السبت، 1 مارس 2014

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر


توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر مسألة في غاية الأهمية، فما من شاعر عربي معاصر معروف إلا و استخدم الأسطورة في أعماله، و هناك حالات استثنائية و طفيفة لا يقاس عليها . إن الأسطورة تشكل نظاما خاصا في بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، و قد يبدو هذا النظام عصيا على الضبط و التحديد، و ذلك لضبابية الرؤية المراد طرحها في النص الشعري، و لكثافة الأسطورة نفسها غموضا و تداخلا مع حقول معرفية أخرى. فعندما نستحضر الأسطورة فإننا نستحضر التاريخ متداخلا مع الميثولوجيا و الخرافة، و الحكاية الشعبية، و هنا يصعب علينا معرفة أوجهها كاملة، و ذلك لتناصها مع هذه الحقول المعرفية الأخرى، فهل الأسطورة هي الخرافة أم هي التاريخ أم الفلكلور أم هي الحكاية الشعبية أم هي جزء مهم من اثنولوجيا وصفية، لاتزال بوصفها بنية معرفية عميقة، تتعلق بمعتقدات الشعوب و روحانياتها و تقاليدها، تفعل فعلها في حياتنا المعاصرة ؟. إنها مزيج من هذا و ذاك، و لذا فهي عصية على الضبط و التحديد. إنها رؤية متنامية متشعبة في بنية الزمان التاريخي، و المكان الأثنوجرافي، و تصبح الأسطورة أحيانا تاريخا و « كل أسطورة تروي تاريخا ». على حد تعبير كلود ليفي شتراوس [1]. و تصبح خرافة، و تداخلها مع الخرافة يزيدها تعمية و غموضا، و التاريخ نفسه يصبح لدى جيل من الأجيال أسطورة. فبغض النظر عن كون شخصيتي شهرزاد و شهريار من التاريخ أو الأسطورة، فإنهما يبقيان في بنيتهما العامة جزءا من السحر و الأسطورة و الخرافة و التاريخ و الميثولوجيا و الفكر و الفن في آن .

و تاريخيا كانت الأسطورة هي ملاذ الإنسان الأول، للانتصار على خيباته، و لتخطي فواجعه، و سياسيا كانت محاولة لخلق بديل جديد، أكثر إشراقا وجمالا، إنها النافذة التي يرى الإنسان العربي من خلالها النور و الفرح، لأنها تخلق له حالة توازن نفسي مع محيطه و مجتمعه، فبوساطتها تتم عملية الحلم و التخيل، و الاستذكار، فإذا كان الواقع فاسدا ظالما، و مرا، و الإنسان فيه غير قادر على تحقيق أبسط متطلباته، نتيجة لسلطة هذا الواقع المدمرة إنسانيا و أخلاقيا، فالحلم و الثورة هما الوسيلتان الوحيدتان لتخطي هذا الواقع، قد تتأخر الثورة، و قد تلغى، و قد تغيب، لكن الحلم دائما يحضر، و « يجن الانسان حينما يمنع من الحلم » على حد تعبير بودلير. إن الحلم هو الوجه الآخر للشعر كما يرى هربرت ريد [2] ، و « لو استطعنا أن نروي أحلامنا لأمكننا أن نروي شعرا متواصلا ». و بالرغم من التحليلات الاجتماعية التي تؤكد أن اللجوء إلى الفكر الأسطوري، هو هروب من مواجهة الواقع، و هو دعوة لسيادة الظلم، و دعوة إلى إلغاء العقل « فالفكر الأسطوري القائم على أساس غيبي لا عقلاني (…) له منطقه المختلف تماما عن منطق الفكر الموضوعي. و الأسطورة المكونة لهذا الفكر تنزع دائما إلى إضفاء صفات قدسية غامضة على مواضيعها و أشيائها و أشخاصها. ولا مشاحة أن الأسطورة لها، عمليا، مستلزمات غيبية تستند إليها في الواقع، و تنعكس بواسطتها على المجتمع و على السلوك السياسي، الطبقي فيه. فالوسائل المتولدة من جراء الأسطورة أو المولدة لبعضها، تتحول في المجتمع إلى أدوات إضافية للسيطرة ملكية طبقة محددة لوسائل الممارسة الأسطورية إذا جاز التعبير والافتراض» [3]، و هو تكريس للعبودية الاجتماعية التي تعتمد عليها السلطة السياسية ضمانا لاستمرار سلطتها، ف « الفكر الأسطوري إذ يقدم للإنسان مثالا عن إرادة القوة الغيبية، يضعه في نفس الوقت في وضع (العبد) المندهش، المرتعب من سلطان هذه القوة، التي يزعم المستبدون أنهم يمثلونها أو ينطقون باسمها » [4].

و بالرغم من هذه التحليلات، فإن الأسطورة من حيث كونها فكرا و فنا و تاريخا، تشكل خطابا يمكن أن يقال عنه إنه أدبي يتناص مع التاريخ و الميثولوجيا. و ما يجعل الأسطورة خطابا أدبيا، قدرتها على توسيع آفاق المخيلة عن طريق الحلم والتخيل، و ما الأدب في بنيته العميقة إلا نظام رمزي قادر على الإيحاء و التأويل، و من ثم كشف اللاإنساني و اللاأخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية و نظام قيمها، وإدانته. و حتى لو آمنا بأنه كلما تراجع المجتمع حضاريا و ثقافيا، و بقي مغلفا بالغيبيات و الشعوذات و السحر، زادت أساطيره و خرافاته، فإن ذلك لا يعني التقليل من شأن الأسطورة، لأنها تبقى عنصرا بنائيا مكونا للفكر الإنساني. ينمو الفكر الإنساني و يتحرر، و يزداد عقلانية مع تطور المعارف و العلوم، لكن ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم و التخيل. و الأسطورة في أهم خصائصها أنها رؤية حلمية تخيلية.

و ترافق الأسطورة الإنسان في حله و ترحاله باعتبارها رمزا مضيئا، و قد تتعدد مستويات هذا الرمز، لكنه يبقى على صلة قوية بصيرورة التاريخ، و تشكل طبقاته الاجتماعية، و حينما يسود الفكر الأسطوري قويا و فاعلا لدى أمة من الأمم، فإن ذلك يعني وجود سلطة بتعدد أوجهها تمنع شرائح مجتمعها من العيش بأمان و طمأنينة و سلام روحي، لكن الأسطورة تبقى في المجتمعات المتخلفة حلا جماليا لرفض حالات الاستلاب و الخيبة التي يمر بها إنسان هذه المجتمعات، المفجوع و المقهور في توجهاته و تطلعاته. أما في المجتمعات المتقدمة حضاريا و تكنولوجيا، المتراجعة على مستوى العلاقات الاجتماعية بشرطها الإنساني، فإنها « مرض من أمراض اللغة »، [5] و هي في آن مرض من أمراض لوثات العصر بتعقيداته، و ما تفرزه الحضارة المتقدمة صناعيا من استلاب و تشيؤ.

إننا إذ نستحضر الأسطورة في وقتنا الراهن، حيث الهزائم على كل المستويات، فإن نزعة (نوستالجية) تتأجج في أعماقنا نحو الماضي، و نحو المجهول، و نحو عوالم بكر لم تستكشف بعد. و تزداد هذه النزعة مع خيباتنا المتكررة في ظل أنظمتنا الاجتماعية الغاصة بالتعقيد و الفساد و الجهل.

إن عصر توليد الأساطير Mythopoec Age، قابل لأن يمتد حاضرا و مستقبلا. من منا لم يعجب بأسطورة جلجامش و أنكيدو و توقهما المطلق للدفاع عن قضايا الإنسانية ؟. و من منا لم يعجب بتصميم جلجامش على قطع غابات واسعة، و بحار طويلة للبحث عن النبتة المقدسة التي تعطيه هو و قومه في « أوروك » سر الخلود الأبدي، و التحول من طبقة البشر إلى طبقة الآلهة ؟. و كم كان محزنا حينما سرقت الأفعى النبتة المقدسة التي حصل عليها !. ومن منا لم يعجب بشجاعة جلجامش و أنكيدو حينما قتلا الثور السماوي الذي أرسلته الآلهة لقتل أنكيدو، بعد أن طلبت عشتار ذلك من الإله « آنو » ؟.

« لقد أمسكا بالثور السماوي و مزقا قلبه ..

و هنا اعتلت الربة عشتار سور أوروك ذات الأسوار

و صعدت على شرفات السور و صارت تطلق اللعنة منادية:

الويل لجلجامش الذي أهانني و قتل الثور السماوي

و سمع أنكيدو كلام عشتار هذا

فقطع فخذ الثور السماوي الأيمن و رماه في وجهها

و أنت سوف أصل إليك مثله (سيصيبك مني ما أصابه)

و أعلق أحشاءه إلى جنبك.

و جمعت الربة عشتار الكاهنات المنذورات

و الكاهنات الحبيبات و البغايا المقدسات

و نصبوا النواح على فخذ الثور السماوي الأيمن » [6]

إن اللجوء إلى الأسطورة في الفكر العربي المعاصر هو استحضار للبطولة الغائبة، و حنين لها، و توق لزمن نظيف، و تاريخ غير ملوث بالطغاة و الظلمة. و عندما نستدعي البطل الأسطوري و التاريخي عبر زمن القصيدة و شفافيتها، فإن توقا شديدا يدفعنا لتقمص هذا البطل، و تمثل حالاته، باعتباره المفدي و المخلص و الشعلة التي تنير طريقا مظلما.

إن توليد الأسطورة و خلقها، و إعادة صياغتها عملية جمالية، تهدف إلى البحث عن عالم جميل و مضيء لم تقتله بعد ايديولوحيا السلطة: سلطة السلطة، سلطة الكلمة، و سلطة المجتمع، لكن العصر الذي ولدها و يولدها ليس عصرا مضيئا، فهي تخلق وتولد لتمنع زحف ظلامه و سوداوية ظلمته، على المستوى التخيلي و التأملي.

ما من شاعر عربي مبدع إلا و لاقى الظلم و المهانة، مما كسر شموخه الإنساني و شرده، فلجأ إلى الحلم و التخيل و استخدام الرموز الأسطورية و التاريخية المضيئة و الموحية.

و قبل أن يكون توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر عودة إلى التراث و الميثولوجيا، فإنه رؤية تستمد مكوناتها من الواقع، و اتجاهات هذا الواقع و رؤاه، فالتاريخ و الميثولوجيا و الواقع كلها مكونات للفكر الأسطوري، فالواقع العربي اليوم بتعقيده و غرائبيته، و سوداوية علاقاته و مؤسساته لهو أغرب من الأسطورة، إنه الخرافة عينها التي تفوق حد التخيل و الوصف. و ما من شاعر عربي مبدع إلا و عانى من اغتيال هذا الواقع لأحلامه و فرحه، و حرية قصيدته، فكان اللجوء إلى الأسطورة رفضا لهذا الواقع، و بالتالي كان استخدام الرمز الأسطوري المكثف الدلالة، البعيد الإيحاء، هربا و خوفا من سلطة هذا الواقع، لكي لا يثير الشاعر ظنون سلطة الرقابة وريبتها.

كان الشاعر العربي يرتحل و يحمل همه و هم قصيدته، ورموزه التاريخية و الأسطورية، و أنى حل كان ينشد الفرح و الحرية، عبر دلالات هذه الرموز، فخليل حاوي ذهب إلى لندن و كتب أجمل قصائده « السندباد في رحلته الثامنة »، و بدر شاكر السياب أخذ « أدونيسه » المضرج بدمائه، متنقلا من مشافي بيروت إلى لندن ثم الكويت. و عبد الوهاب البياتي حمل « حلاجه » عبر رحلاته من بغداد إلى بيروت إلى مدريد، و عبد العزيز المقالح أنارت له رموز بلاده: سيف بن ذي يزن، وضاح اليمن، بلقيس، منية النفوس، طريفة، عاقصة، عيروض [7]. لياليه المظلمة عندما كان غريبا و طالب دكتوراه خارج بلاده.

إن تواتر الأسطورة و تناقلها عبر مثاقفة حضارية نامية بين الأمم و الحضارات قديما و حديثا، لدليل حي على قدرتها على النفاذ إلى أعماق الرؤية المعاصرة، باعتبار هذه الرؤية نسقا عصيا على التحديد الزماني و المكاني، إنها ممتدة من الماضي إلى الحاضر. إن بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر لا تعني الانقطاع عن التراث، فقد أثر التراث في تشكيل هذه البنية، و لا يزال يؤثر بدرجات متفاوتة، من شاعر إلى آخر و « قد شغل التراث الإسلامي والعربي مساحة واسعة من التاريخ الإنساني، واستطاع الدارس بعامة و الشاعر الحديث بخاصة أن يجد فيه أمداء رحبة و مواد قيمة يستطيع أن يتعامل معها، و يغني بها فنه. و من هذه المعطيات ما يتمثل في الموروثات الأسطورية و الخرافية التي انتهت إلى حياة العرب في الجاهلية، فتداولوها و تناقلوا أحداثها مثل وادي عبقر و الغول و العنقاء (…) و من ذلك أيضا الأمثال و التراث الشعبي الذي يمثل ثروة غنية بالشخصيات الأسطورية و التاريخية » [8]

و بالرغم من رؤية بعض الشعراء و الباحثين على مستوى التنظير بأن اللجوء إلى التراث ليس فعلا إبداعيا، و أن التراث ليس نبعا ولا مركزا، فإن ذلك لم يمنعهم من الرجوع إلى التراث بشتى توجهاته، بل كانت أجمل قصائدهم و أكثرها شفافية و عمقا إنسانيا، هي التي نهلت من هذا التراث و وظفته يقول أدونيس [9] « ليس التراث مركزا لنا. ليس نبعا و ليس دائرة تحيط بنا. حضورنا الإنساني هو المركز و النبع، و ما سواه و التراث من ضمنه يدور حوله. كيف يريدوننا إذن أن نخضع لما حولنا ؟ لن نخضع. سنظل في تواز معه، سنظل في محاذاته و قبالته. و حين نكتب شعرا سنكون أمناء له قبل أن نكون أمناء لتراثنا. إن الشعر أمام التراث لا وراءه. فليخضع تراثنا لشعرنا نحن. لتجربتنا نحن. لا يهمنا في الدرجة الأولى تراثنا بل وجودنا الشعري في هذه اللحظة من التاريخ، و سنظل أمناء لهذا الوجود. من هنا الفرق الحاسم بيننا و بين الإرثيين: لا يقدم نتاجهم إلا صورة الصورة. أما نحن فنخلق صورة جديدة».

إن العودة إلى التراث لا تعني هيمنة الرؤية التراثية على الرؤية المعاصرة. و لقد استطاع الشاعر العربي المعاصر أن ينطلق من البنية التراثية نفسها، ليبدع بديلا منها، و يتجاوزها، و صارت الحكاية الأسطورية و الخرافية عند الأدباء المعاصرين « ترد إلى عناصرها و كثيرا ما تضاف إليها عناصر جديدة تتواصل مع العناصر التقليدية، ثم يعاد تركيبها جميعا في شكل يشع ضوءا جديدا على الحكاية نفسها، فإذا هي قد تحولت إلى شكل جديد و مغزى جديد، نابعين من الرؤية الفنية و الفكرية للكاتب، تلك الرؤية التي تعتمد على ثقافته و على قدرته على تحليل مجتمعه و الكشف عما في هذا المجتمع من مشاكل إنسانية أو سياسية أو اجتماعية » [10].

صار التراث الأسطوري في القصيدة العربية المعاصرة جزءا من رؤية جمالية، بعد أن تعامل معه الشعراء المعاصرون وفقا لمنظور إنساني و حضاري، إذ إن كثيرا من الرموز التراثية قادرة على الاستمرار في نسق الواقع المعاصر، و بالتالي التحريض على تغييره بفعل إضاءتها التاريخية و دلالة هذه الإضاءة على المستوى الإنساني و الاجتماعي و السياسي. و مع ذلك فالشعر العربي المعاصر ليس وليدا للرؤية التراثية، و لا يمكن أن يكون ذلك بالرغم من الاستفادة من مكونات هذه الرؤية، لأن له شرطه التاريخي و الحضاري، و امتداد هذا الشرط داخل بنية الحياة المعاصرة، بتشعبها و تناميها، و انتصاراتها و فواجعها في آن.

الرؤية التراثية خيط شفيف يربطنا بالتاريخي و الأسطوري و المعاصر و العقلاني، قد ينقطع الخيط، و قد يمتد، و لا يعني انقطاعه فشلا أو قصورا في الرؤية العربية المعاصرة. الرؤية التراثية إضاءة لزمن القصيدة، لكنها ليست ملزمة، إنها رؤية تستنفر بعدا جماليا، لكننا نستطيع تشكيل بديل منها، إنها الرؤية للعالم بتحديد لوسيان غولدمان لمفهوم رؤية العالم، و بامتداد هذه الرؤية ماضيا و حاضرا و مستقبلا، و بقدرة هذه الرؤية على التعامل مع مكونات الفكر الإنساني الثقافي و مع مكونات الأجناس الأدبية كافة. إن مهمة الرؤية الحديثة إحداث خلل في الأنظمة القوالبية الموروثة، في الشكل الشعري، في القافية و الوزن، و بالتالي في المضمون نفسه، و لها دورها في تشكيل زمن جديد خصب و متنام، من أهم ميزاته أنه لا يخضع للتحقيب التاريخي، و التأطير الزمني، باعتباره زمنا منفتحا على جميع أشكال التطور الاقتصادي و الثقافي و الاجتماعي، و على الزوايا المضيئة في كل العصور.

لقد أدخلت الرؤية الحديثة في الشعر على مقولتي « الإبداع لأجل الإبداع »، و « الفن لأجل الفن » مفاهيم جديدة، فالإبداع و جمالية الفن مضافا إليهما حركية التغيير والهدم، تأسيسا للبناء الجديد. و لا قيمة للترف الشكلي و الزخرفي و الإغراق في الحلم، و الهذيانات السريالية، التي طغت على بعض النصوص الشعرية المعاصرة، إلا إذا كان الهدف من ذلك تأسيس رؤية إنسانية قادرة على تعرية زمن الطغيان، طغيان اللغة، و طغيان سلطة معرفية بعينها، « و قد ساعد فتح الأبواب أمام الإبداع الشعري الجديد على وجود هذه التيارات و تعددها داخل حركة الشعر الجديد، ونشأ عن ذلك اجتهادات و تيارات منحرفة لا تنشر سوى هذيان لا علاقة له بالشعر أو بالفن و لا علاقة له بالتجديد أو الابتكار، و خطر هذه التيارات المنحرفة أنها تدفع الجديد نحو اللا مبالاة اللغوية و نحو اللا مبالاة العقلية » [11]. . و لم يكن طغيان الهذيان في الخطاب الشعري العربي المعاصر، إلا تعبيرا عن فشل إنساني عام، مستمد بالدرجة الأولى من بنيات المجتمع القاتمة، و تراجعه و هزائمه. و بغض النظر عن كون الهذيان ظاهرة مرضية في الشعر العربي المعاصر، إلا أنه يستمد كثيرا من مكوناته، من بنية الأسطورة و الخرافة و الأحلام، و التفكير الميثولوجي، لأن الهذيانات الشعرية كثيرا ما ترتبط بامتداد الأسطورة معرفيا و زمنيا، و حينما يتداخل الهذيان مع الحلم و الأسطورة، و الإيحاءات السريالية، تنشأ ظاهرتان شعريتان هما الغموض و الإبهام. فالتداخل العشوائي اللا منظم، المضطرب، و المتوتر يخلق حالة من الإبهام، التي يستحيل فك طلاسمها، و اكتشاف ما وراء ضبابية هذه الطلاسم. أما التداخل الجمالي الرؤيوي، فإنه يشكل حالة شفيفة من الغموض الموحي و المرمز. و الغموض هو مظهر من مظاهر الحداثة في الحركة الشعرية العربية المعاصرة. « و الحقيقة أن لغة الشعر بالفعل غامضة، لكن غموضها لا يرجع إلى عدم قابليتها للفهم، أو خلوها من المعنى، و إنما هو العكس، فلغة الشعر غامضة لأنها مشحونة بالمعاني، المعنى الشعري معان بعضها فوق بعض كطبقات الأرض، منها ما هو ظاهر مكشوف، و منها ما هو باطن يحتاج إلى الكشف و التعمق حتى تصل إليه بقراءة تلو أخرى و بأدوات كثيرة و بديهة يقظة و قلب حي » [12]و عموما ترتبط حالات الإبهام و الغموض بالذاتي و الموضوعي في حياة الشاعر داخل حقله الثقافي و المعرفي و وسطه الاجتماعي و الإنساني.

و يشكل الحلم بالنسبة لكثير من المبدعين مفتاحا للرؤية الشعرية، إنه أساس الفعل الشعري و جوهر العملية الإبداعية بالنسبة لهم، و هنا يشترك الحلم مع الأسطورة في كونهما عملية تخيلية تتخطى حدود الواقع الممكن، إلى أفق أكثر رحابة في بنية الفضاء المكاني و الزماني. يقول الشاعر أنسي الحاج [13] : « خلافا للأكثرية، أنا أؤمن بالحلم، من لا يحلم لا يفعل، الحلم يسبق الفعل، كما يسبق الغيم المطر … الحلم جوهر غير أنه وجود … و الحلم هو العقل و الروح و الخيال. إنه الفردوس الممكن … الحلم أولا، الحلم فوق الجميع، الحلم الذي هو محرض الواقع و روحه و عقله و عصبه، الحلم الذي هو المستقبل، الحلم الذي هو النبي و الشاعر.».

إن التداخل الجمالي آنف الذكر يفرز بدوره تجريبا شعريا، تبدو أهميته في إبداع المتميز، المتنامي و المغاير، من خلال استخدامه للتراث الأسطوري، و استحضار البنيات الجمالية الأسطورية الغائبة عن واقعنا المعاصر، و ما « من شاعر عظيم أو روائي عظيم إلا و قد أضاف من خلال التجريب بعدا جديدا إلى الفن الشعري و الروائي، و أثبت أنه غير خاضع و غير مستسلم لكل المواصفات السائدة و المألوفة. التجريب إذن و محاولة الإضافة نزعة صحية و ضرورية في كل فنان أصيل و في كل كاتب موهوب و في كل شاعر يريد أن يضيف إلى التراث و لا يكرره أو يقلده » [14].

إن استخدام الأسطورة و الرمز و التاريخ في الخطاب الشعري العربي المعاصر نوع من التجريب الجمالي، قبل أن يكون عودة إلى التراث، و التأكيد على حضوره. و هذا التجريب الجمالي في بنيته العميقة ينبغي أن يؤكد مكانة الإنسان، و دوره الحضاري، و يستحضر أعمق مشاعره الإنسانية و أدقها. ف « الأشكال الفنية ليست أشكالا فارغة، و إنما تقوم بوظيفة خاصة في تنمية خبرة الإنسان، و في تنظيم هذه الخبرة، كما تؤدي دورا أساسيا في بناء عالم الإنسان، و في تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من معنى لحياته ولعالمه » [15]، و كل تجريب خلاق مبدع ينبغي أن يكون إنسانيا، و لا قيمة لتجريب على مستوى الشكل الشعري و مضمونه، إذا اقتصر على الظاهرة الشكلية و السطحية، التجريب على مستوى بنية الشكل الجمالي، و إضافة الظواهر الجمالية و المغايرة إلى هذا الشكل أمر ضروري، لكنه ليس كافيا لتحقيق طرفي العملية الإبداعية، فالعملية الإبداعية فكر و فن و نزعة إنسانية و أخلاقية، و هي تحمل مزيدا من الرفض تمهيدا للهدم والمغايرة، لتأسيس أدب إنساني يرفع الإنسان راية و هدفا، و « إذا أراد الأدب العربي أن يدخل مجال العالمية فعليه (…) أن يشغل نفسه بكتابة أدب إنساني صادق مرتبط بهموم الإنسان في هذا الوطن، و ما يحيط به و ما تقع عليه عيناه من مظاهر الألم و الأمل » [16].


أمل دنقل أمل دنقل و تكتنز الأسطورة في بنيتها العميقة دلالات إنسانية و حضارية، استطاع الخطاب الشعري العربي المعاصر أن يكشف هذه الدلالات، بأعمق حالاتها الإنسانية و الوجدانية، و يشير بها إلى حالات إنسانية معاصرة، ف « الأسطورة ليست إلا تراثا بشريا يحمل تفسيرا خاصا لمعنى أو شعور بالذات عند شعب من الشعوب. و الأساطير تحمل بلا شك دلالات إنسانية لم تفقد قيمتها خلال التطور الحضاري. و لقد حاول الأدباء و الفنانون علاج الكثير من هذه الأساطير، و ذلك لتوضيح دلالتها أو تحميلها دلالات وتفسيرات جديدة تتفق مع روح العصر» [17].

الغاية من استخدام الأسطورة في الخطاب الشعري
من أهم سمات القصيدة العربية المعاصرة منذ بداية تشكلاتها الأولى، و انعطافها عن الشكل الشعري التقليدي الاعتماد المكثف على الرموز الأسطورية و التاريخية أنى اكتشفها الشاعر، و لذا فقد كانت أولى اهتمامات الشاعر المعاصر « خلق رموز أسطورية، سواء مستحدثة يلتقطها من الواقع، أو تاريخية يستمدها من التاريخ الثقافي. و العمل على جعل تلك الرموز تستقطب جميع مفاصل النص الشعري و حركاته و تصهرها في قالب وحدة متناغمة » [18].

و يعد توظيف الأسطورة في القصيدة المعاصرة رؤية ثقافية و فنية، تتكىء بدورها على مرجعيات ثقافية أخرى تاريخية و أسطورية. أي أنها ليست رؤية فردية، إنها في المحصلة وعي جمعي، يتشكل جماليا و فكريا لينهل من مرجعيات ثقافية متعددة المصادر و الأبعاد. إن « الشعر بناء لغوي يستمد ركائزه من أبنية الثقافة التي ينتمي إليها الشاعر، لكنه لا يخضع لها، بل يشكل بناء موازيا و معادلا لهذه الأبنية يعكس آليات إنتاج المعرفة لا لتثبيتها و إنما لكشف تناقضاتها» [19].

إن الوعي الفردي للشاعر بالقصيدة ليس آنيا، بتعبير آخر إن له مكونات تنهل من ثقافات فكرية متعددة، قد تكون قريبة الجذور و بعيدتها في آن. و من الصعب أن تدرس البنية الشعرية للخطاب الشعري المعاصر بعيدا عن مكونات هذه البنية، و هنا لا أدعو إلى أن يكون الشعر إسقاطا لمرحلة زمنية بعينها، و لحدث تاريخي بعينه، إن الشعر « يقدم بناء فنيا للمكان الزماني يعتمد على التشكيل المركب، الذي يتم وفق تفاعلاته الخاصة، و يؤدي إلى الخروج من دائرة الزمن المغلقة إلى نهايات مفتوحة تدفع الحركة مع القصيدة كي تتنامى و تستمر و تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تالية. و يتم هذا البناء بواسطة اللغة التي يعمل الشعراء على تخصيبها و بث حركية الإبداع في تراكيبها و من ثم تأكيد دور اللغة في تشكيل أبنية الوعي في الثقافة العربية المعاصرة الآن و في زمن يأتي » [20].

و الشعر هو حزمة ضوء مهمتها تجميع بؤر ضوء فرعية أخرى لتصبح رؤية شبه متكاملة و شمولية تجمع ما بين الفكر و الفن و الثقافة و التاريخ و الميثولوجيا و الرمز و الأسطورة، و الوعي بشتى أصنافه، و لا أعني بذلك أن تترهل القصيدة بالخطابات الإيديولوجية و العقائدية و الشعارات السياسية من جراء توظيفها لمختلف هذه المرجعيات بهدف إظهارها ضربا من ضروب الالتزام العقائدي، و بالتالي التأكيد على انتماء شاعرها للقضايا الكبرى، لأن « القضية في الشعر تختلف اختلافا كبيرا عنها في النثر. فلسنا نعني بقضية الشاعر تلك الدوائر المغلقة في عالم الالتزام حيث تتحول القصيدة إلى عقيدة، والمجموعة الشعرية إلى قانون للإيمان. إننا لا نطالب الشاعر المعاصر بما يمكن تسميته « وجهة النظر » التي تفيد الثبات و الاستقرار و التقولب و المحدودية، فالشعر أغنى الملكات الفنية بالحرية. و لذلك هو بعيد تماما عن قيود الإلزام و الالتزام» [21]..

و بالرغم من عدم مطالبتنا الشاعر بالالتزام بأية قيود تثبت وجهة النظر، فإن ذلك لا ينفي أن يكون من مهمة الرمز الأسطوري تعرية واقع الخيبة و السواد الذي يخيم على الذات العربية، و البحث في أغوار هذه الذات للدلالة و الإشارة إلى البؤر القاتمة التي لا تزال تنخر في مكونات هذه الذات، إذ إن هذا الرمز « يضطلع (…) بدور القادح. لذلك تنطلق منه جميع الحركات و تظل تعود إليه مازجة بين الذاتي و الموضوعي، معرية الواقع بكل مأساويته و ترديه. و يصبح صوت الشاعر ملتقى ذلك الحشد الهائل من الحركات يتدخل أحيانا ليسهم في دفعها نحو الذرى الدرامية التي تصبو إلى بلوغها ». [22].

إن استخدام الأسطورة يعني استحضار دلالاتها و طاقاتها الإنسانية و الجمالية، فالجمال و الفن و الدلالة الإنسانية بدلا من الإيديولوجيا أمور باتت مهمة لتأكيد جماليات الخطاب الشعري العربي المعاصر، و من هنا فإن مهمة القصيدة تتجلى في قدرتها على تخلصها من آنيتها و فرديتها و همها الداخلي، لتصبح في المحصلة الدفقة الشعورية و الإنسانية التي يحسها كل منا إزاء القصيدة، و ليس من مهمة القصيدة أيضا أن تشكل حالة شعورية واحدة لدى كل القراء، قد تكون متباينة و مهمتها أن تكون متباينة، لكن لا بد أن تكون قادرة على أن تثير فينا حسا بالجمال و المتعة. و تدفعنا إلى مزيد من تحريك طاقاتنا الفكرية و التخيلية، و الأسطورة ليست حادثة تاريخية، و لا تتركز قيمتها في كونها رؤية تاريخية، بل في قدرتها على أن تكون فنا و جمالا، و رؤية إبداعية، و إن من يوظفها لا بد أن يراعي فيها هذا الجانب الفني و الجمالي، أي تحديدا أن يكشف عن طاقاتها الجمالية و الموسيقية، مع مراعاة جانبها الغنائي. و نأخذ نموذجا لهذا الجانب قصيدة الشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر (الملكة و المتسول)، عندما يوظف أسطورة جلجامش مشيرا إلى إغراءات عشتروت لإيقاع جلجامش في حبها، تقول القصيدة:

« ذق دلالي فهو كالشهد لذيذ

… و تنزه عبر حقل مورق أو رابية.

ذق دلالي فهو كالشهد لذيذ

اقترب منه .. اقترب مثل رداء

ثمري كالشهد حلو و جميل

ضم كفيك عليه كرداء

ثمري كالشهد حلو و جميل.

آه مولاي اقترب فهو لذيذ

و شهي كرضاب الشفتين »

و لقد أفادت القصيدة العربية المعاصرة من هذا الجانب الغنائي و نوعت في تشكيلاته، « إن الناظر في طرائق تشكيل القصيدة المعاصرة، و لو نظرة سريعة، يلاحظ أنها تريد أن تفتح لها دربا بين الملحمة و الأسطورة و القصيدة الغنائية بشكلها المتعارف، صحيح أن الملحمة قصيدة طويلة تتسع لتشمل أفعال أبطال عديدين. و الأسطورة هي، بشكل من الأشكال نبوءة. و لكنهما تلتقيان و تتشابهان ». [23].

و الأسطورة كانت في العهود القديمة ذات طابع ملحمي و غنائي. فعلى سبيل المثال يلاحظ أن الطقوس الأسطورية التي كانت تمارس أمام الآلهة كانت تأخذ شكلا غنائيا جماليا مشفوعا بالرقص، و نورد النص الآتي الذي كان يغنى مرافقا للرقص أمام زيوس الإله الإغريقي:

« مرحى - حييت يا أعظم الشباب يا بن كرونوس _

يا سيد القوى و النور

جئت على رأس أرواحك

سر إلى « دكة » للعالم و افرح بالرقص و الغناء

و نغني و نحن واقفون عند مذبحك الحصين » [24].. و لقد ظهرت هذه الرؤية الجمالية في كثير من القصائد الشعرية الحديثة و المعاصرة التي وظفت الأساطير و الرموز التاريخية. و أشير إلى نموذج آخر وظف الرمز التاريخي، و هو المقطع الآتي من قصيدة « الخروج الأخير لرأس الحسين بن فاطمة » للشاعر المعاصر ابراهيم عباس ياسين، مستفيدا من قول الحسين بن علي: « إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما و إنما خرجت في طلب الإصلاح في أمة جدي ». تقول القصيدة:

و أمضي، في دروب التيه أمضي كانت الصحراء

كتابا من جنون الشمس مشتعلا، و كان الماء ..

يراودني على ظمأ، و في الأعماق كنت أحس قلبي بلقعا قفرا

تعاودني رسائلهم ..

فيورق في انكسار القلب زهر وعودهم جمرا



و ماذا بعد ؟ أدري أنني وحدي،

و آل البيت و الأنصار

نعود اليوم في صمت الزمان الرخو

رهن خديعة الأشرار

كأني الآن - ينبئني حديث القلب - مقتول

و تشهد هذه الكثبان

و أوصالي مقطعة تناهبها عصائب من طيور الليل و الغربان

تدوس الخيل فوق وجوه أصحابي

و تسكت جوعها الذؤبان

و يفني عمره التاريخ في الثارات و الغارات ..

تنهبه أيادي الحقد ».».( [25]. إلا أن أهم قضية يجب مراعاتها حينما يتعامل الشاعر مع الفكر الأسطوري - أو ربما الأدب بجميع أجناسه - هي قضية الرؤية و الموقف بالنسبة للزمان و المكان، ذلك أن خلود الأساطير و قدرتها على أن تشكل موقفا رؤيويا و جماليا هي في قدرتها على تغييب الزمان و المكان و إلغائهما، بحيث يبدو زمان الأسطورة هو كل الأزمنة، و مكانها كل الأمكنة، إنه زمان يصعب تحديده، وهو متنام و شمولي، و مكان أهم سماته أنه لا يتحدد بمواصفات المكان، فهو خارج عن سمات المكان و ملامحه، إنه مكان يجمع فضاءات كل الأمكنة التاريخية، يمتد و يتسع بدوره ليشمل أزمنة لا محدودة من الماضي و الحاضر و المستقبل و المتخيل، و المرئي، و اللامرئي. فالذات الشاعرة « التي تمر بسلسلة التحولات، و تستقطب عناصر كونية و مكانية، كما تستقطب الزمن بأبعاده الفعلية و المجازية و الأسطورية تخضع هذا كله للتشكيل و إعادة التشكيل، على نحو يؤدي إلى أن يكون المكان الزماني في القصيدة بناء فنيا موازيا و معادلا ليس للمكان الضائع وحده و إنما للكون » [26]. .

إن ما يكسب الفكر الأسطوري سمته على الخلود قدرته على أن يلغي التحديد الزماني و المكاني، أي تحديدا قدرته على أن يشكل بعدا دالا إنسانيا. و هذه الدلالة الإنسانية إنما تنفلت عن بنية الزمان و المكان لتصبح حضورا دائما، ف « الأسطورة نتاج جماعي. و نحن لا نعرف لأي أسطورة مؤلفا واحدا. ذلك أن وراء كل أسطورة رؤية شعب كامل، حاول أن يدرك المجهول و يفسره ليصل إلى القوانين الكلية التي تدير الكون، و يمسك بالحقيقة لحظة انبثاقها و توهجها. معنى هذا أنها ليست نشاطا عقليا بل هي نبوءة، نبوءة الإنسان الأول. غير أن النبوءة لا تتحقق كرسالة تمارس فعلها في التاريخ إلا متى أفلتت من شرط الزمن، عندها فقط لا يدركها البلى، و هذا ما حققته الأساطير و ما تصبو إليه القصيدة الجديدة» [27]

و يستفيد الشاعر المصري أمل دنقل، من المغزى الأسطوري لدلالات المكان القديم « إرم ذات العماد » و يحوره و يسقطه على الواقع المعاصر، إذ يوظفه ليصبح مكانا متناميا و شموليا يضم الفضاءات العربية المهزومة و الضائعة، و المستكينة سكونا يصل حد الموت،و الغارقة بالطنين و الخواء، يقول في قصيدته « الهجرة إلى الداخل »، من ديوانه « تعليق على ما حدث »:

« أصيح: يا بساط البلد المهزوم ..

لا تنسحب من تحت أقدامي .. فتسقط الأشياء ..

من رفها الساكن في خزانة التاريخ،

تسقط المسميات و الأسماء !

أصرخ .. ليس يصل الصوت

أصرخ .. لا يجيب إلا عرق التربة و السكون و الموت

و يستدير حول رأسي الطنين،

و يدوم الهواء

أسقط واقفا .. و خائفا



أبكي إلى أن يستدير الدمع في الحفرة

أبكي .. إلى أن تهدأ الثورة

أبكي إلى أن ترسخ الحروف في ذاكرة التراب

أعود ضالا ..

أتبع الأسلاك، و الدم الركام،

و الدم المنساب

أبحث عن مدينتي التي هجرتها

فلا أراها !

أبحث عن مدينتي: يا إرم العماد يا إرم العماد

يا بلد الأوغاد و الأمجاد

ردي إلي: صفحة الكتاب و قدح القهوة .. و اضطجاعتي الحميمة

فيرجع الصدى .. كأنه أسطوانة قديمة:

يا إرم العماد يا إرم العماد »( [28] ) . والسؤال الذي يمكن طرحه في هذه الدراسة: كيف يفسر الشعراء و النقاد استخدام الأسطورة و التراث في الشعر و الفن ؟. و نجيب على هذا السؤال من خلال آراء الشعراء و النقاد أنفسهم.

يقول الشاعر عبد الوهاب البياتي [29]: « لقد حاولت أن أوفق بين ما يموت، و ما لا يموت، بين المتناهي واللا متناهي، بين الحاضر و تجاوز الحاضر، و تطلب هذا مني معاناة طويلة في البحث عن الأقنعة الفنية، و لقد وجدت هذه الأقنعة في التاريخ و الرمز و الأسطورة».

إذا كان شاعر مرموق من شعراء العربية كعبد الوهاب البياتي يرى في استخدام الأسطورة مظهرا إيجابيا، لأنها دفعته لأن يكتشف الأقنعة الفنية، باتكائه على التاريخ و الرمز و الأسطورة، فإن باحثا و ناقدا معروفا، و هو ارنست فيشر، يرى أن استخدامها بخاصة في المجتمعات البرجوازية ما هو إلا دليل يتمظهر في السلبية و العجز عن إيجاد لغة مشتركة بين الذات و العالم، بين الوعي الفردي و الوعي الجمعي، و ذلك نتيجة شعور الفرد بالغربة و الاستلاب Alienation، فلجوء الأديب إلى الغموض و التعمية و الأساطير هو نتيجة لشعوره بالغربة و التشيؤ، و يبدو اللجوء إلى الأسطورة مظهرا سلبيا، أو تعبيرا عن حياد مفتعل، أو عجزا عن المشاركة في إيجاد حلول لمشكلات الإنسانية التي فرزها النظام البورجوازي، يقول بهذا الصدد: « إن هذا الاتجاه هو قبل كل شيء نتيجة الاستلاب، فالعالم البورجوازي المصنع و المشيأ، قد أصبح جد غريب بالنسبة لسكانه (…) إن نزعة التعمية و فبركة الأساطير تخلق وسيلة لتجنب كل قرار اجتماعي و تجد تبريرا لذلك» [30].

لا يمكننا أن ننكر دور الأساطير باعتبارها مظهرا ثقافيا و إنسانيا قادرا على مساعدتنا لاكتشاف ذواتنا، و ذوات الآخرين، و بوساطتهاا يمكن إلقاء مزيد من الضوء على الحضارات القديمة، باعتبارها أي الأسطورة تمثل قاعدة للدرس الأنثروبولوجي، و الأثنوجرافي، فلقد قدمت فوائد جلة للمهتمين بأنثروبولوجيا الشعوب، و « ليس بكثير أن تكون إذن الأسطورة هي الصياغة الأولى للتاريخ و الجغرافيا و الاجتماع. و حق من هنا لاسترابون أن يقول عن هوميروس إنه لم يختلق عندما تحدث عن أبطاله و بيئاتهم» [31].

و بقدر ما نكتشف في الأسطورة جوهرها الحي و الإنساني و قيمتها الدلالية، بقدر ما تساعدنا على تكوين الحس الاجتماعي و التاريخي، و تدفعنا لاتخاذ مواقف تجاه المشكلات الاجتماعية الخانقة التي نعايشها في عالم الاستلاب و السلعة.

و تعد الأسطورة في مسرح « برتولد بريخت » أداة لتحفيز الفرد لأن يتخذ موقفا في مواجهة مشكلات الواقع، و من ثم يتخطاها و يخلق بديلا إنسانيا منها، يقول بريخت [32]:

« إن مسرحنا يجب أن ينمي رعشة الفهم و أن يدرب الناس على متعة تغيير الواقع. فلا يكفي جمهورنا أن يعرف كيف تحرر بروميثيوس فقط، بل عليه أن يتدرب على اللذة في تحريره، يجب علينا في مسرحنا أن نعلمه كيف يشعر بكل الفرحة و الغبطة اللتين يشعر بهما المخترع و المكتشف، و بكل النصر الذي يشعر به المحرر ». و الأسطورة عند صلاح عبد الصبور يجب أن تتخطى البعد الظاهري لها، لتصل إلى بعد ذي رؤية إنسانية جوهرية، حيث تستمد هذه الرؤية مكوناتها من المادة التاريخية، و بكل ما تحمله هذه المادة من إمكانيات إنسانية، يقول [33] : « و قد تكشف لشعرائنا العرب عالم الأساطير الغني إثر قراءة بعضهم لنماذج من الشعر الأوروبي الحديث. فدأبوا على محاكاتها و في ظني أن هذا المنهج ناقص. إذ أن الدافع إلى استعمال الأسطورة في الشعر ليس هو مجرد معرفتها، و لكنه محاولة إعطاء القصيدة عمقا أكثر من عمقها الظاهر، و نقل التجربة من مستواها الشخصي الذاتي إلى مستوى إنساني جوهري. أو هو بالأحرى حفر القصيدة في التاريخ، و بهذا المعنى فمن حقنا أن لا نستعمل الأسطورة فحسب، بل كل المادة التاريخية المتاحة لنا، من أساطير و قصص دينية و شعبية، و أحداث حقيقية مؤثرة في حياة الإنسان. و قصر القضية عندئذ على الأسطورة قصر تعسفي، يغفل الغاية، و يهتم بالظواهر الساذجة ».

و يرى صلاح عبد الصبور [34]: « أن الحاجة إلى استعمال الأساطير قد نبعت بتأثير النزعة الجديدة إلى تجلية علوم الإنسان كعلوم الانتروبولوجيا و الاثنولوجيا و النفس، فقد كان العلم يرى في هذه الاهتمامات حتى عهد قريب مجموعة من المواد المبعثرة لا تستطيع أن ترقى إلى مستوى العلم. فما شأن العلم بالسحر أو بعادات القبائل المتخلفة أو بطقوس الأديان البدائية أو بغيرها من مخلفات الإنسانية المضطربة في صورها و معانيها ؟ . و لكن البحث حين اتجه إلى الإنسان رأى في هذه المواد المبعثرة كنوزا من التجربة و المعرفة، فحاول أن ينسقها في علوم استدلالية، محاولا أن يعرف الإنسان عن طريقها، بعد أن فشل في معرفة الإنسان عن طريق العلوم التجريبية الحديثة. ».

أما الشاعر بدر شاكر السياب فيفسر استخدام الشاعر الحديث للأسطورة بانعدام القيم الشعرية في حياتنا المعاصرة، لغلبة المادة على الروح، يقول [35]: « لم تكن الحاجة إلى الرمز، إلى الأسطورة، أمس مما هي اليوم، فنحن نعيش في عالم لا شعر فيه، أعني أن القيم التي تسوده قيم لا شعرية، و الكلمة العليا فيه للمادة لا للروح. و راحت الأشياء التي كان في وسع الشاعر أن يقولها، أن يحولها إلى جزء من نفسه، تتحطم واحدا فواحدا، و تنسحب إلى هامش الحياة. إذن فالتعبير المباشر عن اللا شعر، لن يكون شعرا، فماذا يفعل الشاعر إذن ؟ عاد إلى الأساطير، إلى الخرافات، التي ما تزال تحتفظ بحرارتها لأنها ليست جزءا من هذا العالم، عاد إليها ليستعملها رموزا، و ليبني منها عوالم يتحدى بها منطق الذهب و الحديد، كما أنه راح من جهة أخرى، يخلق له أساطير جديدة، و إن كانت محاولاته في خلق هذا النوع من الأساطير قليلة حتى الآن».

و يستخدم الشاعر سعدي يوسف القيم الفنية التراثية استخداما جديدا مرتبطا بالعصر، يقول في رسالة كتبها عام 1978 إلى الشاعر عبد الوهاب البياتي( [36]):


أنسي الحاج أنسي الحاج « أعتبر التراث، الجذر الذي نحرص على عدم انقطاعه. لكن نظرتي إلى التراث لا تنفصل عن موقف نقدي. كانت علاقتي مع ديوان الشعر العربي علاقة دهشة دائمة. و من هذه الدهشة التقطت الكثير من قاموسي الشعري. و اليوم أحتفظ بشيء من تلك الدهشة الأولى، إلا أنني أجدني في كثير من الأحيان مراقبا أكثر مني معجبا. أنا أستعمل قيما فنية تراثية استعمالا جديدا مرتبطا بالعصر. فالتضاد الشكلي الذي يتضح في « المطابقة » يمكن أن يتطور إلى تضاد « جدلي ». كما أن عنصر التشبيه التمثيلي يمكن أن يتطور بالصورة. و عنصر الإيقاع يمكن أن يكون جزءا من هارموني حديثة. (إن) أهمية القصيدة أن تنجح في تخليد لحظة إنسانية، أو موقف إنساني، أو صورة إنسانية. ثم نهب هذه اللحظة، أو الموقف أو الصورة صفة الشمول».

ويدعو الشاعر أنسي الحاج [37] إلى قطيعة مع التراث و الماضي، و يسمي عودة الشاعر المعاصر إلى الماضي بالجاهلية المعاصرة في الشعر، يقول: « الجاهلية المعاصرة في الشعر، هي مثول الشاعر، إحساسا و تعبيرا في الماضي، و هذا المثول لا ينفك يتواصل عبر شعراء اليوم، و كأن شيئا لم يحدث في العالم و في عالمهم و في إنسانيتهم. يمكننا أن نسميه منتهى الإفلاس و لكن الأصوب أن نسميه منتهى الولاء إذ يبدو أنه من صميم المبادئ الجاهلية ذلك الانشداد إلى الخلف، ذلك الانشداد البطولي حقا ». و يرفض أن يكون للشعر العربي المعاصر أية علاقة مع العصور الشعرية التي سبقته: « لا علاقة لنا بالشعر الجاهلي - الأموي - العباسي، الرجعي المعاصر، … لأننا شاهدو حياة مختلفة مستقلة، تطلب شعرا عربيا من نوع آخر » [38]

أما الشاعر عبد العزيز المقالح [39]، فإنه يفسر استخدامه للرمز الأسطوري في أحد دواوينه الشعرية، بأنه تجسيد لظاهرة الحزن التي هي خبز الإنسان اليومي في طفولته و صباه و شبابه. يقول: « أما في الديوان الثالث، « رسالة إلى سيف بن ذي يزن » فقد بدا لي الشعر و كأنه صوت الحزن النابت في ضلوع البشر، فكانت قصائده صدى لذلك الصوت الغائر في الأعماق، و الصلاة اليومية التي نؤديها في بيوتنا فرادى و جماعات، و الوجبة التي لا تنقطع و لا تتأخر (و من خلال سيف بن ذي يزن) الرمز و القناع قدمت في هذا الديوان أطيافا من حزن جيلنا، فالحزن كان طفولتنا و صبانا و شبابنا و ما يزال ».

و يعلل الشاعر أمل دنقل [40] استخدامه للرمز التراثي، في مرحلته الشعرية الثالثة باكتشافه لظاهرة الاعتقال السياسي. يقول: « المرحلة الثالثة كانت بحضوري للقاهرة من سنة 1961 - 1960 حين اكتشفت أن هناك شيئا اسمه الاعتقال السياسي، و أن الكتاب و الشعراء ممكن أن يدخلوا السجون. و لم يكن ممكنا التعبير عن هذه الصدمة بالمباشرة التي كنت أكتب بها عن الظواهر الاجتماعية الأخرى. من هنا اهتديت إلى ضرورة الرمز». هذا و قد كانت بدايات تجربته الشعرية الأولى مع الرموز الفرعونية، و لكنه سيتخلى عنها في ما بعد، لأن استيعابها ينحصر في دائرة المثقفين. يقول( [41]): « إنني اتجهت أول ما اتجهت إلى الرموز الفرعونية، فاستخدمت اخناتون كثائر، و كهنة آمون كممثلين للسلفية، كما لجأت أيضا إلى القصص الفرعونية القديمة في قصة الأخوين، و قصة سنوحي. لكنني أحسست أن هذه الرموز لا يمكن إيصالها إلا في دوائر المثقفين فقط. و من هنا بدأ نوع من القطيعة بيني و بين الرمز».

و في مرحلة تالية يهتدي الشاعر أمل دنقل إلى الرموز العربية، باعتبارها طريقا حقيقيا لاكتشاف الذات: « إنني اهتديت إلى استخدام الرموز العربية، و لم أكن سباقا في هذا المجال، لكنني ارتأيت أن هذا هو الطريق الحقيقي لاكتشاف الذات، و التواصل مع الآخرين »( [42].) .


جلجامش جلجامش ويرى الشاعر بلند الحيدري [43] أن الرموز التراثية الإنسانية هي أدواته الفنية في التعبير المعاصر، و أن التراث يرسخ قويا في تجربته الشعرية، يقول عن هذه الرموز: « هذه إحدى أدواتي الفنية في التعبير المعاصر، و بمحاولة لقلب المفهوم المألوف، فإذا كانت عبارة « العدل أساس الملك » بمثابة مفهوم اجتماعي سائد، في الشعار فقط، فإني أعكس هذا الشعار، بأن أجعل الملك أساس العدل، بمفهوم أن القوي يخلق قوانينه (…) أنا أؤمن بأن التراث جزء مني، و ليس شيئا طارئا علي. فكل ما بقي من التراث بقي بقوة ما يمكن أن ينمو و يتكامل مع التطور. فزمن المتنبي هو زمن كل العصور. (…) فالتراث هو أنا، بدمي، بطبيعتي، بانفعالي، بحساسيتي أمام الإيقاع الحياتي، و لا يمكن أن أنسلخ من هذا التراث الموجود في أصلا. و لكني رأيت أن التجربة الشعرية الناجحة لا بد أن تقوم على ثلاثية أساسية، لا غنى لواحدة عن الأخريين، وهي: التراث، و المعاصرة، و الواقع المحلي. و لا يمكن لأي عمل إبداعي أن يحقق وجوده إلا بهذه الثلاثية .».

و يفسر أحد الباحثين المعاصرين استخدام الخطاب الشعري المعاصر للأسطورة بأنه تعبير عن رفض قوانين المجتمع بما فيها من قهر تمهيدا لتشكيل صياغة جديدة لهذا المجتمع بقوله: « إن استخدام الشاعر المعاصر للأساطير يهدف إلى تحقيق غايات عديدة، إذ يطمح فيها إلى تحقيق ذاتيته المكبوتة، و إلى التصريح بتبرمه في أخطر القضايا و تقديم البديل لعالم اليوم المتناقض، و إلى رفض قوانين القهر و الصراع و كشف ما يخفيه في نفسه من انكسارات حضارية راهنة، مستعينا في ذلك كله بالرموز الفنية التي تجعل التجربة الشعرية حية، تؤثر في المتلقي فتخرجه من قهر قناعاته إلى تأمل جديد، يحاول مع الشاعر إعادة تشكيل العالم الأفضل »( [44]. ).
و يعتقد الناقد غالي شكري( [45]): « أن حركة الشعر الحديث في استخدامها الأسطورة كانت تعبيرا حضاريا شاملا عن الاحتياجات الروحية و الجمالية العميقة الجذور في النفس العربية المعاصرة، و هي محاولة قد تأثرت بلا ريب بجهود شعراء الغرب، و لكنها لم تتوقف قط عند أعتابهم. بل أدركت أن التكوين التاريخي للإنسان العربي أكثر استعدادا لاجترار تراثه الأسطوري الذي سبقنا الغرب إلى الإفادة منه ».

إن التكوين التاريخي للإنسان العربي على مر العصور و الأجيال سواء على المستوى الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي، أم النفسي، و الفكري، هو تكوين قمعي و استلابي، و قد ظل هذا الإنسان طيلة هذه العصور يبحث عن نجمة مضيئة و أفق مشرق، و عندما كان يخيل إليه أنه وجد هذه النجمة في رموز الثورات الوطنية و التحررية فإنه سرعان ما فجع بهذه الرموز عندما اكتشف أنها سلبته أمانيه، و لم تقدم له شيئا، إلا مزيدا من الفقر و الاستلاب و البطالة و الشعارات الزائفة التي ظلت ترددها حتى وصلت إلى مقاليد الحكم، و عندما وصلت تحولت هذه الشعارات إلى فقاعات جوفاء، تردد في كل حين، فتغرب المواطن عن هذه الرموز و أصابته جميع صنوف الخيبة و الإحباط، و أمام ذلك لجأ إلى الحلم و التخيل، لجأ إلى إعادة تشكيل العالم، تشكيلا رمزيا و جماليا، ينهل من التاريخ و الأسطورة و من كل الرموز الوطنية و الإنسانية التي ظلت تحتفظ بنقائها الثوري و الإنساني طيلة هذه العصور.

ويرى د.أحمد عثمان [46] أن الشعراء المعاصرين يلجؤون إلى استخدام الأسطورة لأنها مكمن للصور الشعرية، فيقول: « و في الأسطورة أيضا تكمن صور شعرية موسومة بآلاف الخبرات. و بكل الألوان و الاتجاهات، لأنها من صنع الناس، و لأن كل عصر يضيف إليها شيئا يتواءم مع تفكيره و حسه ».

و يلخص د.أنس داود [47] الغاية من استخدام الرموز الأسطورية، في القصيدة الشعرية بما يلي:

1 ما وجده شعراؤنا من حاجة الشعر العربي إلى الخروج عن دائرة الغنائية الذاتية التي عاش فيها في إنتاج الشعراء الرومانتيكيين من المهجر و أبوللو، و الدخول به إلى دائرة الأعمال الموضوعية التي لها وجودها المستقل، نشدانا لتحقيق ما دعا إليه اليوت من إيجاد معادل موضوعي للمشاعر و الأفكار.

2 الخروج من دائرة التلقي للعالم، و الانفعال به إلى دائرة النظر فيه و تعقله.

3 تحقيق الإحساس بوحدة الوجود الإنساني حيث يجدون في الأساطير الماضية تعبيرا عن الحاضر المعاش .

4 الاقتصاد في لغة الشعر .. بتركيز التعبير و تكثيف الدلالة.

5 التعبير عن بعض المضامين بصورة غيرية حتى لا تثير السلطات السياسية والاجتماعية.

بالإضافة إلى ذلك يمكن القول إن الأسطورة هي رؤية جمالية، تعتمد على الصورة الشعرية التي تحاول رصد التاريخ و الرمز الأسطوري في تشعب دلالاته، و من ثم هي صياغة بديل جديد لتاريخ جديد، مهمته أن يتباين مع وضع تاريخي سابق ليتجاوزه و يدل عليه في آن.

و قبل أن تكون الأسطورة اقتصادا في لغة الشعر، فإنها بنية مضمونية مكثفة الدلالة، و ما يعطي الأسطورة قدرتها على الاقتصاد اللغوي الفنيات الجمالية التي توظف بها، بالإضافة إلى طاقاتها الرمزية و قدرتها على تجاوز السياق التاريخي الذي وضعت فيه، لتخلق بذاتها سياقا تاريخيا جديدا، و مع ذلك فإن محاولة خلق الأسطورة و تشكيلها و الإفادة من إسقاطاتها التاريخية، لا يعني نفي العلاقة الجدلية بين نسق الواقع و نسق التاريخ. إن تغريب الواقع و امتلاك القدرة على تغريبه و أسطرته هو محاولة جديدة لإيجاد نظام من العلاقات البنائية المتشابكة داخل بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، فحتى الحديث اليومي المألوف يمكن أن يكون بعيد الإيحاء، و يمكن أن يؤسطر و يرمز، ليكون مشبعا بالدلالات ذات الأحلام و الرغبات و المطامح التي يمكن استشرافها حاضرا و مستقبلا.
إن « محاولة أسطرة الواقع أو ترميزه إنما هي تعبير عن صبوة لتقديم هذا الواقع باعتباره رؤيا مركبة و ليست رؤية بسيطة» [48] و حينما يؤسطر الواقع ليصبح حلما و تخيلا Imagination تنفلت القصيدة من أهم عيوبها، أقصد خطابها التقريري و المباشر و الإيديولوجي.

و نلاحظ أن التركيب البنائي و الجمالي للرؤية الشعرية العميقة تحول اللا أسطورة إلى أسطورة، بحيث يصبح الواقع مجموعة من الرؤى الرمزية ذات الشفافية، و العميقة الدلالة، و البعيدة الغور الضاربة جذورها في أعماق التاريخ البشري بسحره و غرائبيته. و « حسب مصطلح الدلالة (…) ليست الأسطورة سوى العالم ذاته باعتباره حقل نشاط، مع عدم نسياننا المبدأ القائل إن دلالة (أو نموذج) الشعر عبارة عن بنية من الخيال مع شمولات إدراكية، و هو عالم رؤيوي (…) إنه عالم من الاستعارة الشاملة، فيها يتوحد كل شيء بكل شيء آخر، كما لو أن الكل محشور داخل جسد واحد محدود» [49]. و داخل هذا العالم الرؤيوي يختلط الواقعي بالمتخيل. و اللا أسطوري بالأسطوري، و يستحيل الفصل بينهما، و تولد الصورة الشعرية ذات التداعيات الأسطورية التي تغي‍ر نظام الواقع و تشكل بديلا جديدا منه موشى بشفافية الحلم، و طاقة التخيل على الإبداع ذي الرؤية العميقة، و سنأخذ على سبيل المثال نموذجا لهذه الرؤية العميقة مقطعا شعريا للشاعر العراقي حسب الشيخ جعفر:

« صحت: أيا سعاد

صحت: أيا غانية يلفها السواد

أومأت لي أن افتح الباب، و أن أغوص.

في ظلمة البئر، و أن أطرد منه الجن و اللصوص

فخلف أي باب.

مضمخ بالطيب و الحناء من أبوابك الثلاثة الثقيلة.

يلتمع البئر كعينيك المخيفتين في مرآتك الصقيلة !

في بابك الأول تبني عشها يمامة مطوقة







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق