الأحد، 2 مارس 2014

- الكناية في القرآن -

- الكناية في القرآن -

·    تعريف الكناية: هي لفظ أريد به لازم معناه.. ولازم معناه أي النتيجة المباشرة لهذا المعنى.
·    فلو قلت فلان كثير الرماد فهم منه أنه يطبخ كثيراً وهذا دليل على كثرة ضيوفه وهذا أيضاً دليل على كرم ذلك الرجل.
·  ولو قلت على المرأة تقوم الضحى.. فهم من ذلك أن لها من يخدمها فهي إذاً غنية مترفة مخدومة لذا تنام حتى الضحى ولو كانت من النساء التي لا خادم لها لقامت مبكراً لكي تقوم على خدمة زوجها وإطعام عيالها.. فهم من أرادوا معنى ثم لم يذكروه بلفظه الخاص به ولكنهم توصلوا إليه بذكر معنى آخر من شأنه أن يتبعه في الو جود وبأن يكون إذا كان.
·  الكناية مأخوذة من كنيت الشيء إذا سترته, أو من الكنية التي يقال فيها عن الشخص – بدلاً من ذكر اسمه الحقيقي -  أبو فلان, وهي بهذا أو ذاك تلاءم الدلالة على تلك الصورة البلاغية التي يستتر فيها المعنى المراد أو الفرع المستنبط من المعنى الأصلي.
·  يقول ابن الأثير في المثل السائر: (إن الكناية يتجاذبها جانبان حقيقة ومجاز ويجوز حملها على كليهما معاً أما التشبيه فليس كذلك.. ألا ترى أن اللمس في قوله تعالى: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء), يجوز حمله على الحقيقة كما ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي فأوجب الوضوء على الرجل إذا لمس المرأة وذلك هو الحقيقة في اللمس وذهب غيره أن المراد باللمس هو الجماع).
·  لابد من الوصف الجامع بين المعنى الأصلي والمعنى المكنى لئلا يلحق بالكناية ما ليس منها فالمناسبة بين المعنى الأصلي والمعنى المكنى من شروط الكناية الأساسية.

·   يقسم البلاغيون الكناية إلى ثلاثة أنواع..
1. كناية عن صفة: وهي تتمثل في كل تعبير يراد به إلحاق صفة بموصوف ما, ثم لا نذكر تلك الصفة صراحة إنما يذكر بينه وبينها تلازم ومناسبة..أمثلة: كثرة الرماد كناية عن صفة الكرم, يلبس نظارة سوداء كناية عن صفة التشاؤم.. ومن ذلك قول جرير يهجو قبيلة تيم: (ويقفي الأمر حيث تعيب تيم.. ولا يستأذنون وهم شهود), هذا البيت كناية عن صفة وهي الذل والهوان.
2. كناية عن موصوف: وهي تتمثل في كل تعبير يراد فيه الحديث عن موصوف ما فلا يصرح بذكره فيه ولكن يذكر من الصفات ما يدل عليه ويكتنى بها عنه لاختصاصها به.. أمثلة: قال تعالى: (وحملناهُ على ذاتِ ألواحٍ ودُسُر* تجري بأعيننا جزاءً لمن كان كُفِر), فالآية الأولى كناية عن موصوف وهو السفينة متمثلة في ذات ألواح من الخشب ودُسُر وهي المسامير فيها أهم مادتين في وضع السفينة.. ومن ذلك قول البحتري في قصيدة له يصف فيها قتله لذئب:
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها .. على كوكب ينقض والليـل مسـودُّ
فـمــــا ازداد إلا جـرأة وصرامة .. وأيقنت أن الأمـر منــه هـو الجـــدُّ
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها .. بحيث يكون اللـب والرعب و الحقدُ
فالشطر الأخير من البيت الثالث هو كناية عن القلب.. ومن ذلك قول الشاعر كناية عن المرأة:
وإن حلفت لا ينقض النأي عهدها .. فليس لمخضوب البنان يمينُ
3.  كناية عن نسبة: وهي تتحقق في كل تعبير يراد به نسبه صفة إلى موصوف ثم لا يذكر تلك النسبة صراحة بل تنسب الصفة إلى ما له بالموصوف وثيق الصلة.. أمثلة: قال الشاعر:
اليمن يتبع ظله  ..  والمجد يمشى في ركابه
نجد الشاعر يريد أن ينسب إلى الممدوح صفتي اليمن والمجد ولكنه لم ينسبهما صراحة إليه بأن يقول مثلاً: لقد اتصف باليمن والمجد, أو هو ماجدٌ ميمون, لكنه صرح بما يكنى به عن ذلك, وهو يتبعه اليمن لظله, ومشى المجد في ركابه.
قال الشاعر إزياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى .. في قبة ضربت على ابن الحشرج
فجعل الشاعر هذه الصفات في قبة مضروبة على ذلك الممدوح كناية عن نسبتها إليه.

·   شروط الكناية:
·   للكناية ثلاثة شروط .. الأول: خلو د العلاقة, الثاني: وضوح العلاقة, الثالث: تناسب العلاقة.
·   الشرط الأول للكناية خلو د العلاقة..
·  إن العرف الاجتماعي الذي ترتكز عليه العلاقة أو الدلالة في صورة الكناية يتفرع إلى لو نين متمايزين لكلٍ منهما أثره في طبيعة الكنايات المنبثقة عنه وهما:
·  أولاً العرف الخاص: وهو مجموعة العادات أو التقاليد الخاصة التي تسود في بيئة اجتماعية بعينها أو في عصر بعينه..إن الأساليب الكنائية التي تنشأ في العرف الخاص لا تدل على معانيها إلا في حدود هذا العرف الخاص الزمانية والمكانية..ومن أمثلة ذلك قول الشاعر:
لا أمتع العوذ بالفصال.. ولا أبتاع إلا قريبة الأجل
العوذ (أمهات الإبل) (الفصال) هو الجمل الصغير, (أبتاع): أشترى, فالبيت كناية عن صفة الكرم التي يفتخر بها الشاعر, فقوله: لا أمتع العوذ بالفصال أي أنه لا يدع العوذ الأم تهنأ بصغيرها الذي تلده حتى تفطمه بل هو يسارع إلى ذبحه أو ذبحها للضيوف, وقوله: ولا أبتاع إلا قريبة الأجل أي أن ما يشتريه من الماشية عمره قصير لأنه يسارع إلى ذبحه أو نحره إكراماً للضيوف.. فهذه الكناية محصورة في زمانها ومكانها فقد تغيرت هذه العادات وفقدت هذه الأساليب الكنائية طاقاتها التعبيرية ولم يعد لأي منها مغزى في ذوقنا المعاصر, وكذلك كل الكنايات التي كانت من عادات العرب قديماً واندثرت بمرور الزمان لتغير هذه العادات كقولهم: فلان كثير الرماد, فقد استخدمت وسائل حديثة لطهي الطعام بعيدة كل البعد عن الرماد, وكذلك قولهم: مهزول الفصيل.. كناية عن الكرم لأن سبب هزال الفصيل الصغير من الماشية هو حرمانه من لبن أمه أو من الأم ذاتها إيثاراً للضيوف وحفاوة بهم, تلك الكنايات التراثية التي تجردت الآن من دلالتها على معنى الكرم.
·   ثانياً العرف العام: وهو مجموعة من العادات التي يتعارف عليها أبناء الجنس البشري في عمومه في كل زمان ومكان, وبالتالي تظل دلالة الصورة الكنائية على معانيها موجودة على اختلاف البيئات وتتابع العصور لأنها لا يستأثر لها مجتمع دون غيره ولا يختص بها عصر دون عصر.. ومن أمثلة تلك الصور الكنائية التي تظل دلالتها عبر العصور وفي كل الأمصار الكناية عن الندم في قوله تعالى: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً), وذلك أن البشرية جمعاء قد تعارفت على أن تقليب الأيدي يدل على الندم, وكقولهم فلانة تمشى وتلتفت يميناً ولا يساراً كناية عن عفتها وعدم تطلعها إلى الرجال, إلى غير ذلك.. من الكنايات التي ظفرت دلالاتها على معانيها بالبقاء لارتكازها في تلك الدلالات على تقاليد العرف الإنساني العام.. وفي ضوء هذا الفارق بين لوني العرف الاجتماعي تتبلور لدينا إحدى السمات التي تنفرد بها الصورة الكنائية في القرآن الكريم, وهي خلو د العلاقة بين النص الأصلي والكتابة المطلوبة.. ومن أمثلة خلود العلاقة في القرآن الكريم أنه قد كنى البيان القرآني ببسط اليد عن معنى الكرم, وبغلها أو قبضها عن معنى البخل كما في قوله تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً), وفي قوله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ), أو في قوله تعالى: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ), فرمز اليد بسطها أو قبضها الذي آثره القرآن الخالد في الدلالة على الكرم والبخل ليس من قبيل العلاقة الآنية الزائلة بل هو مما جرى به عرف الاستعمال اللغوي في كل حين وعلى كل لسان فاليد هي دائماً وسيلة العطاء والمنع ومن ثم كان الإيماء ببسطها إلى الكرم وبغلها وقبضها إلى البخل أبقى الرموز الكنائية الدالة عليها.. ومن الكنايات ذات العلاقة الخالدة قوله تعالى: (خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ), وقوله تعالى: (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ* أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ), أو بنكس الرأس كما في قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ), لقد تعارف الجنس البشري على أن انكسار الطرف وطأطأة الرأس هما من أبرز القرائن أو الهيئات المحسوسة الدالة على الذل والهوان ومن ثم كان خلو د تلك الصور القرآنية ببقاء دلالتها على هذا المعنى في الوقت الذي اندثرت فيه صور أخرى كانت تدل عليه أيضاً عند نزول هذا الكتاب الخالد.
وقد كنى البيان القرآني عن معنى الخوف بعدة صور منها على سبيل المثال قوله جل شأنه: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا), والخوف حالة نفسية تعتري الإنسان عند وقوع أذى أو مكروه.. تنعكس آثارها تلقائياً فيما يطرأ على بعض أعضاء جسده من تغييرات.. كشخوص البصر أو زيغه أو ارتجاف القلب واضطراب خفقانه وارتعاد الفرائص أو دوران العين في الحدقة أو ما إلى ذلك من تغيرات فكل هذه العلاقات أزلية دائمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
وقد كنى القرآن عن المرأة بقوله تعالى:  (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ), إن الكناية القرآنية عن المرأة بالتنشئة في الحلية وعدم الإباتة في مواقف الخصومة والجدل ليست من قبيل الكنايات الآنية التي تمضي بمضي عصرها وتفقد دلالتها بزوال المجتمع والعرف الذي نشأت في ظلاله بل هي من قبيل ما جرت به العادة واستقر عليه العرف في كل المجتمعات وعلى توالى العصور.. فإن التحلي بالحلي ما زال وسيظل من شأن المرأة وأبرز ملامح زينتها وأظهر الخصوصيات المائزة بينها وبين الرجل.

·     الشرط الثاني للكناية هو: مثالية الوضوح..
إن الصورة الكنائية تتفاوت فنياً بحسب تفاوتها في مراتب الوضوح.. فكلما كان المعنى المكنى عنه قريب الفهم لا يحتاج إلى كد وجهد كلما كانت الكناية في الدرجات العلى من الصورة الفنية وكلما كانت الكناية غامضة كانت قبيحة.
والكناية في القرآن الكريم قد مثلت هذا الوضوح أحسن تمثيل فنحن لا نكاد نحس إلا بالمعنى المكنى عنه من شدة وضوح الدلالة.
والأمثلة في القرآن على ذلك كثيرة نسوق منها على سبيل المثال قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ), إننا ما إن نتوقف إزاء تلك الآية الكريمة حتى تنقلنا تلك الصور الثلاث مباشرة إلى تخيل هذا الفزع الذي نحسه بل نكاد نراه أو نعاينه متجسداً في كل منها.. نراه في تلك الأم الشاردة التي أفقدها هذا الفزع حنانها الغريزي فتخلت ذاهلة عن رضيعها, ثم في هذا الحمل الساقط قبل تمامه من كل ذات حمل, ثم أخيراً في هيئة هؤلاء الناس الذين اتسعت لديهم الأحداق واصفرت الو جوه, وتمايلت الأجساد, تلك الهيئة التي لا يكاد يشك من يراها في أنه إزاء مشهد من مشاهد السُّكْر وما هو في الحقيقة بسُكْر ولكنه الفزع المذهل من عذاب الله يومئذ.. فنحن إذاً أمام ثلاث كنايات عن فزع الناس يوم القيامة.
الأولى على أن تذهل كل مرضعة عما أرضعت, والثانية أن تضع كل ذات حمل حملها والثالثة هي أن ترى الناس سكارى وما هم بسكارى, وكلها كنايات واضحة العلاقة لا تحتاج إلى كبير جهد لمعرفتها.
ومن الأمثلة على الكنايات واضحة الدلالة في كتاب الله قوله تعالى: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ), فقد كنى التعبير القرآني عن شدة الاغتمام والحزن بسواد الوجه وهي علاقة واضحة بينة لا تحتاج إلى كد وجهد لمعرفة دلالة سواد الو جوه على الحزن والهم.
مما يجرى هذا المجرى قوله تعالى: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ),  والآية كناية عن النساء وهي كناية واضحة الدلالة لأن النساء وحدهن في كل زمان ومكان تهتم بالحلية وتنشأ فيها وكذلك معلوم حياء المرأة الذي يمنعها من الجدال والخصام.
وبناءً على أن جمال وجودة الكناية يتوقف على وضوحها يجدر بنا مناقشة بعض الكنايات المزعومة التي أدخلت قسراً في حيز الكناية لكنها بعيدة كل البعد عن مجال الكناية..قد فسر بعض البلاغيين عدة آيات على أن فيها كناية لكن المدقق في شروط الكناية وخاصة شرط وضوح الدلالة لا يصعب عليه إخراج هذه الآيات من حيز الكناية.. منها قوله تعالى: (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً), لقد ردد بعض البلاغيين القول بأن قوله عز وجل في تلك الآية: (وأرضاً لم تطئوها) هو كناية عن فروج النساء, وهذا تعسف ولىّ عنق اللفظ عن معناه المتبادر منه, فلفظ (الأرض) في التعبير القرآني لا تدل على غير معناها الأصلي, وهذا المعنى هو ما فهمه كثير من المفسرين الذين قالوا إنها الأرض الحقيقية ولكنهم اختلفوا في تحديدها فمنهم من قال هي مكة ومنهم من قال هي خيبر ومنهم من قال إنها أرض فارس والروم.
ولو كانت الأرض في هذا التعبير كما زعم هؤلاء كناية عن الفروج وكان الغرض من تلك الكناية هو ستر ما يستحيا من ذكره فلماذا صرحت الآية إذاً بلفظ (تطئوها) مع أنها تدل بناء على هذا التأويل البعيد على ما يستحيى من التصريح به.
ثم إنه لم يجر في عرف الناس أن الأرض كناية عن النساء ولو كان جدلاً في زمن الأزمان يكنى عن المرأة بالأرض فإن هذه الكناية ليست أبدية الدلالة والكنايات القرآنية أبدية العلاقة كيف ساغ لهؤلاء أن يذهبوا بدلالة لفظ الأرض هذا المذهب البعيد مع أن هذه اللفظة في صدر الآية الكريمة ذاتها لا تدل إلا على معناها الأصلي إذ أن الآية الكريمة تخبرنا عن إيراث أو رثه الله سبحانه للمسلمين وبديهي أن الأرض الحقيقية – لا النساء – هي التي تورث.
ومن هذه الكنايات التي قد حشروها حشراً ما زعموه في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ), لقد وردت لفظة الجلود في الآية السابقة على تلك الآية: (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ), وفي الآية اللاحقة لها: (وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ), وقد ردد كثير من البلاغيين والمفسرين القول بأن اللفظة في الآيات الثلاث هي كناية عن الفروج, وفي هذا التأويل نظر.
لأن الدلالة التي يتمثلها القارئ أو السامع من لفظة الجلود في الآيات الثلاث في وضوح وتلقائية هي دلالتها على معناها الأصلي أي القشرة أو الغشاء الخارجي للبدن, ثم إن العرف لم يجر على استخدام الجلد في الدلالة على الفروج.
وقد وردت لفظة الجلود في القرآن الكريم في أربعة مواضع غير هذا الموضع ودلت في تلك المواضع على معناها الأصلي وهذا ما يدعو إلى التساؤل عن وجهة صرفها عن هذا المعنى والزعم بأنها كناية عن الفرج في هذا الموضع بخصوصه.
ولعل ما يعمق الإحساس بهذا التساؤل في النفس أن البيان القرآني قد صرح بالفروج ولم يكن عنها في كثير من المواضع منها قوله عز وجل: (وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ), (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ), (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ),  (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنّ), أخيراً نود أن نلاحظ مدى ملائمة المعنى الأصلي للفظة الجلود للسياق الذي وردت فيه سورة فصلت, فلقد وردت الآيات الثلاث في سياق الإخبار عن حشر أعداء الله يوم القيامة إلى النار, والجلود بالمعنى الحقيقي لها هي مركز حاسة اللمس التي يدرك بها الإنسان حرارة النار ومن ثم كان تعذيب هؤلاء الكفار بتبديل جلودهم بعد إحراقها كما يخبرنا عز وجل بذلك في قوله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً).
ومن الآيات التي تعسفوا في تفسيرها وعدوها قسراً من الكنايات قوله تعالى: (مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ), لقد ذهب غير واحد من البلاغيين إلى أن أكل الطعام في الآية الكريمة كناية عن قضاء الحاجة, يقول الزركش في ذلك: فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط لأنهما منه مسببان إذ لابد للأكل منها لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط فكنى به عنه.
ولكن هذا الرأي في نظري فيه ضعف لأن القرآن الكريم قد ذكر لفظة الغائط في قوله تعالى: (أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء), وقوله تعالى: (لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ), يصلحان للمعنى الحقيقي للأكل والطعام أو هو الذي يلائم السياق وهو الذي يتبادر إلى الذهن في وضوح.
لقد وردت الآية الكريمة لإثبات بشرية المسيح وأمه وذلك لدحض مزاعم النصارى في إلهيته عليه السلام, وجلي أنه يكفي في هذا الإثبات إجراء أكل الطعام على معناه الحقيقي دون تمحل لأي معنى آخر, وهذا ما أشار إليه غير واحد من البلاغيين في أفكارهم لكون هذا التعبير من قبيل الكناية ونكيرهم على من قال بذلك, يقول الجاحظ في ذلك: بل الكلام على ظاهره ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل الطعام, لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثاً كذلك لا يكون طاعماً, وقد نقل عنه الثعلبي قوله في ذلك أيضاً.. كأنهم لم يعلموا أن مس الجوع وما ينال أهله من الذل والعجز أو ل دليل على أنهم مخلوقون حتى يدعوا على الكلام شيئاً قد أغناهم الله عنه.. ومنها قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ), لقد ردد كثير من البلاغيين والمفسرين القول بأن لفظة (نعجة) التي تكررت مرتين في الآية الكريمة هي كناية عن المرأة.
يقول البيضاوي في تفسيره: النعجة هي الأنثى من الضأن وقد يكنى بها عن المرأة.                (تفسير البيضاوي ص 5/17), ويقول ابن الأثير: فإنه أراد الإشارة إلى النساء فوضع لفظ لمعنى آخر وهو النعاج ثم مثل به النساء (المثل السائر ص 2 – 246), وانظر الكشاف ص3/323, الطراز ص1/427 . إن دلالة لفظة النعجة على المرأة في الآية الكريمة ليست على هذا النحو من الوضوح الذي هو من خصائص الكناية في القرآن الكريم ويبدو أن هؤلاء الذين قالوا بتلك الدلالة لم يفهموها من النص القرآني ذاته ولكنهم قد اجتلبوها اجتلاباً من تلك القصة المروية في كتب بني إسرائيل عن زواج داوود عليه السلام من امرأة أو ريا, والتي شاع فيها القول بأنه كان له عليه السلام تسع وتسعون امرأة قبل زواجه من تلك المرأة, لعل هؤلاء قد فهموا من انطباق العدد في تلك القصة على العدد في الآية الكريمة أن لفظة النعجة فيها تعنى المرأة أو الكناية عنها.. والواقع أن سيدنا علي بن أبى طالب قال: من حدث بما يقول هؤلاء القصاص من أمر داوود عليه السلام جلدته حدين, ولعل من العجب حقاً أن يفهم هؤلاء البلاغيون لفظة النعجة بهذا المعنى الكائن مع أن نبي الله داوود عليه السلام نفسه لم يفهمها إلا بمعناها الحقيقي إذ بتأمل السياق يتجلى لنا أنه عليه السلام عند سماعه لهذا القول من أحد الخصمين – في البداية – أنه أمام دعوى حقيقية أو تخاصم حقيقي حول نعاج ومن ثم بادر بإبداء حكمه فيه كما تخبرنا الآية التالية لتلك الآية: (قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء...), ثم تنبه في النهاية إلى أنها تمثيل لما كان من أمره فبادر بالإنابة والاستغفار.
يمكننا القول في ضوء مناقشتنا هاتين الظاهرتين – إذاً – إن محاولة الوقوف على مواضع الكناية في القرآن الكريم تظل عرضة لهذا التفريط أو الإفراط ما لم يساندها الوعي العميق بتلك السمة وهي وضوحها المثالي على نحولا يحتاج معه متأملها إلى أدنى تأو يل أو بيان.

·     ثالثاً: التناسب السياقي..
وهو ملائمة الصورة للمعنى المكنى عنه, ودقة الملائمة بين الصورة للمعنى الذي تصوره        ولطبيعة السياق الذي ترد فيه.. مثال: قال تعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ), إن الكناية بالألواح والدسر (المسامير) في هذا السياق إشارة إلى أن نجاة نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين إنما كانت بعناية الله وحدها لا بتلك السفينة إذ ما هي إلا مجرد ألواح ركبت فيها المسامير وكان انفصالها في غاية السهولة لو لا عناية الله وحفظه, فالألواح صفات تقوم مقام (السفينة) وتؤدي مؤداها ولكن لفظة السفينة موحية بالقوة والمتانة فلربما يظن الناس أن نجاة سفينة نوح وسط تلك الأمواج المتلاطمة العالية علو الجبال هو متانة هذه السفينة الضخمة العظيمة لكن لما عدل عن لفظ (السفينة) إلى الكناية عنها بـ (ألواح ودسر) أو ضحت ضعف هذه السفينة التي هي مجرد ألواح ودسر ضعيفة قابلة للتفكك من أول لطمة موج لكن العناية الإلهية هي التي حفظتها ومن عليها.. فهناك إذاً مناسبة ومواءمة بين الصورة والمعنى فإن الصورة هنا تخدم المعنى المراد إبرازه.
ومنها قوله تعالى: (يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ), ففي هذه الآية ثلاث كنايات عن فزع الناس عند زلزلة الساعة.. الأولى: تذهل كل مرضعة عما أرضعت والثانية: تضع كل ذات حملٍ حملها والثالثة: ترى الناس سكارى وما هم بسكارى.. ولنتأمل مدى الملائمة بين الصورة والمعنى الذي سيقت السورة من أجله فلننظر إلى سر إيثار التعبير بكلمة (مرضعة) دون (مرضع) في الصورة الأولى فالمرضع هي التي من شأنها الإرضاع أي هي من لديها هذا الاستعداد سواء أكانت ترضع أم لا أما المرضعة فهي التي تزاول فعلاً عملية الإرضاع وفي هذا ما يدل على أن الفزع الذي تصوره السورة هو ذلك الفزع العاصف بالنفوس الذي يدفع الأم إلى انتزاع ثديها من فم رضيعها دون وعي.
ولنتأمل في تلك الصورة كذلك اسم الموصول (ما) دون (من) في قوله جل شأنه (عما أرضعت) والفرق بينهما أن (من) لا تطلق على الحقيقة إلا على من يفعل أما (ما) فالأصل فيها أنها تكون لغير العاقل ولكنها قد تقع على من يعقل لعلة بلاغية أو عند اختلاط العاقل بغير العاقل على وجه التغليب ففي ضوء هذا الفارق يتضح إيثار لفظة (ما) إذا أن الأم تشرد ذاهلة عن رضيعها لا تكاد تحس ببنوته لها بل إنه يصبح بجوارها شيئاً ما لا تدرى بكنهه لفرط ما يسيطر عليها من هو ل وهلع.
ثم لنتأمل الصورة الثانية: (وتضع كل ذات حملٍ حملها) قد آثرت الآية لفظ (تضع) دون لفظ        (تسقط) التي هي الأصل للدلالة على مثل تلك الحال حيث يقال للتي ولدت ولادة طبيعية             (وضعت فلانة غلاماً) أما إذا سقط الجنين نتيجة إصابة أو فزع فيقال (لقد حث سقط لفلانة) ولعل السر في ذلك أن من شأن الإسقاط أن يكون عسيراً على الحامل تعاني فيه أضعاف ما تعانيه في حال الو ضع ومن ثم يكون لإيثار الو ضع على الإسقاط في تلك الصورة إيحاؤه بأن الهلع الذي يعصف بالحامل يجعلها لا تشعر بسقوط جنينها.
ثم لنتأمل أخيراً ذلك النفي المؤكد في الصورة الثالثة (وما هم بسكارى) فإن (الباء) حرف جر زائد يفيد التوكيد الذي يؤدى دوره في تعميق ملامح الاضطراب والفزع والذهول في تلك الصورة فهذا النفي يدل على أن تلك الملامح تكون من الوضوح والتجسد في هيئات الناس بحيث يعتقد من يراهم أنهم فعلاً سكارى ومن ثم جاء هذا النفي المؤكد بحرف الجر الزائد (الباء) واسمية الجملة  – فإن الجملة الاسمية تفيد الثبوت والرسوخ – جاء هذا النفي لإزاحة الاعتقاد بأنهم سكارى وإثبات أن تلك الملامح البادية على الأجسام والو جوه ما هي إلا ملامح الفزع والخوف.
ومنها قوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ), فقد آثر التعبير القرآني استخدام كلمة (تمسوهن) التي تعنى مجرد اللمس أو الجس باليد دون كلمة الإفضاء التي بمعنى الشيء المختلط فهو أقرب من المس في الدلالة على الاتصال الجنسي, كذلك لم يستخدم التعبير القرآني كلمة (المباشرة) في هذه الآية للكناية عن الجماع فالمباشرة أكثر دلالة من اللمس على الجماع لأنها تعنى التقاء البشرة بالبشرة.
يا ترى إذاً لماذا استخدم التعبير القرآني كلمة (المس) في هذه الآية للكناية عن الجماع؟, لعل هذه اللفظة إنما أو ثرت في هذا السياق لترغيب الرجل في أداء حق المرأة في الصداق كاملاً لأدنى ملابسة لمقدمات هذا الأمر معها ولعل هذا الترغيب هو بعض ما يومئ إليه قوله تعالى في ختام تلك الآية (ولا تنسوا الفضل بينكم).
ومنها قوله تعالى: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً* وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً), لقد آثر التعبير القرآني كلمة (أفضى) في الكناية عن الجماع وهي إشارة أقرب إلى التصريح ذلك لأن الإفضاء هو الاختلاط فهي أدل على الجماع من كلمة (المباشرة) أو (المس) لأن المباشرة هي مجرد التقاء البشرتين والمس هو مجرد لمس الشيء أو جسه باليد.
فكلمة (أفضى) أكثر ملائمة من سواها لهذا السياق إذ هي تؤدى دورها في تنفير الرجل من أن يضن على مطلقته بما آتاها من مال – أيا كان قدره – بعد هذا التمازج أو التلابس التام الذي كان بينهما.

·     كل كلمة تناسب مكانها..
إذا تأملت القرآن الكريم وجدت كل كلمة تناسب مكانها تماماً فلا تستطيع أن تأتى بلفظة أخرى مكانها إلا وحدث خلل وضاعت من السياق البهجة والتناسق والحلاوة والمعنى المراد, فكل كلمة قد وضعت في مكانها بدقة متناسقة مع ما قبلها وما بعدها في جرسها ومعناها.
1. قال تعالى: (قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ), قد يظن البعض أن الأنسب في وصف فعل الذئب إنما هو الافتراس ولكن لفظ (أكل) في هذا الموطن أدق وأنسب للمعنى, ذلك لأن الافتراس مشتق من الفَرْس بمعنى دق العنق فمعناه القتل فحسب في حين إخوة يوسف قصدوا إلى إخفاء معالم الجريمة وقطع الطريق على أبيهم في مطالبتهم بأثرٍ باقٍ من يوسف يشهد بصحة دعواهم من أجل ذلك ادعوا على الذئب أنه أكله كله ولم يبق منه شيئاً فالافتراس لا يعطي تمام هذا المعنى.
2. قال تعالى: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ), استعمل القرآن المعجز لفظ (هلك) ولم يستعمل لفظ (ذهب) لأن الذاهب قد يعود أما الهالك فلا عود معه.
3. قال تعالى: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ), فلو نظرت إلى كلمة (رماد) لو جدتها من أشد الكلمات مناسبة في هذا الموطن دون غيرها من الكلمات التي ترادفها (كالتراب) أو (الغبار) مثلاً وذلك لقوة ملاءمتها بظلالها الدلالية الخاصة لتصوير ما سيقت الصورة لتصويره (أعمال الكفار) فالرماد هو كالتراب والغبار مادة قابلة للتبعثر أو التشتت عند اشتداد الريح غير أنه يتفرد دونهما بأن مادته لا تتكون إلا بفعل الإحراق أو الاشتعال أي أنها كانت مادة صالحة للانتفاع كالخشب أو الحطب أو الو رق أبطلت النار صلاحيتها ومن ثم كانت ملاءمتها لتمثيل أعمال الكفار الصالحة التي يبطل كفرهم بالله صلاحيتها.
4. قال تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ* النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ), هؤلاء الظلمة الذين يتمتعون بعذاب المؤمنين وبإحراق أجسادهم في النار وهم جالسون متكئون على مقاعدهم الوثيرة لا تتحرك قلوبهم ولا تهتز بالشفقة ولا بالرحمة لأنها خالية منها تماماً.. أنظر كيف آثر المنظم القرآني كلمة (قعود) بدلاً من غيرها من الألفاظ المرادفة لها ذلك لأن القعود فيه من دلالة إطالة الجلسة والتسلي بالمشاهدة لأن الإنسان لا يلجأ إلى القعود إلا إذا كان على روية من أمره يود الاستزادة من الحديث أو المشاهدة فهؤلاء الظلمة قعدوا وأطالوا جلستهم مستمتعين بعذاب المؤمنين أقعدهم الله في نار جهنم وأطال بقاءهم فيها.
5. قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ), في قوله تعالى: (قالوا أنصتوا) فرق بين الإنصات والاستماع, فالإنصات أن تتعمد الاستماع أما الاستماع أن تسمع الشيء عفواً دون قصد ولذلك كان التعبير بأنصتوا أكثر دقة وأوفى بالمراد.
6. قال تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُم), قال تعالى: (وأنهار من عسلٍ مصفى) ولم يقل خالص لأن الخالص مازال عنه شوبه بعد أن كان فيه, والصافي يقال لما لا شوب فيه فكان الصفاء أكثر قيمة من الخالص.
7. قال تعالى:  (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ), في قوله (ومنهم من يستمع إليك) لم يقل (يصغى إليك) لأن الاستماع غالباً ما يكون عفواً دون وهي أو تفقه فيما يقال, بخلاف الإصغاء فيكون عن قصد وعندئذٍ يتوافر الدافع لوعي ما يقال وتفهمه.. وهكذا كان حال المنافقين يسمعون بلا وعى لأنهم لم يؤمنوا باطناً بما يقوله صلى الله عليه وسلم, من أجل ذلك إذا خرجوا من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهمون من الصحابة استفهام الساخر المستهزئ (ماذا قال آنفا).




هناك تعليقان (2):

  1. معظمه من كتاب الأستاذ الدكتور حسن طبل أستاذ البلاغة كلية دار العلوم جامعة القاهرة.(حول الإعجاز البلاغي للقرآن قضايا ومباحث)

    ردحذف