورات التي يقدمها بازي باثاً إياها في مواطن متناثرة في العمل، يومىء بوضوح إلى الماهية المراوغة والهوية الملتبسة للتأويل، وأنه عُني بارتياده وترويضه في مسعاه لتأسيس مرتكز دلالي وإجرائي يمكنه الاتكاء عليه في الاشتغالين: التأسيسي، والتطبيقي معاً. 2ـ إن الأس المراوغ للتأويل لا يعرف واقع أزمة تحرير المصطلح فحسب؛ وإنما هو- فوق ذلك وأهم منه ـ يكشف عن انفتاح دلالة السمة التصورية التي تحكمه في منظومة المصطلح؛ بما يؤكد نسبية أي اشتغال اصطلاحي عمد إلى تثبيته وقولبته، وأن تأطير دلالة السمة التصورية سيظل مفتوحاً مع تنوع المتون المعرفية، وتبدل ملابساتها، وتغاير مرجعياتها، وتباين أيديولوجيات المؤوِّلين. 3ـ إن إقرار بازي بأن التأويل "مغامرة" نحو معنى خفي تروم كشفه أو بناءه أو تشكيله، يؤكد أن كلاً من التصور والإجراء شأنٌ ذاتيٌ احتماليٌ في علاقته بالمؤوِّل،وأنه محفوفٌ بخطر الخطأ في علاقته بالنص المؤوَّل وفحوى الكشف عن مقاصده وغاية مؤلفه. إن الإجراء التأويلي حفرٌ متأنٍ في جدارية النص..، إنه رحلة اشتغال بالبحث والتنقيب والاستقراء والاستنباط والافتراض والتخمين والتساؤل. وبه فإن كشوفاتها ـ مهما عظمت ـ تظل مرتهنةً في قبولها أو رفضها بمدى الاتساق مع المساق والسياق معاً. وهذا فيه من الاحتمال والتعدد أكثر مما فيه من الآحادية واليقين. 4ـ إن التصورات التأويلية التي يقدمها محمد بازي، وبالضرورة المشروع الذي يؤسِّسها وينضوي فيها، هي تصوراتٌ تنتمي إلى المتن المعرفي الديني أكثر من انتمائها إلى المتن المعرفي الأدبي، وأن همها الأعظم هو النص القرآني العظيم، وإن عرجت على بعض النصوص الأدبية وسيلةً لبلوغ مأربها التأويلي في علاقتها بالقرآن الكريم. ومفاد هذا الكلام عند بازي ـ فيما ترى الدراسة ـ هو انشغاله بثنائية الحق والباطل، الصدق والكذب، الخير والشر،الحلال والحرام، صواب الحكم أم بطلانه..، إن ما يقدمه بازي يمكن وسمه بأنه تأويلٌ دينيٌ في عمومه، وتأويلٌ قرآنيٌ في خصوصه، ومدى ارتباط هذا التصور بقوة الأدلة والأقيسة وعلاقتها بالمقاصد الكبرى للشريعة في أبعادها الأصولية والتاريخية والفقهية وغيرها؛ برغم ما ساقه بازي من تأويلات شعرية. وإذا كان لهذا من أهمية، فإنها تتمثل في إدراك حدود التأويل ومدى رحابته وانفتاحه أو حرجه واكتنازه في متن المعرفة الدينية. وفي وعي الدراسة فإن شأن تأويل النص الأدبي بعامةٍ والشعري بخاصةٍ قد يقارب هذا أو يتحاف معه في بعض زوايا أو مواطن، لكنه - يقيناً - يبتعد عنه في المقصد الذي يتجاوز حفريات المعنى الخفي إلى الانفتاح التأويلي الذي قد يصل إلى حد الإفراط. وهذا شأن يلزم ببلورة تحرير المصطلح أدبياً في الحيز الآتي. تتبدى الدراسات الأدبية في بعديها: التأصيلي الاصطلاحي، والإجرائي النقدي، مكترثةً بشدةٍ بهمِّ التأويل حتى ليبدو المتنُ المعرفيُّ الأدبيُّ محتشداً بنسبةٍ قد تُوحي باللغط من فرط التجاذب والسجال. على أن الوعي بهمِّ الدراسة في علاقته بتجربة درويش يقف مانعاً صلباً من الوقوع في غواية الاختلاف وفتنته حتى لا يستنفد طاقةً فيما ليس من مقصد الدراسة. ومع الوعي بهذا الاحتراس فإن الوقوف على السمة التصورية الأدبية أو النقدية للتأويل شأنٌ يتجلى بالغَ الأهميةِ في متغيا الدرا سة وصلب مشروعها. ومن ثم ترصد الدراسة التصورات الآتية: 1ـ ما أورده دليل الناقد الأدبي في الحدين الأدنى والأوسع وهو: أ ـ "التأويل في أدق معانيه هو تحديد المعاني اللغوية في العمل الأدبي من خلال التحليل وإعادة صياغة المفردات والتراكيبب ومن خلال التعقيب على النص"([16]). ب ـ "التأويل في أوسع معانيه...هو توضيح مرامي العمل الفني ككل ومن خلال مقاصده باستخدام وسيلة اللغة. وبهذا المفهوم ينطوي التأويل على شرح خصائص العمل وسماته مثل النوع الأدبي الذي ينتمي إليه، وعناصره وبنيته وغرضه وتأثيراته"([17]). 2ـ تصور أمبرتو إيكو عن التأويل على هذا النحو:"أن تؤوِّل نصاً يعني أن تفسر لماذا يمكن لهذه الكلمات أن تفعل أشياء شتى(لا غيرها) عبر الوسيلة التي يتم تأويلُها بها"([18]). وفي مسرد المصطلحات الواردة في كتاب إيكو ذاته، ورد تصورٌ عن التأويل على أنه" فهمٌ يحدث بمقتضاه امتلاكٌ للمعنى المضمر في النص من جهة علاقاته الداخلية وكذا علاقاته بالعالم والذات"([19]). 3ـ ما ذكره إيزر في متن نظرية التلقي عن التأويل في القديم والحديث كما يأتي: أ ـ إن الأسلوب القديم في التأويل، رغم احترامه للنص، كان يضيف معنى آخر للمعنى الحرفي للنص"([20]). ب ـ "الأسلوب الحديث للتأويل فإنه يحفر، وأثناء الحفر يحطم، يحفر هذا التأويل" وراء" النص ليصل إلى النص التحتيsub,,,, الذي هو النص الحقيقي...فللفهم لا بد من التأويل، وللتأويل لا بد من إعادة شرح الظاهرة للعثور على مقابل لها"([21]). لعل من الحكمة التواضع بإقرار الازدحام الذي يغص به المتن المعرفي الأدبي في بعده الإجرائي لرسم تصورات عديدة عن التأويل، وإنه لمن اليسر لأي باحث جمعها وسردها في متنه البحثي، مع الوعي بعدم كثرة الفائدة المرجوة من الحشد والتكرار. لكن الثابت في وعي الدراسة هو انفتاح سؤال التأويل أبدياً على استجابات محدثات النصوص ورؤى النقاد معاً. وبه فإن أي تصورٍ للتأويل لا يرتكز على هذه القاعدة الجوهرية فيظل مفسحاً لنبوءات المستقبل ومفاجآته..، قد يجانبه الصواب. من ثم تعزم الدراسة على تحرير التصور الاصطلاحي للتأويل الأدبي الذي تروم الاشتغال عليه على النحو الآتي: التأويلُ الأدبيُّ هو الاشتغالُ العقليُّ النقديُّ المنهجيُّ المستنفدُ لجميعِ طاقاتِه الإجرائيةِ على النصِّ؛ ابتغاءَ كشفِ معناه باطناً وظاهراً، وإعادةِ بنائه وتشكيله انسجاماً مع مقاصدِ الكاتبِ والنصِّ والقارىء، وفقَ القواعدِ والمرجعياتِ المُؤطِّرةِ لبنيتي المساقِ الداخليِّ والسياقِ الخارجيِّ في علاقتِهما بالذاتِ المؤوِّلة وبالعالمِ في سياقٍ نسبيٍّ ليس فيه سمةُ اليقينِ. انبثاقاً من هذا التصور فإن وضعية التأويل تطرح ثلاثة أسئلة جوهرية هي: 1ـ ما علاقة التأويل بالمعنى وبالقصد؟ 2ـ ما معيار التأويل وحدوده؟ 3ـ ما وظيفة التأويل وغايته؟ هذه الأسئلة هي التي تمهد للإجابة عنها فيما هو آتٍ من أحيزة الدراسة، كما سيتضح تواً. 2ـ1: المعنى والقصد: تعي الدراسة أن منعقد "المعنى"شأنٌ يكثر فيه القول. ولعلها تؤشِّر إلى هذا احترازا منها لعدم التوسع فيه، وإنما حسبها منه الوقوف على جوهره الدال والمفيد في سياقها التأسيسي للتأويل ومدى تعلقه بالمعنى والبحث فيه وعنه وإخراجه من كمونه وسريته إلى البناء والارتسام في خطاب علني ينبني على مقاصد الكاتب والنص والقارىء ٍ. إن جوهر الشأن هنا يتعلق بطبيعة المعنى عامة. وبالمعنى الشعري خاصة. ولئن تيسر لأية دراسة أن تلم بتصورٍ عن المعنى أن تقول في بساطة: إنه ما عناه العاني وقصده حين تكلم بكلامه، فإن من اليسر أيضا الزعم بأن شأن المعنى أكثر عمقاً وتعقيداً من مثل هذا الطرح. ولقد أشَّر بول ريكور في "صراع التأويلات" إلى هذا الواقع المعقد بقوله:" إذا استطاع نصٌ من النصوص أن يحتوي على عددٍ من المعاني، كأن يكون، له معنى تاريخي مثلاً ومعنى روحي، فيجب اللجوء إلى مفهوم فى المعنى أكثر تعقيداً من ذلك الذي يكون للإشارات في المشترك اللفظي والذي يتطلب منطق البرهنة"([22]). اتكاءً على هذا النزوع التعقيدي للمعنى، تسبر الدراسة زاوية تتأطر فلسفياً في الظاهراتية؛ حيث التماهي بين المعنى والمعرفة والإنسان. فالإنسان ـ وفق هذه الرؤية ـ وجود معرفي، أو هو صيرورة معرفية وتحقق حركي لممكنات حقيقته الإنسانية التي"ليست شيئاً آخر سوى المعنى الذي يشتقه الإنسان من المعرفة، ولذلك فإن سؤال المعنى يردف سؤال الإنسان نفسه من حيث إن المعنى هو في النهاية تأويل الإنسان لذاته ولمعرفته تأويلاً غائياً يكسب نظاماً ومنطقاً داخلياً فيتحقق عالماً"([23]).هكذا يدخل المعنى في تأسيس معرفة الإنسان مثلما يدخل في تأسيس هويته؛ إذ يتمظهر كائناً خُلق للمعنى وبه ولخلقه. إن الحديث عن المعنى العام يقود حتماً إلى الحديث عن "القصد" ومعنى ارتباطه بالوعي بوصفه مبدأ وجودياً ومعرفياً، ولئن كان القصد يتحدد أولياً في أنه توجه حركة أفعال الوعي والفكر إلى الشيء الذي تريد وعيه ورغبتها في الإحاطة محاولةً استغراقه وما نجم عن هذه الإحاطة وذلك الاستغراق من معرفة كاملة أو شائهةٍ، فإن الطابع القصدي للوعي يتجسد في قدرته المجهرية على السبر والإحاطة والاستكناه من خلال التركيز والكشف والربط العلائقي للظاهرة بغيرها من الظواهر الأخرى المتاخمة لها أو المتداخلة معها أو المقابلة لها في الطرف النقيض. وبه فإن "القصدية ليست سوى فعل يعنى، والماهية التي يسعى الوعي إلى إدراكها في الظواهر هي المعنى الذي يستنتجه منها أو يسبغه عليها ويؤسسه فيها عن طريق القصد"([24]). قد يكون مسوغاً الانتقال من الدلالة الجزئية للمعنى العام إلى الدلالة الكلية للمعنى في العمل الأدبي بعامة وفي النص الشعري بخاصة. ورغبةً في طي كثير قولٍ هنا، تخلص الدراسة إلى استصفاء خصائص المعنى في النص الأدبي العام وفي النص الشعري خاصة ليتبين لها أنها خمس توردها الدراسة على النحو الآتي: 1ـ السرية والغموض: إن النص الأدبي لا يسعى لحيازة المعاني المكشوفة أو العادية؛ وإنما يتعمد تغميضها وإزاحتها إلى ما وراء الدلالة المعجمية إلى حيث متاهات الدلالة المجازية والرمزية والأسطورية والتشتيت والتشعيب. وهكذا تتبدد الحقيقة فيه بتعمدٍ، ويصبح الظاهر منه مضللا إذا تمت القناعة به من دون سبر ما ورائيته. وهكذا "تصبح الحقيقة مطابقةً لما لم يُقل، أو ما قيل بشكلٍ غامضٍ وينبغي فهمه فيما وراء أو تحت سطح النص"([25]). وإذا أُخذ بالمفهوم الهرمسي في شأن الحقيقة وسريتها، فإن" كل شيء أرضياً كان أو سماوياً يخفي سراً، كلما اُكتشف السر، فإنه يشير إلى سر آخر في حركة تتقدم صوب السر النهائي"([26]). إن السرية والغموض اللذين يتشي بهما النص يكسبانه جاذبية وفتنة وغواية أكثر من أثرهما في الحجب والمنع. 2ـ المراوغة والحركية: إن عفوية الغموض في النص الشعري تحديداً تمنحه قابلية الحركة والمراوغة والتفلت. ولعل هذا ما تنبه إليه جلال الدين الرومي قديما بقوله:" المعنى في الشعر لا يكون خاليا من الغموض وهو كحجر المقلاع لايمكن السيطرة عليه"([27]).إن الوعي بحركية الدال والافتنان باللعب به وتحويله إلى معلم رئيس من معالم شعرية الحداثة ومابعدها، تؤكده النزوعات التفكيكية في فلسفة ما بعد الحداثة؛ حيث التأكيد على أن مجمل المعنى لا يستقر في الدال وإن أشار إليه وأوحى به. إنه" ليس صعباً إدراك فكرة الانزلاق المستمر للمعنى. وقد عبر بول فاليري عن الفكرة، فبالنسبة إليه لا يوجد معنى حقيقي للنص"([28]). وليس غريباً على الشعر مفهوم المعاني الثواني، والمعاني المجازية وكثافتها بفعل الانحراف أو العدول أو المعنى المضاعف الذي نبه إليه بول ريكور مؤكداً أن"أي تعبير له أبعاد متغيرة، فهو إذ يعني شيئا فهو في الوقت ذاته يعني شيئاً آخر من غير أن يتوقف عن أن يعني الأول"([29]). وبه فإن المعنى في الشعر يقيم دائما في الـ"ماوراء"، وأن "القصيدة" تقول شيئا وتعني شيئا آخر. فالسر الذي يضيء كل ماهو عميق ومهم ينتج الخطأ القائل بأن كل ما هو غريب ومهم شيء أساس"([30]). من هنا يصبح الشعر عدولاً دلالياً، وخطأ متعمداً، وتكتماً، وتأثراً، وقلقاً في سياق حركي زلق. 3ـ الانفتاح والتعدد : إن المعنى الشعري، وبخاصة في نصوص الحداثة وما بعدها، وفي كل شعر أصيل عميق قديما كان أو محدثا، يروغ من الأحادية والانغلاق والاستقرار. إنه طاقة دلالية ذات إيحاءات عديدة توميء إلى إطلاق الإمكان في توجيهه وتلوينه وبنائه وتشكيله. من هنا ينفر المعنى الشعري من سمة اليقين، والأكيد، والقول الفصل، وادعاء الحقيقة. ولقد استقر هذا في سيرورة الوعي بالشعر وفي ماهية الشعر وهويته؛ إذ يؤكد فيليب سدني، منذ القرن السادس عشر أن"الشاعر نفسه لا يؤكد شيئا"( [31]). وإن عرض تأكيد في نصه فإن غايته هي إثارة القارىء نحو الرفض. وإنه لصحيح أن "أي نص يدعي تأكيد شيء واضح المعنى هو كون مجهض"([32]). من هنا يتبدى المعنى الشعري كوناً مفتوحاً على إمكان التأويل واستنباط ما لايحصى من الترابطات والعلائق؛ ذلك أن ماهية الشعر وهويته يؤشران إلى خاصية جوهرية فيه تظل مفتوحة على مدارات الاختلاف والتعدد؛ حيث " يقدم الشعر شيئاً يظل مفتوحاً على جميع أنواع القول التخييلي"([33])، كما يراه غادامر في تأسيسه لتأويل فلسفي؛ لكأن المعنى ـ في وعي الدراسة ـ ومن ثم في ارتباطها به، كون من الطبقات والرؤى والأوجه تتجلى للقاريء حسب إمكانياته هو في السبر والوعي والإحاطة والاستغراق. إن مسألة الحقيقة هنا ـ حسب فلسفة بول ريكورـ لم" تعد مسألة منهج، ولكنها مسألة تجليات الكائن"([34]). | |
|
| ||||
| 4ـ الفراغية والنقصان: بما أن المعنى ليس ثابتاً فلا يمكن الإحاطة به؛ وبما أنه ليس كاملاً في الكتابة كما في أدبيات التفكيكية وفلسفة ما بعد الحداثة، وكما أنجزه جاك دريدا تحديداً، فإن المعنى الذي هو ماهية النص وجوهره يظل ظاهرةً محيرةً؛ حيث يتبدى كامناً في بطن الشاعر وفي بطن النص، وفي بطن القاريء في آنٍ. وهو في كمونه في الأحيزة المختلفة يتجلى احتمالياً لا يقين فيه. ولعل هذا يفسر منطق الفراغات والنتوءات المسكوت عنه في النصوص. ووفق نظريات التلقي فإن القاريء هو الذي يمارس اشتغاله على المعنى بسد هذه الفجوات. لقد أشر إيكو إلى أن النص"نسيج من الفضاءات البيضاء، والفجوات التي يجب ملؤها، وأن الذي أنتجه (أرسله) كان، ينتظر دائماً بأنها ستملأ"([35]). إن النص الممتلىء بعناصر الإثارة وإمكانيات الجمال...، يظل مرتهناً في التعيين والاشتغال والتخمين بفاعلية القاريء في تحكيك هذه المقدرات النصية وبناء المعنى بها وفيها محاولاً ملء الفراغ وإكمال النقصان من دون الاقتناع بأن ما يقدمه - مهما عظم ـ قد قال كل شيء في حقيقة المعنى النصي الناقص دائما. وحسب تودوروف فإن"النص مجرد رحلة خلوية يجلب فيها الكاتب الكلمات بينما يجلب القاريء المعنى"([36]). غير أنه معنى وإن تغيا ملء الفراغ وإكمال النقص فسوف يظل ناقصاً من جهة أنه احتمال لا يقين فيه ولا كمال. 5ـ الكلية والشمولية: إن جل ما تتوخاه الدراسة في حيزها هذا، هو الإشارة إلى ضرورة الوعي بالطابع الكلي أو الشمولي للمعنى الشعري في النص؛ إذ لم يعد بوسع القاريء الاشتغال على علاقة تأويلية تتكيء على النثريات والجزئيات. إن المعنى الشعري المراد هنا هو ما يتجاوز التأويل في علاقته به وبالنص، المفردات اللغويةَ، والجملةَ، والعبارةَ والمقطعَ، إلى حيث استيعاب الخطاب كله، والتشبث بالمقصد الجمعي الذي يظلل ويهيمن على مكونات النص الجزئية؛ إذ بات مؤكداً أنه" لم يعد تصور المعنى مقصوراً على الدلالة أو المعجم، بل أصبح إنتاجاً يعممه مجموع الخطاب"([37]). من ثم فإن عملية التأويل ابتغاءَ إنجاز مأربها من النص تمدد ظلال المعنى من المساق النصي كله إلى المرجعية السياقية الملامسة لحيثيات تكونه ووجوده، وهو ما يجعل المعنى كامناً في النص وفي سياق النص أيضاً، وعلى المؤوِّل الاشتغال عليهما معا. إزاء هذه الخصائص المميزة للمعنى الشعري فإن محاولة حيازته ترتبط بقضية القصد. لكن الشأن هنا يحتم التساؤل: أي قصد نقصده؟ أهو قصد المؤلف من عمله؟ أم هو قصد العمل/النص؟، أم هو قصد القاريء المؤوِّل للنص؟ إن التأويل لا يمكنه أن يُنجز بعيداً عن إدراك هذه الثلاثية المشتبكة بتداخلها المعقد. غير أن التأويل في جوهره قد لا يعبأ كثيراً بقصد المؤلف، في حين يكون المحك هو قصد النص وعلاقته البنائية والتشكيلية بقصد القاريء المنتج للمعنى من خلال النص. ولعل هذا ما أشَّر إليه ستيفان كوليني بقوله:"إن القصد ما قبل النصي للمؤلف ـ الغايات التي ربما أدت إلى محاولة كتابة عمل معين لا يمكنه أن يزودنا بحجر محك التأويل، بل إنه قد يكون غير متصل بالموضوع ـ مضللٌ كدليل لمعنى أو معاني النص"([38]). أما قصد النص فإنه يمكن تحديده وفق الآتي: 1ـ إن قصد النص، أيا كانت درجة الغموض والانفتاح فيه، فهو المصدر الأساس للاشتغال على بناء المعنى. إنه بؤرة الانبثاق والمرتكزبوصفها إجباراً للقاريء يحددان منطلقاته وحدوده. 2ـ إن قصد النص "لا يكشف سطح النص، أو، إذا كشفه فسيكون ذلك في شكل رسالة مختلسة"([39]). من ثم يتلبس قصد النص المبني من لدن القاريء سمةَ التخمين لا اليقين. 3ـ إن قصد النص ـ وفق رؤية إيكو في القاريء المثالي ـ هو"أساساً إنتاج قاريء مثالي قادر على القيام بتخمينات حوله"([40]). 4ـ إن إدراك قصد النص فحواه إدراك استراتيجيته السيميوطيقية. 5ـ إن البرهنة على قصد النص مرتبطةٌ بالتماسك النصي والنظر إليه بوصفه كلاً مترابطاً. في هذا السياق فإن قصد القاريء المنبثق أساساً من قصد النص، إنما يُحيِّنُه فعل التأويل وحدوده وغاياته كما سيتبين لاحقاً. 3ـ1:حدود التأويل: (التأويل والتأويل المفرط): ثمة تأويلٌ معتدلٌ، وتأويلٌ مفرِّط،ٌ وتأويل مفْرِطٌ.فما هي حدود المساحة التي يمكن للتأويل أن يتحرك فيها في علاقته بالنص المؤوَّل؟ ولئن كان معلوماً للدراسة، مثلما هو معلوم لكثير من الدارسين والنقاد، أن هذا المبحث تختلط فيه الأقاويل بين مؤيد ومعارض، فإن المقتضى الأصولي لكل ممارسة تأويلية، هو أن تكشف عن دقة وعيها بملابسات الشأن التأويلي ومدى انحساره أو انفتاحه بين حدين متناقضين هما: الإفراط والتفريط، أو تماثله مع الحد الأوسط القائم على الحكمة والاعتدال.وإذا كان حد التفر يط ملفوظاً أو مرفوضاً بداهةً، فإن جوهر الإشكالية يتقلص في حدود التأويل والتأويل المفرط. فالأول في طرفي هذه المعادلة موسومٌ بالاعتدال والحكمة الموضوعية، في حين يُوسم الثاني بالهوس والتجاوز؛ حيث مطلق الانفتاح على ما لا ينتهي من المعني من دون قيد أو شرط. على أية حال فإن الدراسة لا تشاء الانغماس في هذا الإجراء التأسيسي؛ حيث إنه مفصل في مظان عديدة؛ ولكن حسبها منه الإبانة عن احتراسها واحترازها في شأن ممارستها التأويلية لنص محمود درويش من خلال التأويل المكاني. من ثم يتوجب الإشارة إلى الآتي: 1ـ إن الدراسة تؤكد على خصوصية مقتضيات تأويل النص المقدس، وأن شأن الانفتاح في تأويله مغامرةٌ قد لا تكون محسوبةً ولا مأمونةً، فلا بد من التقيد فيه بقيود اللغة والأسلوب والسياق والثقافة الحاكمة والسلطة الدينية القائمة عليه؛ نظراً لما يترتب على هذه النصوص من محاذير وأمور قد تُحِلُّ حراماً أو تُحرِّمُ حلالاً، أو تُحدث فتنةً أو خطراً في مجتمع ما. وقد نبه إيكو في طيات رؤاه التأويلية على هذا الاحتراز في الثقافة الأوربية بقوله:" في حالة النصوص المقدسة بالفعل، فلا يمكن أن نسمح لأنفسنا بالكثير؛ حيث إنه عادةً ما تكون هناك سلطة دينية وتراث يسعى إلى الاحتفاظ بمفتاح تأويله"([41]). 2ـ إن متغيا الدراسة هو تأويل النص الأدبي، وأن حد التأويل الذي ترتضيه؛ ومن ثم تمارسه، هو حد الانفتاح في تأويل النص الأدبي عامة، والشعري خاصة. 3ـ إن الدراسة تعمد إلى تبئير الحدين المتقابلين في التأويل بغية الإبانة عن حيثيات رؤيتها وآفاق ممارستها. من ثم تؤشر إلى كل من التأويل (المعتدل) والتأويل المُفْرِط على النحو الآتي: الأول: التأويل المعتدل: يقود هذا التصور تأسيساً وممارسةً أمبرتو إيكو منطلقاً في وعيه بمعيار التأويل من تجربته التنظيرية في كتابه"السيميائية وفلسفة اللغة" محدداً موقفه من العلامة؛ حيث إزاحة مفهوم الاستبدال الثنائي بين العلامة والمدلول ليحل مكانه وجوب التأويل المحتمل. من ثم نعي أن ممارسة التأويل تجاه العلامة لا يمكنها الاكتفاء بكشف الموضوع المباشر، أو المضمون الكلي للعلامة في حرفيته؛ وإنما يعمد التأويل إلى التوسع الدلالي في مراحله المختلفة.يقول إيكو:"معيار التأويل يسمح بالانطلاق من علامة لقطع كامل دائرة توليد الدلالة، المرحلة تلو الأخرى...العلامة هي دائما ذلك الشيء الذي يفتح على شيء آخر. لا نجد مؤوِّلا لا يحول أثناء توضيح العلامة التي يؤوِّلها ـ ولو بصفة طفيفة ـ من حدودها "([42]). غير أن إيكو ومن معه، برغم اعترافه بأنه"لايبدو مبرهناً على وجود أية معايير شكلية يمكن بحسبها لهذه الحدود أن تتأسس في مصطلحات نظرية"([43])؛ فإنه عمد إلى تدعيم رؤيته التأويلية في مواجهة رؤى التأويل المفرط بعدد من الحيثيات التي يمكن التأشير إليها في الآتي: 1ـ خصائص النص: وقد أشار إلى هذا بقوله:"إن خصائص النص ذاته تضع حدوداً لنطاق التأويل المشروع"([44]). وكذا قوله في نهاية ردوده على مخالفيه: "إن النص يبقى حداً معيارياً لتأويلاته المقبولة"([45]). 2ـ العلاقة النصية: إن إيكو يركز على فحوى التعليل في التأويل مفترضاً حتمية الإجابة عن سؤال افتراضي أيضا نصه:" لماذا يمكن لهذه الكلمات أن تفعل أشياء شتى لا غيرها عبر الوسيلة التي يتم تأويلُها بها"([46]). 3ـ تقييد المطلق: يرى إيكو أن التأويل ممارسة انفتاحية، ولكنها انفتاح على النسبي وليس على المطلق.من ثم يؤسس لهذه الرؤية بعبارة حاسمة تقول:"إنه ليس صحيحاً أن كل شيء صالح"([47]). ثم يتحدى عبارة فاليري القائلة إنه"لايوجد معنى حقيقي للنص"بقوله:"إنني أقبل العبارة التي تذكر أنه يمكن للنص أن يحوز معاني مختلفة. إنني أرفض العبارة التي ترى أنه يمكن للنص أن يتضمن كل المعاني"([48]). ثم يعلق على رسالة أحد الأعمال الأدبية مؤكداً أن الرسالة "يمكنها أن تعني العديد من الأشياء، ولكن ستكون هناك معان من المحال اقتراحها"([49]). إن ما يمكن الخلوص إليه من إلحاح إيكو على معيارية التأويل وحتمية نسبيته وحدوده، هو تأكيد وجود الطرف النقيض، وهو التأويل المفرط. وقد ألقت هذه القضية بظلالها على رؤى التأويلية العربية. وتكتفي الدراسة ثمة ـ رغبةً في اقتصاد الطرح ـ برؤية محمد بازي في مشروعه التأويلي؛ إذ عمد إلى ذم التأويل المفرط مؤكداً على إسرافه وتخمته الدلاليه الزائدة. من ثم يتحدد تصور التأويل عنده من خلال الحدود والضوابط في الآتي:"إن التأويل في تصورنا ليس بالضرورة بحثاً عن مقاصد المؤلف، ولا هو أفعال قرائية متحللة من أية معايير؛ وإنما ممارسة مشروطة بآليات يجب اعتمادها، وقد حصرناها فيما يقدمه النص من أدلة لغوية أو نحوية أو بلاغية أو غيرها"([50]). غير أن "بازي" وهو بادٍ أنه مسكونٌ بهاجس التأويل الديني في خصوصية الخطاب القرآني ما يلبث أن يُلح على حتمية القيود والإرغامات النصية. إن التأويلية عنده"مقيدة بإرغامات العلاقات النصية وبمعطيات السياق الخارجي، والثقافة التي ينتمي إليها ذلك النص "([51]). هذه الحجج التي تبدو مسوغةً منطقياً تملي ضرورة وعي نقيضها وهو التأويل المفرط الذي تؤشر الدراسة إليه هنا. الثاني: التأويل المفرط: يتأسس هذا الاتجاه في وعي جونا ثان كلر ورفاقه على مقولة مهمة تبين حدود العلاقة الإدراكية من القاريء المؤوِّل تجاه النص المؤوَّل:"القاريء الحقيقي هو الذي يدرك أن سر النص هو خلاؤه"([52]). إن وعي الدراسة بعملية "الخلاء" أو "الإخلاء"هو وعي بفعل تعمد الإزاحة وتفريغ النص من مقاصده التي قد يكون المؤلف قد انتواها، أو يكون النص بمعياريته قد أملاها. فكأن المفاد من العبارة هو إمكان دخول المؤوِّل إلى كون النص"على بياض" في سياق مطلق الحرية والانفتاح. وبه فإن النص يُنقذ من "توهم المعنى"إلى حيث الإدراك بأن المعنى"لانهائي" وأن كل شيء في النص يخفي معنى سرياً، وأن اكتشاف السر يفضي إلى سر آخر في عملية لا تنتهي.من ثم يتحقق مجد القاريء في قدرته على اكتشاف أنه"يمكن للنصوص أن تقول كل شيء، عدا ما يريد مؤلفوها أن تعنيه، وبمجرد أن يدعى اكتشاف المعنى المزعوم نكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي؛ حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد "([53]). هذه العلاقة التدحرجية وراء سرية المعنى وغواية تخفيه في متاهات ومدارات متعاقبة بلا نهاية، هو التماهي مع فكرة الغنوصية التي تؤكد أن"الحقيقة سرٌ، وأي بحثٍ في الرموز والطلسمات لن يكشف أبداً حقيقةً مطلقةً، ولكنه،ببساطة، سيزج السر إلى مكان آخر"([54]). من هنا يمتزج التأويل المفرط بالهوس. وعلى حد قول جوناثان كلر في دفاعه عن التأويل المفرط، فإن" قليلا من الهوس أمرٌ جوهريٌ لتقدير القيمة الصحيحة للأشياء"([55]).إن التأويل "يصبح مثيرا فقط عندما يكون متطرفاً"([56]). وبه فعلى النقاد أن "يطبقوا أقصى ما يستطيعون من جهد تأويلي، أن يذهبوا بعقولهم إلى أقصى ما تستطيع"([57]). هكذا يقوم التأويل المفرط على الحد الأقصى المنفتح على مطلق القدرة التأويلية وإمكانياتها في قنص التصادي (من الصدى) بين النص وغيره من النصوص القريبة والبعيدة على السواء، وأن هذا الوعي والإنجاز في الممارسة التأويلية هو ما سيضفي على التأويل وعلى النص فتنة وجاذبية وحيوية وقيمة. إزاء هذا الذي سلف في شأن التأويل والتأويل المفرط يتحتم التساؤل: أية وجهةٍ توليها الدراسة وجهها؟ في أي اتجاه تسير ممارساتنا التأويلية في علاقتها بمكانية محمود درويش؟ وفي اقتضابٍ غير مخلٍ ترى الدراسة أن التأويل المتغيا لديها هو ذلك الذي يرتكز على النص ومعياريته اللغوية والنحوية والبلاغية والسياقية والثقافية محكاً للانطلاق ومرجعاً للمرد. ولعل الدراسة في هذا توافق إيكو فيما ذهب إليه في مذهبه سالف الذكر. غير أن الدراسة تتماهى مع جوناثان كلر في حتمية تطبيق الحد الأقصى في التأويل. على العقل المؤوِّل أن يستنفد جماع أمره في السبر والفهم والتحليل والربط والمقارنة والمقابلة والاستنباط...عليه أن يتمتع بشيء من الهوس، لكنه هوس بالنص وبتأويل النص معاً. ومفاد ذلك أن حضور هوس النص في هوس التأويل هو منح الحجية من المقترح من التأويلات،؛إذ لايمكن قبول القول بأن كل ما يقال صحيح، وأن النص فيه كل شيء، وأنه محال أن يخرج عنه معنى ما...فكل ذلك يُدخل التأويل في مطلق الانفتاح، لكنه يدخل أيضا في مطلق العبث. وهو ما ترفضه الدراسة وترى أنه يضر بالمؤوِّل والمؤَّول معاً. إن الإيمان بضرورة إدهاش التأويل ممكن، وبمقدرته الفذة على العجب والإبهار والحفر والاستحواذ والاستغراق في معتمات النص...كل هذا مطلوب، بل هو حتمي؛ إذ هو الذي يمنح التأويل مذاقه، ويمنح النص بعضاً من الكشف عن بواطن فرادته واغتنائه. غير أن الخروج بهذا كله إلى انفتاح الإسقاط، وادخال المحال، والانغماس في الثرثرة الفارغة من دون حجية نصية في المساق أو السياق، فإنه يعد مسلكاً مذموماً لا نؤمن به ولا تتخذ الدراسة منه سبيلا؛ حيث إنه ينأى عن كل غاية للتأويل. وهذا عينه ما يحمل على إيضاح تلك الغاية منه. 4ـ1:وظيفة التأويل: ما الذي يرومه فعل التأويل من علاقته بالنص المؤوَّل؟ هل غاية التأويل هي إخراج المعنى الخفي للنص؟أم هي محض إدراك ماهية النص وطبيعته؟ بعبارة أخرى، هل وظيفة التأويل هي الإلمام الدقيق بالكيفية التي يشتغل النص وفقها؟ أم هي فهم النص وسد فجواته وبياضاته وإكمال نقصه باعتبار أن النص يعيش على فائض قيمة المعنى؟ وهل للتأويل علاقة بالتاريخ والعالم والذات المؤوِّلة؟ إن تمديد هذه الأسئلة على نحو ما سلف بالغُ الأهمية ليس في الكشف عن غائية التأويل في إطلاقها فقط، وإنما عن غائية هذه الدراسة في علاقتها بتجربة درويش في بعدها المكاني. وبه فإن التساؤل مثار لا محالة. ما مراد فعلنا التأويلي من التجربة المؤوَّلة؟ وإزاء هذا فإن الدراسة تُؤسس لرؤيتها التأويلية بالتأكيد على وعيها بأن التصور الماثل لديها عن وظيفة التأويل يتجاوز حرفية وحرج محض إخراج المعنى الخفي للنص؛ إذ هذا تصور يتسم بالجزئية والحَرْفية في علاقته بالنص، كما هو متجاوزٌ لحيثية الكشف عن كيفية البناء النصي وتعرية نُظم اشتغاله، وهو، مع قيامه بسد الفجوات...، فإنه لا ينحسر في سد الأفق التكميلي..، إن وظيفة التأويل هي الاشتغال على كل هاتيك الغايات مجتمعة ومنصهرة في سياق يضفر بين المساق النصي والسياق المنتج له والحاكم فيه والذات المؤوِّلة له والعلائق الواشجة بين ذلك كله والمجتمع والعالم. إن المعنى المؤوَّل ليس شيئاً يقبض عليه ويتم استخراجه من جوف النص فيُضحي النص خاوياً أو فارغاً وكأنه كهفٌ أُخرِجَ الكنزُ منه، إنما المعنى التأويلي أثرٌ يُعاش في العملية التأويلية ذاتها. والنص هنا لا يُفرغ، ولا يُستهلك، وإنما يُفعَّل ويُشتغل ويُستثار إلى أقصى درجات الاستثارة والإنتاج، وكأن التأويل فعل استثمار ممكنات النص ليس لما هو قائم فيه فحسب، وإنما لما يمكن أن يقبل قيامه فيه أيضاً من دون شطحٍ أو فجاجةٍ أو إسرافٍ. وبه يصبح الفعل التأويلي فتحا للنص وانفتاحاً له على ممكنات عديدة ومتنوعة ما دامت موشجة بالبنية الداخلية أو السياق الخارجي أو المرجعية الحاكمة لإنتاجه فيحدث التصادي بين النصوص والذوات في ديناميكية تفتح على مطلق التجربة الأدبية ومطلق التجربة الإنسانية لإحداث التقارب في بناء رؤية للعالم. وحسب تصور بول ريكور عن وظيفة التأويل فإن"عمل التأويل نفسه يكشف عن عزم عميق للتغلب على البعد، والتباعد الثقافي، كما يكشف عن عزمٍ لجعل القاريء معادلاً لنص أصبح غريباً، وكذلك لدمج معناه في الفهم الحاضر والذي يستطيع الإنسان أن يأخذه من نفسه بالذات"([58]). ووفق تصور محمد مفتاح فإن وظيفة التأويل مرتبطةٌ بصنع التاريخ؛ إذ يقول:"التأويل عملية تاريخية وتاريخانية، بمعنى أنه خاضع لإكراهات التاريخ ومستجيب لها، وأنه صانع للتاريخ ولثوراته"([59]). غير أن ما قدمته الدراسة في حيزها السالف عن وظيفة التأويل يوجب الاحتراس من أمرين: الأول: هو ما يمكن أن نسميه بخروج المعنى المؤوَّل بفعل التأويل عن المعايشة والبنى والمرجعيات الحاكمة، إلى حيث إنشاء نص جديد من قبل المؤوِّل لا علاقة له بالنص المؤوَّل. فهذا في عرف الدراسة خارج عن نطاق مسؤوليتها التأويلية وقد لزم الاحتراس منه. الثاني: خروج تأويل النص إلى استخدام النص واستعماله، لإسقاط غايات ذرائعية وذاتية تنحرف عن سياق النص وعن فحواه الدلالي إلى حيث منفعة المؤوِّل كما هو شأن التأويل البرجماتي عند جوناثان كلر وتريتشارد رورتي؛ حيث الإيمان بتجاوز المعنى إلى المغزى فيما يعرف بالقراءة الملهمة التي تحقق غايات المؤوِّل. يقول رورتي:"ينبغي علينا أن نتواءم مع استخدام النصوص لأجل أغراضنا الخاصة وهذا ـ في رأيه ـ هو كل ما يمكننا عمله معها على أية حال"([60]). وكذا قوله:"نتمتع نحن البرجماتيين بذلك الأسلوب في طمس التمايز بين العثور على شيء وصنعه"([61]). فإذا تم للدراسة وعيها بما سلفت الإشارة إليه على ما فيه من اتئاد وافتئات، فإنه يسوغ لها رصد إجراءتها المنهجية للممارسة التأويلية التي تعزم على إنجازها على مكانية محمود درويش من خلال نص"الجسر" وهو ما ترصده في حيزها الآتي. 5ـ1: بلاغة التأويل: يقتضي الفعل التأويلي بروحه المغامرة وعي حدود بلاغته، أو بالأحرى ملامح شعريته التي يتكىء عليها وينبثق منها؛ حتى يمكنه ضبط إيقاع حركته ووزن أطر منطلقاته فلا يصبح فوضى تأويلية غير منهجية. وإزاء هذا فإن الدراسة هنا تؤشر إلى كلمتين مهمتين هما: المبادىء، والآليات. وبهما فإن الدراسة تسعى إلى تجسيد كل ما سبق من رؤى ومفهومات تأويلية في خطى محسوبة ومدروسة تحكم إيقاع الفعل التأويلي في علاقته بتجربة محمود درويش المكانية. وهو ما يُرصد على النحو الآتي: أـ مبادىء التأويل: تمثل زمرة المبادىء المشار إليها لاحقاً الإطار المرجعي الباني والحاكم للفعل التأويلي من قبل الدراسة إزاء النص المؤوَّل. فهذه المبادىء أو القواعد أو الأصول المرجعية هي البنية التحتية التي يرتكز عليها الفعل التأويلي في إنجاز ممارسته. وهي مباديء برغم حاكميتها وتأثيرها الجوهري، فإنها تظل كامنةً في الخلفية المؤسسة لوعي المؤوِّل. ويتمثل أبرز هذه المباديء فيما يلي: 1ـ الانفتاح: إن وعي الدراسة بالتأويل يقوم في واحد من أبعاده المؤسِّسة على المرونة والحركية والانفتاح؛ إذ ليس التأويل محض استخراج المعنى الخفي أو المعجمي أو إكمال الناقص منه..، وإنما هو عمليةُ بناءٍ للمعنى ومعايشةٌ للأثر. ومفاد هذا الكلام هو الانتقال من الثابت إلى المتحرك، من الجمود إلى السيرورة والصيرورة معاً، من الكشف والعثور إلى التحقق والبناء والمغامرة، وهو ما يجعل التأويل منفتحاً على مدارات النص وبناه المساقية. فإذا كان التأويل متجاوزاً لمفهوم الاستبدال بين الدال والمدلول ليتحرك في فضاء احتمال الدلالة، وإذا كان التأويل يتكون فيما بعد اللساني؛ فإن هذا التمفصل يجعله - حسب دلتاي ـ يمثل "جزءا من ميدان من ميادين الفهم الأكثر سعةً. ذلك لأنه يمتد من حياة نفسية إلى حياة نفسية غريبة"([62]). من هنا يتكىء التأويل على الحركة السيارة بين مكونات النص وموازياته ومرجعياته وسياقاته ومقاصده من دون إغلاقٍ لمدود الإشارات الدلالية؛ حيث"لا يوجد في الهرمينوطيقا إغلاق لعالم الإشارات...هذا لكي نستعمل كلمة ساندريس بيرس فإن الهرمينوطيقا تكون تحت نظام انفتاح عالم الإشارات"([63]). ولعل هذا ما حمل بول ريكور على طرح سؤال الانفتاح والإجابة عنه على هذا النحو:"ماذا نعني بالانفتاح هنا؟ إننا نعني أن التأويل في كل مذهب هرمينوطيقي يقوم على مفصل يقع بين اللساني وغير اللساني، وبين اللساني والتجربة المعاشة مهما كانت هذه التجربة"([64]). 2ـ الدائرية: إن الحركة الانفتاحية السيارة المؤسِّسة لفعل التأويل كما سلف هي في ذاتها حركةٌ دائريةٌ أيضا تصل بين مجموع الكل ومكوناته الجزئية في حركة ذهاب إياب خلاقةٍ وحيويةٍ. ويرتكز هذا المبدأ على مفهوم دلتاي عن" الحلقة الهيرمينوطيقية " ومفاده:" كي نفهم أجزاء أي وحدة لغوية لا بد أن نتعامل مع هذه الأجزاء وعندنا حس مسبق بالمعنى الكلي، لكننا لا نستطيع معرفة المعنى الكلى إلا من خلال معرفة مكونات أجزائه. هذه الدائرية في الإجراء التأويلي تنسحب على العلاقات بين معاني الكلمات المفردة ضمن أية جملة وبين معنى الجملة الكلي، كما تنطبق على العلاقة بين معاني الجمل المفردة في العمل الأدبي والعمل الأدبي ككل"([65]). 3ـ المنطقية: من المبادىء الفاعلة في تكوين الفعل التأويلي وتوجيه حركته ما يمكن وسمُه بالمنطقية؛ بحيث يعمد التأويل إلى الإفادة من فحوى الاستدلال استنباطاً واستقراءً وتمثيلاً، موظفاً إمكانيات الإحصاء والجرد والتنضيد والتصنيف وغيرها؛ بما يضمن اتساق الخطاب التأويلي في كليته ويكشف عن دلائليته. 4ـ الكفاية: يتكيء فعل التأويل على مفهوم الكفاية بأنواعها: الكفاية الموسوعية، الكفاية الاستدلالية، الكفاية التنسيقية. ويتغيا فعل التأويل من هذه الكفايات تحقيق فحوى الانفتاح على الموسوعة في أبعادها اللغوية والثقافية والمعرفية والتاريخية...بغية إشباع الدلالة، كما يروم من كفاية الاستدلال حيازة المقبولية في حدود المنطق والإقناع، وهو في فعل التنسيق يسعى لبنينة الخطاب واتساقه في هيكله الكلي؛ بحيث يبدو متماسكاً انطلاقاً من التماسك النصي الذي يرتكز عليه فعل التأويل. 5ـ التضافر: إن بلاغة التأويل قائمة في جوهر ممارساتها على فحوى التعاون والتضافر والتداخل بين مستويات بناء المساق النصي. ولعل الإيماءات السالفة إلى مبادىء الانفتاح والدائرية والمنطقية والكفاية تؤشر بقوة إلى حصول التضافر أو التساند ـ حسب مصطلح محمد بازي ـ حيث الخطاب التأويلي هنا " شبيه بطريق سيار بين النص ومجموع الموازيات والمعارف والسياقات التي تحتويه؛ فاللغة تعمل إلى جانب الاشتقاق والأنساق النحوية التي تدعم بدورها النسق البلاغي، والنصوص الموازية تغذي المعاني والتخريجات والفروض والاستكشافات"([66]). 6ـ التقابل: هذا المبدأ الإجرائي شديد الأهمية من حيث أهمية الوعي به، وضرورة الكشف عنه مبدئياً وإجرائياً كما سيأتي تفصيله في حيز الآليات. وترجع أهمية هذا المبدأ في عرف الدراسة إلى جملة حيثيات لعل أهمها ما يأتي: 1ـ إن التقابل فوق كونه مبدأً تأويلياً، فهو مبدأ كونيٌّ عام يُهيكل ناموس الكون والطبيعة والحياة ويهندس جمالياتها. إن الكون ومفهوماته انتظام ثنائي تقابلي يتكامل أحياناً كثيرة ويتضاد أو يتغاير أحايين أخرى. فالوجود حياة وموت، دنيا وآخرة، حق وباطل، صدق وكذب، رجل وامرأة، غنى وفقر، ماء ويابسة، أرض وسماء، إنس وجن،إيمان وكفر، حاكم ومحكوم...، إن بالإمكان سرد العديد من التقابلات الفاعلة في منظومة الكون وأثرها في قانون اشتغاله. 2ـ إن التقابل مبدأ جمالي عام كونياً وحياتياً وفنياً. من ثم يدخل التقابل في أسرار الصناعة البلاغية، ويسكن في سر النصوص الخالدة؛ بما يكسبه إياها من حيوية وحركية وتناجز. إنه"يشكل البنية القاعدية والخطاطة الذهنية الأولية التي انطلقت منها عملية الإنتاج من خلال اختيارات استبدالية قام بها المنتج فيزيد من درجة حضوره أو غيابه" ([67]). 3ـ إن التقابل ـ فيما تحسب الدراسة ـ مبدأ شعري رئيس يتكىء عليه الشاعر في صناعة معانيه وحسن تصوره لها بحذاء بعضها قائمةً على علاقات تقابلية تضيء كل منها الأخرى في اتجاه انعكاسي. ولعل أي استقراء متأن ٍ لشعر المتنبي وشوقي وأبي تمام وكبار الشعراء العرب قديماً وحديثاً، يكشف عن أن قدراً غير يسير من شعرية نصوصهم يرتكز على بنية التقابل المتكررة بكثافات متفاوتة في النصوص المختلفة. 4ـ إن التقابل هو "محاذاة المعاني بعضها ببعضٍ، والتقريب بينها في الحيز الذهني والتأويلي لإحداث تجاوب ما، أو تفاعل معرفي وإضاءة بعضها للآخر، وهو خاصية تواصلية وإدراكية، فالأمور تُفهم وتُتمثل بشكل أفضل بعرضها على مقابلاتها"([68]). وهو بهذه الوضعية مدخل نقدي مهم لتأويل الأعمال الشعرية في القديم والحديث، ولعل" جدلية الخفاء والتجلي" لكمال أبي ديب شاهد على ذلك. غير أن ما يهم الدراسة في هذا الحيز هو رصد بعض النقاد الحداثيين والأسلوبيين لخاصية التقابل في شعر محمود درويش؛ إذ"إن طبيعة العلاقة التركيبية لديه تقوم على أساس التقابل، وهو إما تقابل خارجي ينشأ من توالي الجمل الاسمية والجمل الفعلية أو تقابل داخلي ينشأ بين جملتين من جنس واحد. ولهذا التقابل قيمته الأسلوبية الكبرى؛ لأنه يعكس تقابلاً بين صوت كان صوت مقيد بزمان" كان الشاعر طرفاً فيه = الجملة الفعلية " ومعنى ثابت لا يتغير ولا يتقيد بزمان"= الجملة الاسمية"([69]). وأيا كانت الإشارة إلى تجليات هذا التقابل في عموم التجربة الدرويشية، فإن ما يهمنا هنا هو الارتكاز على تأثير حركيته التعبيرية وحيويته في بناء التجربة المكانية في شعر درويش. ولعل صنوف هذا التقابل سوف تتضح في ترسيم الإجراء وفي ممارسة فعل التأويل في اشتباكه مع النص كما سيتبين. وبه فإن هذه المبادىء الإجرائية الحاكمة لرؤية التأويل هي ما تؤهل لرصد الآليات التأويلية لتجربة المكان في "جسر" محمود درويش في الحيز الآتي: | |||
|
| رقم المشاركة : 3 | |||
| 2ـ آليات التأويل: تتأسس آليات الفعل التأويلي على مبادىء البلاغة التأويلية السالفة وتنبثق منها؛ لأنها مرجعيتها الحاكمة. غير أن هذا التأسيس الإجرائي لتأويل المكان الشعري عند درويش يعمد في حيز الارتسام إلى الاستناد إلى مقولتين رئيستين هما: المساق والسياق، والتضافر والتقابل. وهاتان المقولتان المبدئيتان تحتويان - ضمنياً ومن خلال الفعل الإجرائي- بقيةَ مبادىء البلاغة التأويلية المشار إليها آنفا. ومفاد القول في فحوى الآليات التأويلية هنا هو اشتغال التأويل على بنيتي الداخل والخارج، النص وملابسات تكوّنه في آنٍ. كما أن الفعل التأويلي في فحوى إنجاز ممارسته التأويلية على النص عبر الانفتاح والمنطقية والدائرية والكفاية؛ فإنه يتكىء على استرتيجية التضافر والتقابل في الدوائر المساقية الصغرى، وفي الدوائر السياقية الكبرى. من هنا تتحدد بنى المساق والسياق على النحو الآتى: أولا: البنى المساقية: (دوائر التأويل الصغرى): وتشمل: 1ـ اللغة: وفي هذا الإجراء يعمد الفعل التأويلي إلى قراءة معجم النص، أو قراءة لغته من خلال دلالات المعجم ومدى ثرائها وانفتاحها صوب المعاني المواراة أو المتخفية أو، المجاورة، أو المتداخلة؛ فبما أن النص نسيج لغويٌ؛ فإن المعجم مركزيٌّ في تأويله. 2ـ الاشتقاق: وفيه يسعى التأويل للوقوف على دلالات البنى الصرفية الفاعلة في تكوين المعنى وفحوى وقوع اختيار الشاعر عليها وفق أبنية وصيغ محددة دون غيرها. 3ـ التركيب: وهو قراءة المستوى النحوي في النص ودلالات إعراب الكلمات وبناء الجمل، ونوعها، والضمائر وعلى أي شيء تعود، ومخالفة الأصل...وغيره من مباحث النحو. 4- البلاغة: ويجلي فيه التأويل الدلالات البلاغية الكامنة في الانحراف الاستعاري والتشبيهات والكنايات، وكذا دلالات الخبر والإنشاء والقصر، وفنون البديع المختلفة التي تندرج تحت علوم البلاغة في البيان،والمعاني، والبديع. إن البلاغة هي الركن الأهم في التأويل الأدبي. 5ـ السرد: وفيه يقرأ التأويل دلالات الوصف والسرد، والزمان والمكان والشخصية، والحوادث والصراع الدرامي، وإيقاع الحركة وغيره مما يتعلق بالسرد. ولعل التراتب المقصود قصدا من قبل الدراسة للآليات المشكلة للقوانين الداخلية للنص في مساقه يبين قصدية التدرج في الفعل التأويلي في علاقته بالنص، وما ينضوي عليه هذا التصور من بنائية ومنطقية تسهم في إشباع الدلالة وكفايتها وفي تسويغها ومقبوليتها في آنٍ. ثانيا: البنى السياقية:(دوائر التأويل الكبرى): وتشمل: 1ـ مكانة الشاعر ووعيه بالشعر: وتعد هذه الدائرة مهمة في توطئتها لفحوى الخطاب المهيمن على النص؛ إذ وضعية الشاعر ومكانته تكشفان عن كثير من ظروف تكونه، وفرادة شعره، ومشروعه، وموقفه، وعلاقاته...إلخ 2ـ ملابسات النص: (الرؤية للعالم): وتضيء هذه الدائرة الظروف الفاعلة في إنتاج نص محمود درويش، ومدى تأثيرها في صياغة رؤيته وتشكيل أبنيته، وبناء معناه وخطابه، وتحديد موقفه من العالم وقضاياه المجتمعية والإنسانية. 3ـ النصوص الموازية: وتشمل هذه الدائرة درجة عالية من انفتاح النص على غيره من النصوص الأخرى الموازية له في تجربة الشاعر في السابق أو في اللاحق على النص، وفي تجربة الشعراء المجايلين له أو السابقين عليه. 4ـ التأويلات الموازية: وتلم هذه الدائرة بالقراءات التأويلية السابقة على هذه الدراسة، وكيفية تأويلها للنص، وما وصلت إليه من دلالات ومعاني وخطابات، وما يتعلق بالنص من أخبار أو ثقافات أو عادات. ومن المهم في هذا الحيز من الشأن التأويلي التأكيد على استراتيجية التقابل بوصفها آليةً ماثلةً في كل هذه الدوائر، أو في أكثرها حسب مقتضيات الفعل التأويلي في الدوائر الصغرى والكبرى، وهو آلية فهمٍ تعمد إلى إضاءة المعنى عبر التناقض أو التباين، أو التماثل أو التفارق أو المواجهة..ومن ثم فهو أشمل وأوسع من الترادف والتضاد والمقابلة وإن احتواها في طياته. من هنا تعمد الدراسة إلى الإشارة إلى صنوفه في بنية المساق والسياق على النحو الآتي: 1ـ تقابلات المساق: ومنها: أـ التقابل النقيضي. ب ـ التقابل النظيري. ج ـ تقابل التشابه. د ـ تقابل التشارك. ذ ـ تقابل الإثبات والنفي. رـ تقابل حال الذوات. زـ تقابل الفاعل والمفعول. س ـ تقابل التناسب. ش ـ تقابل التشاكل. ع ـ تقابل المعنى ومعنى المعنى. غ ـ تقابل الأمكنة....إلخ 2ـ تقابلات السياق: ومنها: أـ تقابل النص والعنوان. ب ـ تقابل الفقرات والمقاطع والوحدات. ج ـ تقابل النص مع النصوص الموازية من إنتاج الشاعر. دـ تقابل النص مع نصوص موازية لشعراء آخرين. ر ـ التقابل النووي والتقابلات الاستتباعية. ز ـ تقابلات النسق التواصلي للخطاب. س ـ تقابل النص والسياق التاريخي.([70]). ولئن كان واقع إجراءات التأويل وآلياته كما سلفت الإشارة إليه، فإنه من الأهمية بمكان هنا الإشارة الختامية إلى ملمحين مهمين: الأول: يتعلق بوعي الدراسة في فعلها التأويلي للتجربة المكانية في نص درويش بضرورة عدم التعسف أو الاعتساف والحَرْفية في تطبيق بعدي المباديء والآليات على النص. إن الحرفية أو الاعتساف فيها يقتل روح التأويل ويحد من وثباته ويقلص من روح المغامرة والانفتاح والمرونة فيه. من ثم فلن ينشغل فعلنا التأويلي بالشكل على حساب الجوهر؛ وإنما سيتمتع بالمرونة اللازمة لتحقيق حرية الحركة التأويلية في إطار بلاغة التأويل. الثاني: يتحاف مع الأول أو ينبثق منه تأطيراً وتعميقاً، ومؤداه ما قرره أمبرتوإيكو من"أن تقرير طريقة عمل النص يعني تقرير أي من مظاهره المختلفة، يكون أو يمكن أن يصبح متصلاً بالموضوع، أو منتمياً بالنسبة للتأويل المتماسك له، وأي هذه المظاهر تظل هامشية وغير قادرة على دعم قراءة متماسكة"([71]). وبه تتحقق مشروعية الحركة التأويلية المرنة في البدء والانطلاق والتضافر بين المستويات البنائية للنص. ولظهوراته المهيمنة، وبهذا تكون الدراسة قد تأهلت بعدتها المفهومية وعتادها الإجرائي لإنجاز فعلها التأويلي على نص درويش. 2: المكان: 2ـ1: تحرير المصطلح: يحوز الحضور المكاني في الفن بصفة عامة كثافةً لافتةً تتجلى حيثياتُها في علة ارتباط المكان بالدلالة على الواقعية وفي دلالته على الزمن، ومن ثم التاريخ، وما يرتبط بذلك من حفريات الاركيولوجيا، وفتنة السرد، وعبرة الحوادث، وخلابة الرؤية. من هنا يمكن للدراسة أن تقر مع ياسين نصير بأن"الفن إذا ما ابتعد عن احتواء المكان فقد واقعيته، وأن الفن إذا ما تنكر للمكان عاش تاريخ اللاتاريخ"([72]). ومن ثم يتبدى المكان في حيز الشعرية الحداثية العربية نسقاً حاضراً جمالياً بقدر كثافة تعقيده؛ إذ هو" ليس كياناً حاملاً لكل التواريخ الصغيرة والكبيرة فقط. إنما هو اللحظة الزمانية التي أرى فيها هذه التواريخ وقد انبنت بطريقة منهجية"([73]). اتكاءً على التأسيس السالف، فإن مقاربة تحرير مصطلح"المكان"هنا لا بد أن تتحدد في بعدين: دلالي وأدبي، مع ضرورة الوعي بالتحام العلاقات التصورية في البعدين معاً، وهو ما تؤشر إليه الدراسة في تناولها لهما فيما يأتي: الأول: البعد الدلالي للمكان: تكاد دلالة المعجم لا تفيد كثيراً في شأن رسم تصور دقيق عن المبتغى من الوعي بالمكان هنا؛ فقد ورد في معجم"القاموس المحيط" ما نصه:" المكان: الموضع ج:أمكنة،وأماكن"([74]). غير أن تقري دلالة المعجم وتوسيعها، يفضي إلى مكان الوجود المادي لشيء ما؛ إذ هي تطلق على وكنات الطير، والمنازل، وأماكن الإقامة والاستقرار والعيش والثبات، وهو مآل السفر والهجرة والارتحال..،إنه ما يمارس فيه وعليه الإنسان مناشطه الحياتية والوجودية من الأرض وما بين هذه الموجودات من علاقات. وحسب مفهوم"ديفيز" عن حداثة مفهومي الزمان والمكان، فإن المكان هو محض "وسيلة لغوية تستعمل للتعبير عن هذه العلاقات...، العلاقات المكانية بين الأجسام لا تحتاج إلى وجود شيء ملموس قائم بذاته اسمه المكان إلا بقدر ما تحتاج العلاقة بين مواطني بلد ما شيئا ملموسا اسمه المواطنة"([75]). من هنا تقود الدلالة إلى المفهوم السيميائي للمكان. فلئن كان المكان وجودا، فإنه وجود علاماتي، أو هو تعلق بعلاقات كائنة فيه. والعلامة ـ وفق نظرية أمبرتوإيكوـ "كيان واسع الامتداد"([76]). كما أنها تقوم على جدلية الغياب والحضور وفق التصور البنيوي للعلامة، وتقوم مكانيا على مفهوم الاختلاف في وعي جاك دريدا، فمفهوم المخالفة الذي تكلم عنه سوسير في تحديد وظيفة المفردة، والاختلاف الذي أكد عليه دريدا في فلسفة التفكيك، هما مفهومان مكانيان بالضرورة. إن حركة الاختلاف هي المرتكز الرئيس لإكساب اللغة عبر مفرداتها سمة التمايز، وما بين هذه المتمايزات من متضادات ومتقابلات. وقد ذهب دريدا إلى"أن إنتاج هذا التمايز والاختلاف ينجم عن "بنية" مكانية تقابلية بين المتضادات..؛ لهذا فإن الاختلاف هنا يتحدد على أنه توزيع مكاني"([77]). وبه فإن المكانية وفق مقولة الاختلاف، تتحدد بأنها"عنف الانفجار والانفصام التي من خلالها يتأتى للمفاهيم والمصطلحات ضمن البنية المتضادة أن تنفصل عن بعضها وتتقابل حتى يتسنى لعملية الدلالة أن تتم"([78]). ولئن كان الوعي السيميائي بدلالة العلامة أنها كيان واسع الامتداد، فإن هذا يقود إلى أهمية الوعي بالمكان ضمن غائية التأويل التي تنطلق من اللساني لتتحرك فيما وراءه. من ثم فإن كان للمكان مظهر فزيائي تمثله أطره الجغرافية كأن نتكلم عن: بيت، جبل،جسر، ملعب، منصه، مدينة، دولة،...، فإن ثمة دلالة مخفية تؤشر إليها كثير من المفردات من طرف خفي كأن نقول: رحلة، سفر، سياحة...، حيث يكون للمكان حضوره المتواري الذي يملى على المؤوِّل إكماله واستظهاره للعلن. ولعل هذا ما يفضي إلى الوعي بالتصور الأدبي للمكان. الثاني: البعد الأدبي للمكان: يتكون البعد الدلالي الأدبي للمكان من ركنين رئيسين هما: المكان والمكانية. وبرغم أن هذين الدالين، أو التصورين متداخلان ومتكاملان إبداعاً ونقداً، فإن الدراسة تؤثر إشارتها إليهما على النحو الآتي: 1ـ المكان: وفيه تُثار أسئلةُ شعريةِ المكانِ أو بلاغةِ المكان حينما يغدو المكان ـ أيا كان ـ داخل النص الأدبي متخيلاً، أو مصوراً وفق رؤية المبدع، وحسب إمكانياته في الصوغ والصناعة والخلق. لذا فإن بلاغة المكان الأدبي تثير مساءلة شأن الكتابة الحداثية؛ حيث ترتسم وفق تمثيل مخصوص لفضاء أو مكان أو حيز يتكون من مادة أدبية. من ثم يتخلق الوعي النقدي أو التأويلي بالكتابة المكانية، أوبالمكان في حيازة النص الأدبي ليس على أنه محض وجود مادي، أو وجود جغرافي، وإنما هو خلق جديد، أو إعادة خلق لما كان من قبل، في سياق منفتح قد يصل بالمكان في النص إلى عتبة عليا من الانزياح البلاغي، أو الأنسنة، أو الأسطرة...، أو غير ذلك من ممكنات الخلق الأدبي غير المقيد، وغير المشروط بحد معلوم. وبه فإن الجمالية في المكان تتداخل في جمالية النص تصنعها أو تتضام معها من أجل صياغة المكان الجديد على عين المبدعوحسب مهارته في الحذق والافتنان. من هنا فإن المكان أو الحيز حسب مراد عبد الملك مرتاض"مشكل أساسي في الكتابة الحديثة"([79]). وهو عنده "ليس مكاناً بالمفهوم التقليدي للزمان وإنما هو تصور ينطلق من تمثل شيء يتخذ مأتاه من مكان وليس به، ثم يمضي في أعماق روحه يفترض عوالم الحيز المتشجرة عن هذا الحيز الأصل الذي لا ينبغي أن تكون له أبدا؛ لأن كل حيز يفضي إلى حيز آخر، فترى الصورة الفنية تتعمق بانشطارها إلى أشطار وتجزئها إلى تركيبات، وبمثل ذلك تستوقي الرؤية موقعها فتتبوأ مكاناً مكيناً"([80]). من المهم هنا التأكيد على ارتباط الصورة الشعرية بالمكان كما هو في رؤية عز الدين اسماعيل؛ إذ يقول:"الصورة المرسومة تشكيل مكاني صرف"([81]). لكن هذا المكان المؤسس للصورة والمكون لها، يندغم في العالم النفسي للمبدع وينبثق منه؛ إذ إن الشاعر أو الروائي أو القصاص..،إنما يدخل المكان الواقعي إلى مصهرة المخيلة ليعيد خلقه وفق هوية خياله وحسب إمكانياته ورؤاه في الصياغة والابتكار. لهذا يتشح المكان المصنوع بالصبغة النفسية للصانع، وعلى هذا "ينبغي أن ننظر إلى الصورة لا على أنها تمثل المكان المقيس بل المكان النفسي"([82])، وهو ما يمنح المكان/الصورة كثافة الشعور وكثافة الانزياح، وكثافة الرؤية في آنٍ. وقد تعددت تقسيمات النقاد لهذا المكان الأدبي في الشعر والسرد، فهو مكان متحرك، ومحاصر، ومتصارع،ومعادٍ، ومجازيٌّ، وهندسي، ومعاش، ومهمش،ومهيمن، ووعاء، وإطار..إلخ كما أن المكان عادةً ما يتم النظر إليه من زاوية التقاطب أو التقابل من خلال هذه الثنائيات: القرية/المدينة، الانغلاق/الانفتاح، الشرق/الغرب، الوطن/المنفى، الانقطاع/الاتصال...،وهذا كله ما يجعل من وضعية "المكان" بؤرة جمالية ذات بعد إثاري مهم في تجربتي الإبداع والنقد معاً. 2ـ المكانية: إن المقصدية من مكانية النص الأدبي هنا، تتكىء على مفهوم الاختلاف الدريدي ـ نسبة إلى دريدا ـ في بعده التفكيكي ومتغيا حدوث التمايز بين وحدات اللغة ومكونات النص في جملة فقراته ومقاطعه؛ حيث إن هذا التمايز هو ما يكسب كل وحدة هويتها، ووظيفتها، وعلاقتها بغيرها من الوحدات الأخرى.على أن وعينا بمكانية النص وفق ما سلف، ينبغي أن يتسع ليشمل الرؤية الكلية للفضاء الطباعي للنص، والاتكاء على البعد البلاغي البصري أيضاً في ارتسام النص وتفضيئه وفق إخراج المبدع له شاملاً كل عناصره ومستوياته بدءاً بالمفردة ومروراً بالتراكيب النحوية والهندسة العروضية أو الإيقاعية، والإهداءات، والرسومات، أو الأيقونات، والأشكال، والجدل الصراعي بين السواد والبياض، وسمك الخطوط، إن مكانية النص متعلقة بالبلاغة البصرية حيث علاقة المكان بالنص وبالدلالة، وبالفضاء، وباللغة، وبالخط، وبالعلامة في سياق تشعيبي معقد يفتح على فحوى شعرية الدال والالتفات النوعي والبصري، الشأن الذي يؤشر إلى أهمية المكانية في النص الحداثي العربي ويضبط تحرير دلالة المصطلح المكاني في علاقته بفعل التأويل. 2ـ2:المكان في شعر محمود درويش: لقد ألزم هذا الحيز من الدراسة بمساءلة تجربة محمود درويش الشعرية والكتابية في نسقها الكلي، وفي تفاصيل جزئياتها. وهي مساءلة مضنية مكلفة حتى الرهق، لكنها ضروريةٌ ضرورةَ الحتمية والوجوب؛ ذلك أن الوعي الكلي بالتجربة الدرويشية مفيدٌ بحدود قصوى في تشكيل الرؤية المركزية المؤوِّلة لرؤيته الشعرية من حافة، كما هو مفيد في دقة الوعي بالكيان المكاني في مجمل التجربة من المهاد إلى الختام من حافة أخرى. من ثم يتحيَّثُ هذا الحيز في الدراسة من جهتين مهمتين: الأولى: فرض الدراسة: والقصد من فرض الدراسة هنا هو تمام إجرائية المنهج؛ حيث يعمد التأويل إلى الدخول إلى مغامرته مع النص المؤوَّل وفق رؤية درسية كلية تمكِّن من تفسير التجربة أو من تأويلها. وبه فإن فرض الدراسة لتأويل تجربة درويش يتكثف في الرؤية المكانية. وخلاصته هي: إن تجربة محمود درويش بوجه خاص، والشعر الفلسطيني بوجه عام، هي تجربة مكانية حتى السقف الأعلى لعتبة الإبداع والتأويل.بعبارة أخرى؛ فإن الفرض قائم على المدخل الأهم في تأويل التجربة الدرويشية وهو التأمل المكاني؛ إذ المكان هو لب التجربة وأهدابها، وهو منطلقها ومآلها، وهو مصدرها وباعثها، ومتغياها. المكان هو الوعي واللاوعي في التجربة الدرويشية، المكان العام المطلق، والمكان الوطن المفقود والمبحوث عنه، المكان الواقع المغيب، والمكان المنفى والشتات...، المكان بتجلياته المختلفة هو سر هذه التجربة وهاجسها، هو كيانها وروحها الساري في تفاصيل التفاصيل، هو ماهيتها وهويتها المكونة لها والمائزة لها عن أغيارها في آنٍ. المكان في تجربة درويش مكونٌ نوويٌّ يتناسل ويتكاثر في المكونات البنائية والجمالية سراً وعلانيةً، يتكثف حينا ويُضغط؛ فيصبح مهيمناً على النص، كما هو في كلية المآل الختامي مهيمن على مجمل التجربة، وقد يتخفف حيناً آخر فيتوارى في متاهات المعنى، وسراديب اللغة، لكنه لا يتلاشى؛ وإنما يظل حضوره فاعلاً في الحالتين كلتيهما وعلى أية كيفية شاء. على أن هذا الفرض لا يتكىء في حيثياته على خلابة الحدس الناجم عن علاقة المؤوِّل بالنص، وبمجمل التجربة فحسب، وإنما يتكىء على التجربة الشعرية أو الدرويشية في كليتها وامتدادتها ذاتها شعريةً كانت أم نثريةً. ولعل الشأن هنا يتجلى غيرَ معقدٍ؛ حيث ينبني على تصور متماسك مؤداه استلاب الوطن الفلسطيني من الإنسان الفلسطيني، والدرويش جزء من هذا الكيان المستلب. من ثم فإن علاقته بالوطن هي علاقة متحولة إلى قضية جوهرية ومفصلية، قضية بحجم وطن مسلوب ومغيب، والوطن كيان مكاني منفتح ومشع على خلايا الروح والوجدان والوجود. وبه ينشأ الالتزام به في البحث عنه والنضال من أجله إلى أقصى ما تتحمله طاقة الشاعر. يقول درويش:" لعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وإنما صار نبضاً في الدم"([83]). ثم يعود ليؤكد جوهر شعريته بقوله:" إننا شعراء قضية قبل أي شيء آخر"([84]). ولقد تنبه النقد منذ بواكير علاقته بتجربة الدرويش، إلى حيثية الوطن ومدى مركزيتها في الرؤية الشعرية؛ فإذ يقدم محمد دكروب لديوان الدرويش يقول:" ويبقى شيء عن الوطن.. وهو على كل حالٍ، الشيء الأساس، سواء في شعر محمود درويش، أم كتاباته، وخصوصا في نشاطه الثوري"([85]). وحين يتحدث الدرويش عن الوطن بين الذاكرة والحقبة، يطرح السؤال مباشرة ويجيب عنه على هذا النحو: "ما هو الوطن؟ ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي. حياتك وقضيتك معاً... هو هويتك"([86]). الوطن إذن: حياة، وقضية، وهوية. ولا جرم أن هذه الثلاث متماهيات مع ذات الشاعر الذي جعل من شعره استجابةً حيةً لوجوده، ووطنه، وحياته، فقصد إلى المقاومة فيه، وبه، قصداً يصل حد الاستغراق، فتتحول المقاومة إلى عيار جمالي للشعر. يقول درويش: كل شعر جميل ... مقاومة([87]). هذه المقاومة الساكنة في جوهر الشعر، والمعلنة عن هويته، متلبسةٌ بالوطن ومتشبثةٌ به، انفجاراً منه، وذوداً عنه.غير أن هذه الحالة الالتباسية المتماهية تندغم في المكان، تتمسك به،وتحتمي فيه، وتحميه. هكذا تبلور المخرجة السينمائية سيمون بيضون هوية محمود درويش في حوارها مع مسؤول المستوطنة الإسرائيلية التي أقيمت على أرض قرية الشاعر فيسألها عن درويش وتجيبه على هذا النحو: ـ من درويش هذا؟ ـ إنه يكتب عن هذا المكان، عن شجرات الصبار هذه، عن هذه الأشجار، وعن البئر.([88]). لكن المكان في وعي درويش، وفي مصب ختام التجربة، يتماهى مع الحقيقة، ويدخل مدار الغواية والافتتان؛ لأنه لايزال المكان في مكانه. يقول درويش: ـ ها نحن قادرون على الافتتان بحقيقة واحدة: مازال المكان في مكانه.([89]). وهذا الافتتان عينه هو الذي يمارس فتنته على التأويل ليصبح المكان هو فرض الدراسة. الثانية: تجليات المكان: يعظم حضور ظهورات المكان في شعر درويش بقدرٍ لافتٍ لعله يصل حد الهيمنة على المعجم، وعلى الرؤية، وعلى التجربة برمتها. ويفيد هنا مبدأ الكفاية التنسيقية في الجرد والتنضيد والإحصاء والتصنيف؛ حيث رصدت بعض الدراسات النقدية كثافة حضور المكان في شعر درويش ليبلغ874([90]). ظهوراً مكانياً موزعين على عدة أمكنة على النحو الآتي: البلدان الأجنبية:121، البلدان العربية:398، الخيمة والمنفى:187، فلسطين:161،القارات:7. على أن هذه المسميات المكانية ذات عمومية واسعة تحتوي ضمنها تفاصيل مكانية دقيقة. غير أن الدراسة هنا لا تعتمد هذا التنضيد المكاني، وإنما تسلك في تصنيف المكان وتنسيقه مسلكا آخر؛ حيث تتجلى أمكنة درويش في وعي الدراسة على النحو الآتي: 1ـ المكان/التصور: يتجلى هذا الظهور المكاني في تجربة درويش مرتبطا بإشكالية التصور، أو المفهوم الذهني عن مدلولية المكان في بعده المجرد. وهذه الوضعية الضاغطة على رؤية الشاعر، والمؤزِّمة للشعور والوجدان النفسيين، كاشفةٌ عن عمق القلق الذي يساور الشاعر على مكانه الخاص المستلب؛ فيحمله حملا على التساؤل عن كنه التصور المكاني: فقلت له ـ والمكان يمر كإيماءة بيننا: ما المكان؟ فقال: عثور الحواس على موطىء للبديهة؟ ثم تنهد.([91]). هذا المفهومي الذي يضغط على وعي الشاعر فيبدو متماهياً مع الموطىء الأرضي؛ بما هو شأن بدهي، يتجلى ظهوراً آخر في إشكالية التعريف وارتباطها بالبلدان والمشتتات والمنفى متجاوزاً الأمهات ورائحة المريمية: كنت أحسب أن المكان يُعرَّفُ بالأمهات ورائحة المريمية. لا أحد قال لى إن هذا المكان يسمى بلاداً، وأن وراء البلاد حدودا، وأن وراء الحدود مكاناً يسمى شتاتاً ومنفى لنا.([92]). إن الوعي التأهيلي بماهية التصور المكاني وارتسامه في هوية مائزة له، يتحدد هنا في دلالة البلاد، وفي دلالة الحدود، وفيما وراءها من شتات ومنفى، وكأن إرغم المكان حين تجلى منفى وشتاتاً، قد أيقظ المكان البلاد في وعي الشاعر وحفَّز ذاكرته على المقارنة والاستعادة ليتجسد المكان في العاطفة وكأن الشاعر قد حدد تصوراً للمكان على نحو حاد وقاطع: المكان هو العاطفة.([93]). 2ـ المكان المطلق: المكان العام أو المكان الغائم بعموميته، هو واحد من تجليات درويش المكانية وهو يؤشر عادة إلى فحوى التيه، أو التضاؤل، أو النكرة والتخفي. يقول درويش في جداريته: ما زلت أحيا في مكان ما، وأعرف ما أريد... سأصير يوماً ما أريد.([94]). وقوله في"سرير الغريبة": ضعي في المكان الصحيح الزمان الصحيح.([95]). 3ـ المكان/الأرض: الأرض، هذه الكلمة المفتاح في وعي الفلسطيني، هذه الكلمة الأم، والكلمة السر، والكلمة المأساة ..، الأرض أس الأساس، وأس البلاء، وأس الأمل. من ثم كان احتفال الفلسطيني بيوم الأرض رغم وجع التضحيات. والأرض التي هي فضاء مكاني متسع يتأطر في أرض الوطن فلسطين، ويتسع لشمل مطلق الأرض. لكنَّ المدلولين مرتبطان ومتداخلان يصدي أحدهما في اتجاه الآخر في علاقة تضفر الحب والتوحد بالنفي والتشريد في المناحي والفيافي. من ثم يغص درويش بهذا السؤال الاستنكاري: فكيف تشردني الأرض في الأرض كيف ينام المنام([96]). إن الوعي بحيوية المكان الأرضي في تجربة درويش، يقف على عمق التوحد بين الشاعر وبين الأرض؛ فيحمله معه أو فيه، وتحمله هي أملاً في طريق السفر برغم بعد المكان: أمسُّك مسَّ الكمان الوحيد ضواحي المكان البعيد على مهل يطلب النهر حصته من رذاذ المطرْ ويدنو رويدا رويدا، غدٌ عابرٌ في القصيدْ فأحمل أرض البعيد وتحملني في طريق السفرْ([97]). هذه العلاقة ذات البعد الصوفي الشفيف، هي التي تصنع من الأرض وطناً معشوقا للشاعر الذي تعب في محبته، فطلب منه تمهيد الأرض وإعدادها ليستريح: أعدي لي الأرض كي استريح فإني أحبك حتى التعب.([98]) لكن الأرض السليبة، والمغتصبة، لابد أن ترتبط بأصل الحياة، وأن تفجر بعث القيامة في بعده التبشيري التفاؤلي، وفي عمقه الثوري المتمرد على واقع الاحتلال: إنا جذور لا نعيش بغير أرض... ولتكن أرضي...قيامة.([99]) غير أن التجلي الأهم للمكان/الأرض، تجسده قصيدة "الأرض" لدرويش احتفالاً بيوم الأرض في 30 آذار من كل عام؛ الذي يعود إلى ذلك التاريخ من سنة1976عندما صادرت السلطات الإسرائيلية مساحات شاسعة من أرض الفلسطينيين تعنتاً، واغتصاباً، فأضرب الفلسطينيون، وقمعت إسرائيل الموقف وزادت في مصادرة الأراضي وخاصة في الجليل وقراها، فصار ذلك اليوم هو يوم الأرض، ومن ثم كانت قصيدة درويش"الأرض" حيث التماهي بين ذات الشاعر وموضوع الأرض في حلولية وجودية وصوفية مائزة: أنا الأرض والأرض أنت.([100]). هذا الفضاء المكاني الأرضي يتجلى ظهوراً ديناميكياً فاعلاً ومفعولاً به، وبخاصة في شهر آذار؛ إذ"نمتد في الأرض...تنتشر الأرض فينا "؛ لتكشف أنهارها وأزهارها وفتنتها؛ فتتحول إلى سيدة لا بمعنى الأنثى فقط، وإنما بدلالة العلو والسلطة، أو القيمة المتحكمة: سيدتي الأرض! أي نشيد سيمشي على بطنك المتموج بعدي؟([101]) هذه العلاقة تحدد مأساة الدرويش بين العشق والسجن في إطار الأبدية: أنا العاشق الأبدي...السجين البديهي رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكر([102]) لكن عشق الدرويش للأرض الأنثى ليس محض علاقة ذكورية تقع في غواية الأنثى في الدلالة الأيروسية أو الشبقية فحسب، وإنما هي دلالة ثرة بتنوعاتها، وبمدلولاتها المنفتحة على العديد من الأبعاد والرؤى؛ يلتحم فيها الشبقي بالوطني، العشق بالأبوة بما فيها من حنان ودلال وحماية. هكذا يتجلى المكان الأرضي في سؤال الدرويش التعجبي: هل نهضت طفلتي الأرض! هل عرفوك لكي يذبحوك؟([103]) هذه الموجات الدلالية من الرفض والثورة والاستنكار، تنتهي في قصيدة درويش في ختامها إلى حالة شفيفة، وفريدة من التماهي بين ذات الشاعر وذات الأرض؛ فيصبح هو الأرض جسدا يحرث، ويمرون عليه، لكنه يتحدى الغاصبين أن يمروا: أيها العابرون على جسدي لن تمروا أنا الأرض في جسد لن تمروا أنا الأرض في صحوها لن تمروا أنا الأرض. يا أيها العابرون على الأرض في صحوها لن تمروا لن تمروا لن تمروا([104]) |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق